الإصلاح الاقتصادي بين الأبيض والأسود (2) قطاع الدولة والأمن الوطني

■ هل خسارة قطاع الدولة فعلية؟!

■ هل خسارة قطاع الدولة صفة ملازمة له؟!

■ يجري شفط أكثر من نصف حصة قطاع الدولة من الدخل الوطني!!

■ كيف يخسر قطاع الدولة ويربح كل من يتعامل معه؟؟!!

■ لإنهاء قطاع الدولة طريقان: إما الخصخصة، وإما قطع خطوط الاستثمار عنه!!

■ أرخص طريق للقضاء على الأمن الوطني هو القضاء على قطاع الدولة!

■ إنقاذ قطاع الدولة من ناهبيه ضرورة لمنع قوى السوق من قراءة الفاتحة عليه وتشييعه ودفنه..

«السلطات مهووسة بالإصلاح في القطاع العام، وفي رأيي أن القطاع العام في حالة احتضار وبالتالي فالأحسن لنا أن نتركه يموت موتا ًطبيعياً بدلاً من أن نبدد الإمكانيات في محاولة إنقاذه»

■ د. نبيل سكر. الشرق الأوسط 18 تشرين الثاني /2002

علّة قطاع الدولة:

يتفق الجميع اليوم على توصيف أعراض أمراض قطاع الدولة، يميناً ويساراً، مستفيدين منه ومتضررين، مؤيديه ومعارضيه. والسبب هو أنها أصبحت واضحة للعيان لا يمكن  تجاهلها ولا إنكارها وهي:

■ ضعف مستوى الإنتاجية وإنتاجية العمل فيه.

■ مستوى الأجور المنخفض بالمقارنة مع مستوى المعيشة الضروري.

■ الفعالية الاقتصادية المتدنية فيه ـ أي ضعف أرباحه بالمقارنة مع الرساميل الكبيرة الموظفة فيه.

■ كل هذه العوامل تؤدي إلى انخفاض نسب نموه التي تؤثر سلباً على نمو الاقتصاد الوطني بمجمله.

ولكن الاتفاق على الأعراض لا يعني الاتفاق على التشخيص، مما يؤدي إلى اختلاف طرق المعالجة، وصولاً إلى  أن يقول البعض «دعه يموت».

فهناك إذن تشخيصات عديدة لأسباب عوارض المرض نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

■ البيروقراطية

■ الهدر.

■ الفساد.

■ الأخلاق.

■ النهب الرأسمالي العالمي والبرجوازي الطفيلي والبرجوازي البيروقراطي.

فإذا كان سبب المرض هو البيروقراطية بالمعنى الكلاسيكي فالحل سهل، فبمجرد تغيير الإدارات ستحل المشكلة.

أما إذا كانت المشكلة في الهدر فرقابة جيدة تحلها.

أما إذا كان السبب الفساد فحملة واحدة قوية كفيلة بإنهائه، وإذا كان السبب الأخلاق «فالقصة طويلة»، وحلها يتطلب «ترباية» أجيال وأجيال.

ولكن، إذا كان السبب هو النهب الكبير الذي تعرض له قطاع الدولة سنوات وسنوات استنفدت خيراته وأنضبت موارده فالحل لا يكون إلا باجتثاث النهب، وإيقاف الناهبين الكبار عند حدهم، مما يتطلب كسر آليات النهب المتمركزة في الحلقة الواصلة بين السوق الداخلية والخارجية من جهة، وبين الإنتاج والاستهلاك من جهة أخرى. لقد وصل حجم التقديرات لأموال السوريين المودعة في الخارج، حسب تصريحات وزير الاقتصاد، إلى حوالي 100 مليار دولار، والأرجح أن قسماً ليس قليلاً منها ليس «مالاً حلالا» بالمقاييس القانونية الحالية.

إذاً علة قطاع الدولة قابلة للشفاء، إذا كانت النهب، ولكن المشكلة اليوم هي أن الناهبين الكبار والمتواطئين معهم، بعد أن جففوا خيرات قطاع الدولة، يذرفون دموع التماسيح عليه ويقوم المنظرون لهم بالادعاء أن قطاع الدولة هو في حالة موت سريري لا أمل من برئه والأفضل تركه يموت موتاً طبيعياً لأنه خاسر بطبيعته. فهل الأمر كذلك؟

قطاع الدولة مخسَّر أم خاسر؟

إذا كان قطاع الدولة خاسراً، وإذا كانت هذه الصفة ملازمة له بشكل دائم فهذا يعني أن هناك مشكلة عضوية في بنيته لا حل لها، وفعلاً يبدو قطاع الدولة في أجزاء هامة منه خاسراً من خلال الحسابات الورقية، مع أنه بمجمله مازال مورداً أساسياً للموازنة السورية، مع الاعتراف بأن فعاليته منخفضة جداً، أي نسبة أرباحه إلى الرساميل الموظفة فيه، ولكن... هل هو خاسر فعلاً؟ فلنحدد مقياس الخسارة.

■ إذا كان مقياس الخسارة هو حجم الأرباح المتوضعة في شركاته في نهاية المطاف فهو خاسر.

■ أما إذا كان مقياس الخسارة هو مدى فعاليته أي علاقة أرباحه العامة بالتوظيفات فيه فهو  «نص، نص».

■ أما إذا كان مقياس الخسارة هو حجمه الفعلي في إنتاج الدخل الوطني، أي الثروة المنتجة مجدداً، والتي تضاف كل يوم إلى الثروات السابقة، فمن الصعب جداً القول عنه بأنه خاسر لأنه حتى هذه اللحظة ينتج أكثر من 50% من الدخل الوطني.

إذاً ما المشكلة؟ أهي في طرق القياس أم في شيء آخر؟

وبحساب بسيط يتبين أن قطاع الدولة يملك أكثر من نصف الأصول الثابتة في الاقتصاد الوطني، وينتج أكثر من نصف الدخل الوطني، ولكن أرباحه المتحققة أقل بكثير من نصف الأرباح التي تتحقق على مستوى الاقتصاد الوطني. وهذا يعني أن الفارق بين أرباحه الحقيقية التي يجب أن تتطابق مع حصته من الدخل الوطني، وبين أرباحه المتحققة، أي التي تظهر على الورق بشكل نهائي قد تسرب إلى مكان ما، وهو ما يسمى بلغة الاقتصاد السياسي «إعادة توزيع»، أي أنه في مرحلة ما، يتم إعادة توزيع ما ينتجه قطاع الدولة لغير صالح قطاع الدولة، وحجم إعادة  التوزيع هذا هام جداً إذ يصل تقريباً إلى نصف حصته من الدخل الوطني التي تتحول إلى أرباح «حلال زلال» إلى جيوب الآخرين، من ناهبين كبار ووسطاء وسماسرة وتجار إلخ...

وفعلاً فالمواطن البسيط يطرح سؤالاً مشروعاً منذ زمن طويل وهو: كيف يمكن أن يخسر القطاع العام، وكل الذين يتعاملون معه ومن حوله يربحون.

أي بكلام آخر، اكتشف هذا المواطن سر المعادلة  التي فحواها «شفط» الثروة المتكونة في قطاع الدولة إلى خارجه بطرق مختلفة، وهذا ما سميناه بعمليات النهب الكبير التي قامت بها طوال سنوات قوى البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية.

إذاً يتبين أن قطاع الدولة حسب مقاييس السوق نفسها ليس خاسراً، وإن كنا نرى أن باستطاعته، ضمن ظروفه الحالية، تحقيق فعالية أكبر، ولكنه مخّسر، أي أنه رابح خلال عملية الإنتاج وخاسر خلال عملية التوزيع.

لماذا مطلوب رأس قطاع الدولة؟

السياسة النيوليبرالية  المعولمة تطالب برأس قطاع الدولة في كل مكان وسورية ليست استثناء.

وهذه السياسات تطالب بذلك لأن قطاع الدولة كرأسمالي كبير قادر على المواجهة في المنافسة  وله مصالحه التي تمنعه من فتح الحدود للرأسمال المعولم الذي يريد حلاً لأزمته.

لقد مرت سياسات الرأسمالية تجاه قطاع الدولة في العالم الثالث في العقود الأخيرة بمرحلتين:

المرحلة الأولى: جرى فيها تكتيفه وإفساده. تكتيفه داخلياً عبر الشروط المفروضة بأشكال مختلفة بوصفات المؤسسات الدولية، والتي مررت عبر بعض مؤسسات  الدولة وبعض وزاراتها، وقد كانت هذه اللعبة، كما يتبين، معقدة وبعيدة المدى. وإفساده عبر الصفقات المشبوهة التي أدخلت رموز البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية في دائرة مصالح الرأسمال المالي العالمي.

المرحلة الثانية: يجري فيها إنهاؤه عبر خصخصته بالدرجة الأولى وإذا كان ذلك صعباً فمحاصرته وقطع خطوط الأوكسجين عنه (أي الاستثمار) وتركه يموت موتاً بطيئاً يمتع البعض الذي لم يستطع القضاء عليه بالضربة القاضية.

لا نريد التطرق لنتائج السياسات النيوليبرالية المطبقة في الجوار من حيث تفاصيلها الاقتصادية، ولكن من الهام أن نكتشف علاقة هذه  التفاصيل بالأمن الوطني. فالذي يتبين اليوم مثلاً من تجربة مصر أنها بركضها وراء الانفتاح خسرت أمنها الوطني ولم تربح اقتصادها فلندع الأرقام تتكلم:

■■ اشترى الرأسمال الأجنبي 64% من شركات القطاع العام والخاص التي بيعت بين أعوام 1998 ـ 2002.

■■ تمركز الاحتكار الخاص في الحديد والأسمنت والدواء والأسمدة والفحم.

■■ سيطرت الشركات الأجنبية على النشاطات ذات الطبيعة الاستراتيجية كالأسمنت والأسمدة والصناعات المعدنية كما توجهت بقوة نحو مشروعات الأمن الغذائي حيث اشترت أسهم 36 شركة.

■■ كل زيادة قرش واحد في سعر الجنيه تؤدي إلى ازدياد دينها الخارجي 170 مليون جنيه أي خلال السنوات الأربع الأخيرة انخفض سعر صرف الجنيه 54% وزادت الديون أتوماتيكياً 21 مليار جنيه.

■■ انخفضت معدلات النمو إلى 1 ـ 2%.

■■ العاطلون عن العمل 6 ملايين، 94% من قرى مصر محرومة من الصرف الصحي ويقطن 13 مليون مواطن مناطق سكن عشوائي مخالفة.

■■ الهاربون بأموال البنوك من رجال الأعمال الجدد سرقوا 45 مليار دولار بينما توقف عدد آخر منهم عن سداد 40 مليار دولار ديون، أي تم عملياً نهب 25% من أموال المودعين الصغار في بنوكهم.

■■ نصيب الفرد من اللحمة يومياً 12.5 غرام.

الأمن الوطني

إن الأمن الوطني، كما هو معروف، ليس مفهوماً عسكرياً فقط، بل هو مفهوم اقتصادي اجتماعي وسياسي، وأخيراً عسكري.

فإذا كانت الشركات الأجنبية تسيطر على الاقتصاد الوطني، وإذا كان مستوى معيشة الشعب متدهوراً فعن أي أمن وطني يمكن الحديث.

إن أصحاب النظام العالمي الجديد يفهمون أن أرخص طريق للقضاء على أمننا الوطني هو القضاء على قطاع الدولة.

ونحن نفهم أن قطاع دولة قوي متطور متخلص من أمراضه هو أفضل ضمانة للحفاظ على أمننا الوطني، وتاريخنا القريب يحمل شواهد كثيرة على ذلك. فلولاه لما كان ممكناً خوض المعارك المختلفة ضد المخططات الأمريكية ـ الصهيونية في المنطقة.

لذلك فإن المطلوب، لاستمرار صمود سورية، إنقاذ قطاع الدولة من ناهبيه الذين يهيئون موضوعياً لموته بينما تهيئ نفسها قوى السوق لقراءة الفاتحة عليه وتشييعه ودفنه.

■ د. قدري جميل

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.