قصر النظر أم تقصير في النظر؟ الموازنة العامة لعام 2002....

بعد أن أقر مجلس الشعب في جلسته المنعقدة بتاريخ 29/11/2001 الميزانية العامة للدولة لعام 2002 وأصدر السيد الرئيس القانون رقم 68 المتضمن اعتماد هذه الموازنة التي بلغ إجمالي اعتماداتها (356389) مليار ليرة سورية بزيادة قدرها 10.68% عن عام 2001، وإذا عدنا إلى التعريف النظري للموازنة كما جاء في القانون المالي الأساسي للدولة في سورية فهي "الخطة المالية الأساسية السنوية لتقدير الخطة الاقتصادية وذلك بما يحقق أهداف هذه الخطة ويتفق مع بنيانها العام والتفصيلي"

احتمالات الانحراف في وزارة المالية..
ما دامت الموازنة تتبع لمفهوم (الخطة) فلابد من وضع أسس صحيحة وسليمة للتنبؤ بمدى فعاليتها وذلك يتمثل بشكل أساسي في الانفاقات والإيرادات الفعلية المحققة خلال المرحلة السابقة لوضع الخطة، فكلما كانت المسافة الزمنية أبعد كان الجهد المبذول أكبر، والنتائج المستخرجة أقل دقة فعند وضع الموازنة التقديرية لا بد من الاعتماد على الأرقام الفعلية أو مايسمى بـ "قطع الحسابات" للسنوات السابقة، وإذا كان مجلس الشعب لم ينته من التصديق قطع الحسابات العامة لعام 1998 إلا قبل أيام قليلة من دخول مشروع الموازنة العامة التقديرية  لعام 2002 قيد العمل فإننا سنجد فارقاً زمنياً بين الأرقام الحقيقية (قطع الحسابات الوقت الأمثل والسنة المثلى لوضع خطة عام 2002) هو سنتان في الوقت الذي يفترض فيه اعتماد أرقام حقيقية لنصف السنة الأولى من عام 2001 لكي تكون الأرقام التقديرية لعام 2002 أكثر دقة ومصداقية وذلك ضمن الإمكانات المتاحة لمناقشتها ضمن مجلس الشعب..

الألية المستخدمة في وزارة المالية
فإذا علمنا أن الموازنة العامة لعام 2002 صادرة من أدراج وزرة المالية قبل المصادقة النهائية على أرقام قطع الحسابات النهائية لعام 1998 أي أنها وباحتمال كبير موضوعة على أساس الأرقام النهائية لعام 1997 فإن الفارق الزمني يكون قد زاد سنة كاملة وبالتالي زاد احتمال الانحرا ف والخطأ المعياري لخطة الموازنة العامة لعام 2002…
وإذا كانت الإجابة على ماسبق تكمن في أن قطع الحسابات لأعوام قريبة قد أنجزت ربما عام 1999 أو 2000 فالسؤال الذي يطرح نفسه:
ماالسبب الكامن وراء عدم عرضها على السلطة التشريعية وحصرها بجزء محدد من السلطة التنفيذية وذلك إن لم نقل: لماذا لا تعرض على عامة الباحثين الاختصاصيين ـ على كثرتهم ـ والذين هم بأمس الحاجة إلى هذه الأرقام لتقدمة دراسات علمية منطقية.

 الرواتب غير كافية:
بالنسبة للرواتب والأجور، إذا كانت خطة الحكومة التي أشار إليها الكثير من المسؤولين في السابق تتمثل في زيادة الرواتب خلال فترة زمنية محددة "بالطبع لا نعتقد أنها طويلة" لتصل إلى 100% من الأجر الحالي، وإذا علمنا أنه في بداية عام 2002 سيحصل أغلب العاملين في الدولة على ترفيعة قدرها حوالي الدرجة وسطياً وتعادل بالنسبة للدرجة الكاملة 9% من الأجر المقطوع، يبقى السؤال:
هل تكفي الزيادة المقدرة بـ3.486 مليار ليرة سورية لتحقيق ما سبق بالإضافة إلى رواتب جديدة لفرص عمل مخلوقة حديثاً تعادل 27567 فرصة عمل خلال العام 2002 في القطاع الإداري؟!!

وزارة المالية وقطاع الدولة:
من الناحية القانونية فإن القطاع العام الاقتصادي له الاستقلالية المالية والإدارية ويرتبط مع الموازنة العامة بمبدأ "الصوافي" (والصوافي تعريفاً هي صافي العملية الإنتاجية ربحاً أو خسارة) أي أن القطاع العام الاقتصادي يرتبط بالموازنة العامة بصافي أعماله في نهاية السنة.
أما عملياً فالموازنة ممثلة بوزارة المالية تسحب منه ما يسمى فائض الموازنة الذي يمثل نتيجة أعماله إضافة إلى فائض السيولة الذي يتكون من مخصصات الاستهلاكات والمؤونات أولاً بأول ويدخل ضمن فائض السيولة ذاك الاحتياطات الإجبارية والخاصة لدى المصارف، حيث تورد إلى صندوق الدين العام على شكل اكتتاب بإسناد الدين العام. وإذا احتاج القطاع العام لتسديد احتياجاته من استهلاكات ومؤونات فإنه يحصل عليها من صندوق الدين  العام على شكل قرض بفائدة سنوية بمعدل 9% سنوياً..
علماً أن هذه الأموال يجب أن تبقى ضمن المنشأة العامة ليتم  استثمارها ذاتياً في التجديد والاستبدال حيث ينص القانون الذي تضرب به وزارة المالية عرض الحائط على التالي:"الارتباط بالصوافي والاستقلالية المالية" وبالتالي أدت هذه السحوبات من المنشآت العامة إلى عجز الأخيرة عن تلبية أبسط مستلزماتها في الوقت المناسب كالصيانة  والتجديد والمستلزمات اليومية وتزايد هذا المسحوب الإجمالي الفائض (فائض السيولة وفائض المؤونة) من 12.5 مليار ل.س عام 1990 إلى 66.8 مليار ل.س عام 2001 ومن ثم إلى 67.6 مليار ل.س عام 2002 وكأن القطاع العام في تحسن مستمر وليس بحاجة إلى الإصلاح ولا يملك القدرة الذاتية على إدارة موارده بنفسه…

ارتفاع الضرائب والرسوم وهبوط مستوى المعيشة..
13.46 زيادة في الضرائب والرسوم … هل هذه الزيادة منطقية علماً أن حالة الكساد لا زالت تسيطر على الاقتصاد الوطني وهل نعتبر ذلك توقعاً لتحسن في الوضع الاقتصادي؟ أليس من الحق أن نسأل من أين أتى ذلك التوقع؟ وما هي مقوماته على الأقل وفق خطة الحكومة؟
ـ هل هناك رغبة في التوسع النقدي من خلال  زيادة التسليفات المصرفية؟ أم هنالك إصلاحات هيكلية سنجني ثمارها في العام القادم؟

هل ستتغير السياسة المالية والنقدية للحكومة في الفترة المقبلة؟
قراءة الموازنة لعام 2002 لا تشير إلى ذلك والمعادلة تقول أن زيادة الإيراد الضريبي لن تؤدي إلى شيء سوى لزيادة الكساد، وزيادة الإعفاءات سنة بعد سنة للمشاريع الاستثمارية.
وقد نتفق مع الزيادة الأخيرة من حيث المبدأ، إلا إذا كانت وسيلة للمتنفذين  وأصحاب رؤوس الأموال ليقوموا بالتهرب الضريبي  الذي يجعلهم لا يدفعون شيئاً يذكر لوزارة المالية أما "ذوي الدخل المحدود" فيحاسبون على القرش!
ذلك إذا لم نقل أن أصحاب المهن الحرة الصغيرة والمحلات البسيطة يدفعون أكثر مما يكلفهم القانون به..وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على التقدير العشوائي للضرائب في سورية مما حدا بوزارة المالية بالضغط على مراقبي الدخول لزيادة تقديراتهم وتكليف من هم غير قادرين على العيش بالقيام بتسديد ضرائب مثل الضرائب غير المباشرة على بعض الأماكن المستكشفة في بعض مناطق المخالفات الجماعية والتي كانت طوال عشرات السنين خفية على وزارة المالية!!

سوء تخطيط وسوء تقدير…

يأتي التحصيل الضريبي الفعلي سنوياً أكبر من التقديري ويصل في أحيان كثيرة إلى 100% فهل هذا دليل تخطيط سليم أم دليل على جباية فعالة؟! وكيف يكرر تقدير الضرائب بأقل من الحقيقة لعقد من الزمن؟
ومع تحصيل أكثر من 90% من التراكم الضريبي للسنوات السابقة على حد تعبير وزير المالية سنكون أمام تقدير ضريبي لعام 2002 سيتم تحصيله من أعمال 2002 وسنوات قليلة قبله…
وكما هو المعتاد، ستحمل هذه الضريبة على المواطن وبالتالي سنتوقع تردي الوضع الاقتصادي لغالبية الأفراد عام 2002 . فهذه الزيادة غير منطقية في الأوضاع  الاقتصادية الحالية.

احتيال على الموازنة

إن نسبة تنفيذ الانفاق الاستثماري تحديداً خلال السنوات الماضية متدنية فقد وصلت عام 1999 إلى 55% من التقدير المتواضع أصلاً، ومع تراجع الاستثمارات سيقود ذلك إلى أزمة مستقبلية في الاقتصاد السوري.
أما الاستثمار المباشر فيتم  تحريفه عبر مايسمى بالمناقلات فيتم تحويل المبالغ المعتمدة لباب أو مشروع معين ونقلها إلى نفقات أخرى في غالبها تكون أقل أهمية، فمثلاً إنفاق 80% من الاعتمادات الاستثمارية لا يعني تحقيق 80% من الخطة الموضوعة بل إن هذه المناقلات  تشوه الخطة وتفقدها معناها.
أما الإنفاق الجاري فيتم إنفاقه بنسبة تزيد عن المخطط وهذا طبيعي طالما أنه المسرح الأساسي  لعملية الفساد والإفساد.

تحكم متناقض في الاقتصاد

ولعل الأهم في ذلك أن الموازنة العامة في سورية تشكل 29% من الناتج المحلي وهذا مؤشر يدل على عدم قدرة الجهاز الحكومي على توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي بالنسبة لبلد تلعب الدولة فيه الدور الأساسي من الاقتصاد الوطني، مما يعني أن هناك موارد وطنية يتم ضياعها أو يتم "تضييعها " قبل دخولها للموازنة العامة!!

إن كنت تدري

وبالنتيجة… إذا كانت الموازنة هي خطة الحكومة فهذه الموازنة تشير إلى إحدى أمرين لا ثالث لهما:
إما إلى انعدام البعد الاستراتيجي لحكومتنا، أو أن أهداف هذه الحكومة لا تصب في مصلحة الأهداف المعلنة من قبلها والتي تتحدث عن زيادة معدلات النمو وتنشيط الاقتصاد وتطوير الصناعة والبنية التحتية وتحسين مستوى المعيشة…

ونحن نقول لمجلس الشعب: إن أحدهم قد قال في زمن يسبق كثيراً عام 2002:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!!