الاجراءات الانفتاحية التجارية.. وتأثيرها على قيمة الليرة
لقد تعرضت الليرة السورية في الفترة الأخيرة إلى ضغوطات كبيرة أدت إلى انخفاض قيمتها بشكل كبير لتتراوح قيمتها ما بين 54 ـ 58 ل.س مقابل الدولار الأمريكي، وقد وصلت في بعض الأحيان إلى 60 ل.س /للدولار الأمريكي. مما أثار جدلاً كبيراً في الأوساط المحلية بين المهتمين من مختلف الأوساط. ليس هذا فحسب بل إن هذا الانخفاض المفاجئ في سعر صرف الليرة السورية أدى إلى اهتمام حتى الأشخاص العاديين الذين باتوا يتساءلون عن أسباب هذه الظاهرة، ولاسيما بعد أن اعتاد المواطن العادي على ثبات سعر صرف الليرة السورية لمدة تزيد عن عشرة أعوام على التوالي وذلك اعتباراً من تاريخ 15/7/1990 حيث تم إحداث ما يسمى بسعر الصرف المجاور الذي طبق تدريجياً على عوائد التصدير وبعض المنتجات الزراعية والصناعية وبدئ بتحويل المعاملات التي كانت تخضع لسعر الصرف التشجيعي إلى سعر الصرف المجاور وذلك على مراحل بغية توحيد سعر الصرف.
الانضمام لصندوق النقد.. والارتباط بالدولار
وعلى أثر انضمام سورية إلى اتفاقية «بريتون وودز» وحصولها على عضوية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير فقد توجب عليها تحديد سعر لتعادل عملتها بالذهب وبالدولار الأمريكي. ومنذ ذلك الحين أخذ سعر تعادل الليرة السورية يُحدَد على أساس الدولار بصفته عملة رسمية لصندوق النقد الدولي قابلة للتحويل إلى ذهب باعتبارهاعملة قوية ومستقرة.
الاستثمار الانفتاحي
إن مسألة تحديد سعر الصرف المناسب مسألة معقدة، وفي هذا المجال تلعب السياسة النقدية والمالية دوراً بالغ الأهمية حيث يجب توحيد الجهود للوصول إلى سعر يعكس القيمة الحقيقية للعملة. وقد حاولت هاتان السلطتان العمل على تقليص حجم الطلب على النقد الأجنبي وزيادة عرضه بآن واحد. وهكذا كان الهدف الرئيسي هو إيجاد الأسس الكفيلة التي تسمح للنقد الأجنبي بالدخول إلى سورية من خلال الترويج للمشاريع الاستثمارية، وخلق أوعية استثمارية جديدة مع الانفتاح التدريجي على العالم الخارجي.
وانطلاقاً من ذلك سنحاول تحليل ما جرى في الآونة الأخيرة، والذي أدى إلى هذا الانخفاض الكبير في سعر صرف الليرة السورية.
تدل الوقائع والتطورات الاقتصادية على أن السياسة النقدية تتأثر دائماً بالتطورات الاقتصادية والسياسية المحلية و الأقليمية. ومن هنا يجب دراسة مجموعة العوامل الاقتصادية والسياسية التي أثرت على تدهور سعر صرف الليرة السورية.
لاعلاقة للموسم السياحي!!
لقد حاولت بعض وسائل الإعلام تسليط الضوء على انخفاض قيمة الليرة السورية بشكل حاد تجاه الدولار الأمريكي، وعزت أسباب ذلك إلى انتهاء موسم السياحة في البلد وعودة السياح إلى بلادهم، حيث بدأوا يتخلصون من الليرات السورية التي بحوزتهم واستبدالها بالعملات الأجنبية مما أدى إلى زيادة عرض العملة المحلية وزيادة الطلب على العملة الأجنبية، بما يعني، وحسب قانون العرض والطلب انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي..
ولكن السؤال الآن: هل يمكن لحركة السياحة أن تؤثر بهذا الشكل الكبير على قيمة الليرة السورية؟… إذا كان الجواب بنعم، فلماذا لم يحدث مثل هذا الانخفاض في قيمة الليرة السورية في السنوات السابقة وفي مثل هذه الفترة؟..
إن ما يحدث في واقع الحال في كل عام هو أن تزيد قيمة الليرة السورية بشكل بسيط جداً لا يتجاوز ليرة واحدة أو ليرتين في بداية موسم السياحة، وتنخفض قيمتها بنفس النسبة تقريباً عند انتهاء هذا الموسم. ولكن لم يحصل أبداً وعلى مدار السنوات العشر السابقة انخفاض في قيمة الليرة السورية عند انتهاء موسم السياحة بمثل هذه النسبة التي حصلت الآن. مما يعني أن هناك أسباباً أخرى تكمن وراء هذا الانخفاض الحاد في سعر صرف الليرة السورية..
البعض يقول إن السبب الكامن وراء انخفاض سعر صرف الليرة السورية هو بدء قيام المصرف التجاري السوري ببيع العملات الأجنبية إلى المواطنين العاديين بداعي السفر مما أدى إلى زيادة عرض العملة المحلية والضغط على قيمتها تجاه الدولار الأمريكي.. قد يكون هذا الكلام صحيحاً إذا كانت عملية بيع العملات الأجنبية تتم بشكل كبير جداً، وبشكل عشوائي بحيث تشكل وسيلة ضغط على قيمة الليرة السورية. ولكن الواقع يبين أن عمليات بيع المصرف التجاري السوري للعملات الأجنبية مازالت في مراحلها الأولى وهي قليلة جداً، وإن المبالغ التي سمح ببيعها للمواطنين لا تتجاوز الـ 500 دولار أمريكي للمواطن الواحد وذلك بداعي السفر. إذن فمن غير المنطقي أن يكون هذا العامل وحده هوالسبب الرئيسي وراء انخفاض قيمة الليرة السورية بهذا الشكل الحاد.
إذن نعود للقول بأنه لابد من وجود عوامل اقتصادية أخرى أدت إلى هذا الانخفاض في قيمة الليرة السورية يمكن ذكرها كما يلي:
- السماح باستيراد السيارات السياحية من الخارج، والتي أدت إلى زيادة الطلب على القطع الأجنبي، مما يعني ارتفاع قيمته مقابل الليرة السورية.
- مليات تحرير التجارة الخارجية التي تتم من خلال اتفاقية منظمة التجارة العربية أوالاتفاق السوري اللبناني والذي أعطى الحرية الكاملة لدخول وخروج البضائع والسلع بين البلدين دون أي رسوم جمركية مما يعني ضرورة توفير القطع الأجنبي اللازم لتسديد ثمن تلك البضائع، وهذا بدوره أدى إلى زيادة الضغط على قيمة الليرة السورية. إذ أن الاقتصاد السوري مازال لا يتمتع بالمتانة والقوة الكافية التي تمكنه من الانفتاح على العالم الخارجي واتباع سياسات السوق الحرة. ومما زاد في الضغط على قيمة الليرة السورية هو المبادلات والاتفاقات الثنائية التي تمت مؤخراً مع بعض الدول العربية مثل العراق.
- ربط عملية الاستيراد بالتصدير حيث سمحت الأنظمة لمصدرين من القطاعين العام والخاص منذ عام 1987 بالاحتفاظ بنسبة من حصيلة صادراتهم بالقطع الأجنبي لتسديد قيمة مستورداتهم. وقد سُمح للمصدرين من القطاع الخاص الاحتفاظ بنسبة 75 % من حصيلة صادراتهم لاستخدامها في تمويل مستورداتهم أو بالتنازل عنها لمستوردين آخرين من أجل تأمين القطع اللازم لتمويل عمليات الاستيراد. مما أدى إلى زيادة سعر قطع التصدير ووصل أحياناً إلى 56 أو 58 ل.س مقابل الدولارالواحد مما يشكل ضغطاً آخر على قيمة الليرة السورية. ليس هذا فحسب بل سُمح للمستوردين بتأمين القطع اللازم لمستورداتهم من خلال حوالات خارجية وذلك دون السؤال عن مصدر تلك الحوالات. مما سمح لبعض المستوردين بالتلاعب من أجل تأمين القطع اللازم عن طريق حوالات أجنبية. حيث بدأوا يخرجون العملات المحلية إلى لبنان لتأمين القطع الأجنبي المطلوب ومن ثم تحويله بحوالة إلى سورية من أجل تمويل عملية الاستيراد.
- السماح بتحويل أرباح الشركات الخدمية والشركات الأجنبية الأخرى بالعملات الأجنبية إلى الخارج، مما شكل ضغطاً كبيراً على قيمة الليرة السورية ولاسيما عندما تكون الأرباح ضخمة جداً مثل ارباح شركات الهاتف المحمول.
ومن هنا نجد أن هناك مجموعة من العوامل أدت مجتمعة، ونتيجة ضعف الاقتصاد السوري وعدم قدرته على مواجهة التحديات الخارجية، إلى الضغط على قيمة الليرة السورية وانخفاض سعر صرفها بشكل حاد وملحوظ خلال هذه الفترة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الليرة السورية لم تستطع أن تحقق خلال السنوات الماضية الهامش الضروري لحماية نفسها من الهزات المفاجئة المتوقعة في ظل سيادة قوى السوق المتوحشة على الأسواق المالية العالمية والاقليمية، فتركت بذلك ثغرة كبيرة يمكن أن تتسلل منها قوى السوء لهز الوضع الاقتصادي كله وصولاً إلى محاولة فرض شروط سياسية. إن ثبات ومتانة الليرة السورية هي ضمان لثبات ومتانة الاقتصاد الوطني وبالتالي ثبات ومتانة الموقف الوطني المواجه لمخططات الامبريالية الأمريكية الصهيونية.