الكومندان ماركوس: "القنبلة المالية ... تزرع الموت والرعب والفقر

تستمر في المكسيك منذ عام 1984 ثورة تحت راية القائد الفلاحي التاريخي في أوائل القرن العشرين "زاباتا"، ويقود الحركة اليوم الكومندان "ماركوس". لقد رفعت قبائل المايا القديمة والمثقفون اليساريون راية الكفاح المسلح ضد العولمة الرأسمالية والفقر واللامساواة من أجل حكم ذاتي هندي.

إن قائد الثورة الجديدة "ماركوس" يعتبر حتى الآن شخصية غامضة، ويقال عنه أنه قائد أول ثورة شعبية ما بعد الحداثة، فالزاباتيون هم الذين بادروا إلى قيام حركة أممية ضد العولمة عندما جمعوا على أراضيهم المحررة في المكسيك مؤتمراً عالمياً ضد النيوليبرالية من أجل أنسنة الإنسانية. ومن غابات المكسيك أرسل الكومندان ماركوس نصاً تحليلياً استراتيجياً حول الوضع في العالم يوضح فيه الطريقة التي تسعى فيها الاحتكارات لبناء نظام عالمي جديد تسود فيه النخبة الرأسمالية.

الحرب العالمية الرابعة:
إن انتهاء الحرب العالمية الثالثة، أو الحرب الباردة لا يعني أن العالم تجاوز القطبية الثنائية وأصبح مستقراً تحت سيطرة المنتصرين. بنتيجة هذه الحرب كان هناك مهزوم وحيد بلا شك هو المعسكر الاشتراكي، ولكن من الصعب تحديد من المنتصر،أهي أوروبا الغربية ؟ أم الولايات المتحدة؟ أم اليابان؟، كلهم مجتمعون؟!... إن هزيمة " إمبراطورية الشر" كما كان يقول ريغان وتاتشر، كان يعني فتح أسواق جديدة  دون أصحاب جدد، لذلك كان من الضروري بدء الصراع من أجل الحصول على مواقع ، أي الاستيلاء عليها.

من أجل أسواق جديدة
وليس انتهاء الحر ب الباردة وحده وضع إطاراً جديداً للعلاقات الدولية الذي بدأ ضمنه  صراع جديد من أجل أسواق جديدة هي الحرب العالمية الرابعة. لقد أجبر هذا الوضع كما في كل الحروب، أن يعاد تحديد دور وموقع الدول من جديد، وليس ذلك فقط، فقد عاد النظام العالمي إلى استخدام الأساليب القديمة عندما تم غزو أمريكا وأفريقيا وأستراليا. إن العصر يتطور بشكل غريب، فهو يعود القهقرى، فانتهاء القرن العشرين يشبه القرن المتوحش الذي سبقه أكثر مما يشبه التوقعات العلمية الخيالية المفرحة والمبهجة في القرن الـ (21). إن الأراضي الواسعة والثروة والأهم اليد العاملة المؤهلة في العالم تنتظر أصحابها الجدد بانتهاء الحرب الباردة.

حروب المراكز المالية
إن الموقع من ملكية العالم يكفي لطرف واحد فقط، ولكن المتنافسين كثر. من أجل الوصول إلى هذا الهدف يبدؤون حرباً جديدة، ولكن هذه المرة بين الذين كانوا يسمون أنفسهم إمبراطورية الخير.
فإذا كانت الحرب العالمية الثالثة قد جرت بين الرأسمالية والاشتراكية، أي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وتمت بسيناريوهات مختلفة وبدرجات شدة متفاوتة، فإن الحرب العالمية الرابعة تجري بين المراكز المالية الضخمة بسيناريو واحد وبشدة عالية ومستمرة.

فوضى اقتصادية
ويمكن توصيف السيناريو الجديد كمسرح للعمليات الحربية بالصفات التالية: مساحات واسعة لا يسيطر عليها أحد بسبب الفوضى الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، توسع القوى العظمى، الولايات المتحدة، أوروبا الغربية واليابان، أزمة اقتصادية عالمية وثورة تكنولوجية جديدة "المعلوماتية".

عولمة منطق الأسواق العالمية
إن الملك الأكبر للرأسمال، أي الرأسمال المالي، بدأ هكذا بتطوير استراتيجيته العدوانية ضد العالم وضد كل ما بقي سالماً من العالم القديم، فمع الثورة التكنولوجية التي وضعت كل العالم بواسطة الكومبيوتر على طاولاتهم ليتصرفوا به على هواهم، فرضت الأسواق المالية قوانينها ومفاهيمها. إن عولمة الحرب الجديدة هي فقط لا غير عولمة منطق الأسواق المالية. إن منطق السوق استفاد من ثورة الاتصالات وتسلل إلى كل أشكال النشاط الاجتماعي، وبالتالي أصبحت الحرب العالمية حرب شاملة.

تحطيم الأسواق الوطنية
إن أحد الخسائر الأولى في الحرب الجديدة كانت الأسواق المحلية. وكالرصاصة المنطلقة في غرفة مصفحة، فإن الحرب التي بدأتها النيوليبرالية أخذت تجرح بمسارها الذي أطلقها حين ارتطامها وارتدادها بالجدران المغلفة لغرفة.
إن السوق الوطنية التي تعتبر إحدى الدعائم الأساسية لسلطة الدولة الرأسمالية الحديثة قد حُطمت بقذيفة مدفعية من قبل عصر الاقتصاد العالمي المالي. إن الرأسمالية العالمية تحصد ضحاياها عندما تلغي الرأسماليات الوطنية وعندما تستنزف حتى فقر الدم سلطة البنى الاجتماعية. إن الضربة كانت ضخمة ونهائية لدرجة أنه لم يبق لدى الدول القوة الضرورية لمواجهة الأسواق العالمية التي تنتهك مصالح الناس والحكومات.
لقد انهارت كل الحكايات الدعائية للأيديولوجيا الرأسمالية: ففي النظام العالمي الجديد ليس هناك لا ديمقراطية ولا حريات ولا مساواة ولا أخوة. إن المسرح العالمي الذي تكون بانتهاء الحرب الباردة يظهر فيه فقط حقل معارك جديدة، وكما في كل حقول المعارك تسود الفوضى.

القنبلة المالية
ومع ولادة الحرب العالمية الرابعة، اخترع  سلاح جديد عجيب، وهو القنبلة المالية وخلافاً لسابقاتها في هيروشيما وناغازاكي فإن القنبلة المالية لا تدمر فقط المدينة أو البلد زارعة فيها الموت والرعب والفقر، وخلافاً للقنبلة النترونية فإنها لا تدمر بشكل انتقائي، إن القنبلة النيوليبرالية، إلى جانب ذلك كله تعيد التنظيم وتؤدي إلى نظام جديد لكل شيء كان يعتبر هدفاً لهجماتها محولة إياه إلى قطعة صغيرة في لعبتها الاقتصادية العجائبية المعولمة. إن نتيجة قوتها التدميرية ليست ركام أنقاض وعشرات آلاف الأرواح المزهقة، وإنما حي جديد يضاف إلى الأحياء التجارية في السوبر ماركت الجديد للنظام العالمي ، وقوة عمل يعاد تنظيمها لخدمة سوق العمل العالمية الجديدة.

من الحضارة إلى الدمار
إن الاتحاد الأوروبي الذي هو مركز جديد تكون نتيجة السياسة النيو ليبرالية هو نتاج الحرب العالمية الرابعة الحالية، ففي هذه الحالة فإن العولمة الاقتصادية استطاعت أن تمحو الحدود بين الدول المتنافسة منذ الأزمان البعيدة وأجبرتها على الوحدة مكونة اتحاداً سياسياً. إن الطريق الاقتصادي للحرب النيوليبرالية في القارة القديمة والذي ينتقل من الدولة القومية إلى الفيدرالية الأوروبية سيكون مليئاً بالخراب والأنقاض والتي سيكون أحدها الحضارة الأوروبية نفسها.

حلم الغزاة القديم
إن المراكز الضخمة تتكاثر على الكرة الأرضية والمساحات التي تتكون عليها هذه المراكز هي المناطق التجارية المندمجة، وهذا يجري في أمريكا الشمالية حيث اتفاق التجارة الحرة في أمريكا الشمالية "نافتا" بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك، وهو ليس إلا مقدمة لتحقيق حلم الغزاة القديم في الولايات المتحدة الذي كان شعاره: "أمريكا للأمريكيين"! وتسير أمريكا الجنوبية في الاتجاه نفسه بإنشاءها الحالة نفسها تحت اسم "ميركوسور" بين الأرجنتين والبرازيل والبرغواي والأرغواي. في شمال أفريقيا هناك الاتحاد المغربي العربي الذي يضم المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا. وكذلك الأمر في أفريقيا الجنوبية والشرق الأوسط والبحر الأسود وفي أسيا المطلة على  المحيط الهادي.. إلخ.. في كل العالم تنفجر القنابل المالية ويجري الاستيلاء على أراضي جديدة.
إن هذا السلاح يستخدم للهجوم على أراضي ودول محطماً القاعدة المادية للاستقلال الوطني الذي هو العائق الحقوقي والسياسي والثقافي والتاريخي أمام العولمة الاقتصادية، وهو يؤدي إلى التخفيف من عددا لناس والخلاص من الفائض منها، الفائض غير المفيد للسوق الاقتصادية الجديدة.
في هذه الحرب العالمية الجديدة، لم تعد هناك قيادات سياسية للدول الوطنية. إن السياسة اليوم هي فقط الإدارة المعاصرة للشركات. إن أصحاب العالم الجدد ليسوا حكومات، فهي لاشيء، إن الحكومات الوطنية مخولة أن تدير العمل في المناطق المختلفة من العالم.

العالم سوق... والحكم للمال!!
هذا هو النظام العالمي الجديد، تحويل العالم إلى سوق واحدة، وتتحول البلدان إلى مخازن مع إداريين بشكل حكومات، وتتحول التحالفات الاقتصادية السياسية الإقليمية إلى شيء أشبه بالمراكز التجارية الضخمة "السيتي مول". إن التوحيد الذي تقوم به النيوليبرالية هو اقتصادي، وهو توحيد الأسواق من أجل تسهيل حركة المال والبضائع. في السوبر ماركت العالمي الضخم تتحرك بشكل حر البضائع وليس الناس، وكأي مبادرة تجارية أو حربية فإن العولمة الاقتصادية تترافق مع نموذج شامل للتفكير،ومع ذلك فإن النموذج الأيديولوجي الذي يرافق النيوليبرالية في مسيرته المظفرة على الكوكب هو نموذج قديم ومهشم. إن نمط الحياة الأمريكي الذي رافق القوات الأمريكية في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وفي فيتنام في الستينات، وخلال حرب الخليج مؤخراً، يسير اليوم (كبسة بكبسة) مع الأسواق المالية.
إن الحديث لا يدور فقط حول التهديم المادي للدول الوطنية، فإلى جانب ذلك يجري تخريب تاريخي وثقافي. إن الماضي العظيم للهنود في القارة الأمريكية، والحضارة الأوروبية الرائعة والتاريخ المليء بالحكمة للشعوب الآسيوية وكل الثقافات والعمليات التاريخية التي صنعت البلدان الحالية، تتعرض اليوم للهجوم من قبل " نمط الحياة الأمريكي" وهكذا تعلن النيوليبرالية حرباً شاملة على العالم يجري فيها تحطيم البلدان والمجموعات القومية من أجل إدماجها مع النموذج الرأسمالي الأمريكي الشمالي.

اسوأ... وأقسى حرب
حرب. حرب عالمية. رابعة. أسوأ وأقسى حرب. أطلقتها النيوليبرالية في كل مكان  وبكل الوسائل ضد الإنسانية.
ولكن كما في الحروب هناك معارك، هناك منتصرون ومهزومون، وهناك أنقاض الواقع الذي حطمته هذه الحرب. ومن أجل أن نفهم اللعبة العجيبة النيوليبرالية تلزمنا تفاصيل كثيرة. وبعض هذه التفاصيل موجود في الأنقاض التي تركتها هذه الحرب على سطح الأرض، والأرجح أنه عندما نستطيع جمع سبعة تفاصيل من هذه الأنقاض في كل واحد سنستطيع الحفاظ على الأمل بأن هذا الصدام العالمي لن ينهي الطرف الأضعف، أي الإنسانية. أول هذه التفاصيل هو التراكم المزدوج، تراكم الثروة وتراكم الفقر في قطبي المجتمع  العالمي . ثانيها الاستغلال المطلق لكل العالم بشكل مطلق. والثالث تراجع وانحطاط جزء من البشرية. والرابع هو العلاقة المثيرة للإقياء بين الجريمة والسلطة. والتفصيل الخامس عنف الدولة. وسادساً لغز مراكز التجمع الكبرى للبشر. وأخيراً بؤر المقاومة الإنسانية ضد النيوليبرالية.

هذه مقدمة لسبع حلقات كتبها ماركوس تحت هذه العناوين وسنحاول نشر ما أمكن منها لاحقاً بسبب ضيق مساحات صفحات " قاسيون ".