الإصلاح الاقتصادي بين الأبيض والأسود (3) حول لعبة «مصطلح» اقتصاد السوق..
■ نتائج تطبيق «اقتصاد السوق» كانت: انخفاض مستوى معيشة أكثرية الناس بشكل مريع، ونهب الثروات بحجة الانفتاح على العالم الخارجي...
■ رجال الأعمال الأقوياء أصبحوا «أقوياء» في هذه البلدان لأنهم مافيا إجرامية نهبوا الأخضر واليابس من خلال إخضاعهم السلطة السياسية لمصالحهم...
■ لم تجن الشعوب من النموذج الرأسمالي الغربي إلا الفقر والمرض والموت والإجرام والدعارة والفسادوالبطالة...
«يجب على الحكومة أن تسمح لرجال الأعمال، سواء كانوا سوريين أو أجانب، أن يستثمروا وينتجوا ويشتروا ويبيعوا وهكذا ينشأ اقتصاد سوق حقيقي.
وقد أظهرت تجربة العديد من البلدان، من روسيا إلى الجزائر، أن تخصيص المؤسسات التي تملكها الدولة ليست قاعدة فعالة لتحديث الاقتصاد. فلماذا نبدد الأموال في محاولة تأهيل قطاع عام لم يعد ذا جدوى؟»..
■ د. نبيل سكر. الشرق الأوسط 18 تشرين الأول 2002
«بمجرد أن يتغير المناخ السياسي والاقتصادي فإن الناس سيتعلمون سريعاً قواعد اقتصاد السوق. لقد رأينا كيف أن أعضاء الأحزاب الشيوعية في روسيا وأوروبا الشرقية حولوا أنفسهم إلى رجال أعمال أقوياء خلال سنوات».
■ نفس المصدر
يكثر الحديث عن اقتصاد السوق منذ أواسط الثمانينات. والملفت للنظر أن أشد المتحمسين له يتجنبون دائماً وضع تعريف محدد له، ويركزون في أكثر الأحوال على أنه يعني تنشيط رجال الأعمال في عمليات «الاستثمار، الإنتاج، البيع، الشراء»
فلنبحث الموضوع من وجهة النظر التاريخية والعملية الآنية.
مصطلح اقتصاد السوق:
فاقتصاد السوق هو الاقتصاد الذي يعتمد على التفاعل بين العرض والطلب ولكن المشكلة أن البشرية خلال تطورها وخاصة منذ سيادة نمط الإنتاج البضاعي في الرأسمالية عرفت أشكالاً عديدة من هذا التفاعل بين العرض والطلب وهي على الأقل عرفت أربعة أشكال من اقتصاد السوق، أي اربعة أشكال من تفاعل العرض والطلب. لذلك من الطبيعي أن نطرح سؤالاً مشروعاً على الداعين إلى اقتصاد السوق: أي اقتصاد سوق تريدون؟ وهم لا يحددون أبداً كنه اقتصاد سوقهم، وعلى الأرجح كي يضللوا الناس بلعبة «الكشاتبين» التي يمارسونها باستخدامهم لمصطلح قابل للتأويل، أي أنهم يستخدمون بمهارة، وهو ما يجب الاعتراف به، لعبة المصطلحات التي تطورت جداً وتستخدم بكثافة منذ أوائل التسعينات في الإعلام الغربي وملحقاته. فمنذ ذلك الحين ظهرت جملة من المصطلحات كالفطر بعد المطر مثل:
«النظام العالمي الجديد»، «العولمة»، «النظام الشرق أوسطي» و «حقوق الإنسان» إلخ… وميزة هذه المصطلحات أنها تؤدي وظيفة محددة موجهة نحو الوعي الاجتماعي، مهمتها تقديم شكل سهل الابتلاع، يقوم بدور الفيروس، ويخفي مضموناً لا يفصح عنه إلا بقدر ضرورة تسويق المصطلح الذي يلعب دور رأس حربة لتطويع الوعي الاجتماعي الذي إذا ما قبل بالمصطلح بعد دعاية قوية ومستمرة له يصبح قبول مضمونه تحصيل محصل، يجري بأقل ما يمكن من المقاومة.
■■ فـ «النظام العالمي الجديد» الذي أعلنه بوش الأب بعد حرب الخليج الثانية مباشرة تبين للجميع، بعد سنوات أنه ليس جديداً البتة، بل هو شكل مركب لشكلين سابقين من الاستعمار، الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، كما تبين أن هذا النظام هونظام فوضى عالمية يصب في مصلحة الإمبريالية الأمريكية بالدرجة الأولى كي يبقى الطلب قائماً على قوتها العسكرية الضرورية جداً لاستمرار اقتصادها المأزوم.
■■ أما «العولمة» التي ملأت الدنيا وشغلت الناس كونها حولت العالم إلى قرية كونية صغيرة، وحولت العالم إلى سوق واحدة، فيتبين الآن أن استمرارها مرهون باستمرار تفتيت كل شيء، الدول والشعوب والقوميات والأديان والطوائف والاقتصاد والقيم والثقافة الخ...
■■ و«النظام الشرق أوسطي» الذي قدم له منظر الصهيونية شمعون بيريز على أنه ازدهار وتقدم المنطقة، وخدع الكثيرين به لأول وهلة، تبين فيما بعد أنه يخفي طموحات إسرائيل الصهيونية بالتحول إلى قوة عظمى تتقاسم كعكة العالم مع المراكز الإمبريالية الأخرى، مستندة إلى استعمار منطقتنا بكاملها من المحيط إلى الخليج غير مكتفية بشعارها التقليدي من «الفرات إلى النيل».
■■ أما مصطلح «حقوق الإنسان» الذي كان هاجس الثورات الكبرى والحروب الوطنية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فتحول إلى غطاء للدوس على حقوق الشعوب والأمم والدول في آواخر القرن العشرين.
واقتصاد السوق لا يخرج عن باقة المصطلحات هذه فلنرى كيف؟
أشكال اقتصاد السوق:
إذا كان اقتصاد السوق هو تفاعل العرض والطلب في السوق أي خلال عمليات البيع والشراء، فإن هذا التفاعل يؤثر مباشرة على السعر، سعر البضاعة. والسعر يتحرك دائماً بسبب العرض والطلب حول ثابت محدد هو قيمة البضاعة، فالقيمة هي كميات العمل السابق والحالية المتجسدة في أي بضاعة.
هكذا إذن فالسعر هو انحراف عن القيمة سببه العرض والطلب. فحينما يكون عرض بضاعة ما أعلى من الطلب عليها يصبح سعرها أقل من قيمتها وحينما يكون عرض بضاعة ما أقل من الطلب عليها يصبح سعرها أعلى من قيمتها، فقط في حال تساوى العرض والطلب وهو أمر نادر الحدوث في اقتصاد «حر» رأسمالي يصبح السعر مساوياً للقيمة.
لقد أثرت السوق خلال تطورها على السعر بأشكال مختلفة:
■ الشكل الأول: في مرحلة المنافسة الحرة التي انتهت بحلول الرأسمالية الاحتكارية في أوائل القرن العشرين، كان العر ض والطلب يتحركان بشكل عفوي راكضين وراء السعر الأعلى وكانت الأزمات الدورية التي تحدث عنها ماركس هي المنظم للسوق لإعادة التوازن بين العرض والطلب عبر الإبعاد المستمر للخاسرين في سباق الركض نحو السعر الأعلى، مما أسس للمرحلة اللاحقة مرحلة الرأسمالية الاحتكارية.
■ الشكل الثاني: حينما استتب أمر السوق أي أمرالتحكم بعمليات البيع والشراء بيد قلة قليلة من الرأسماليين، ظهر الاحتكار الذي مكَّن المحتكرين من التحكم بالعرض والطلب بحيث يبقى الطلب متفوقاً على العرض ولو بشكل مصطنع للحفاظ على السعر الأعلى وصولاً إلى التحكم بكل السوق لإملاء السعر الأعلى بشكل دائم الذي سمي بالسعر الاحتكاري وكانت هذه المرحلة الأولى في التحكم في العرض والطلب لصالح الرأسمال الاحتكاري. مما جعل الحديث عن اقتصاد «حر» مجرد لغو فارغ لا معنى له، اللهم إلا حرية رفع السعر لرفع الربح قدر المستطاع. وفي هذه المرحلة الاحتكارية التي تكونت فيها الإمبريالية جرى اختراق السلسلة الرأسمالية بثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى مما سمح بتقديم نموذج جديد لاقتصاد سوق.
■ الشكل الثالث: بانتقال السلطة السياسية لأيدي العمال والفلاحين، بدأ التخطيط الشامل لكي يتناسب العرض مع الطلب مما سمح بالتحكم الواعي بالسعر لصالح المجتمع. فأسعار ملابس الأطفال واللحوم تباع بسعر أقل من قيمتها لإيصالها إلى أوسع فئات ممكنة. بينما يرفع سعر المواد الكمالية والمشروبات الروحية إلى سعر أعلى من قيمتها كي تغطي الفارق بين السعر والقيمة في مجموعة البضائع الأولى. أي أن هذا الشكل من اقتصاد السوق المخطط انطلق من ضرورة تلبية حاجات الناس أولاً واستخدام السعر عبر تخطيط السوق كأداة لتحقيق هذا الهدف. والمعروف من تاريخ التطور الاقتصادي اليوم إن الاتحاد السوفييتي حقق أكبر معدلات نمو اقتصادي سنوي معروفة في التاريخ وصلت أحياناً إلى 30% من جراء هذا التحكم الواعي لصالح المجتمع.
والمعروف أن وتائر نموه بدأت بالانخفاض وصولاً إلى ما حول الصفر سنوياً في الثمانينات من القرن الماضي بسبب انخفاض التحكم بين العرض والطلب الذي لعبت فيه البيروقراطية دوراً هاماً من أجل تأمين أرباح «ظل» غير مشروعة لها بالتواطؤ مع قوى المافيا التي كانت قد بدأت بالتشكل بالتدريج في السوق. مما وضع الأساس لظهور النموذج الرابع من اقتصاد السوق والذي انتشر بشكل واسع في بلدان العالم الثالث في النصف الثاني من القرن العشرين. وبالتحديد تلك التي نما فيها قطاع دولة واسع.
■ الشكل الرابع: والواقع يؤكد أن البيروقراطية في جهاز الدولة السوفيتية تحولت مع الوقت، ونتيجة لكبح تطور الديمقراطية للجماهير الشعبية كي تمارس رقابتها على الإنتاج والتوزيع، إلى برجوازية بيروقراطية. فهي مستفيدة من موقعها المتحكم بالعرض والطلب والمؤثر على السعر أخذت تصطنع اختناقات في السوق بعرض وطلب غير متناسب وبشكل مقصود، مما أنشأ اقتصاد ظل فيه سعر مواز للسعر الرسمي، وفيه بضائع «ظل» محتكرة. مما ساعد على تكوّن ثرواتٍ غير مشروعة لايمكن استخدامها، باستمرار النظام السياسي القائم، مما استوجب على هذه الفئات تغيير النظام السياسي كي تنعم بما راكمته في الخفاء وهذا يفسر كون قوى الردة هي نفسها القوى الحاكمة في نهاية عمر الدولة السوفيتية الأولى. فهذه القوى عبرت عن مصالح فئة هامة متحكمة بأعصاب الاقتصاد الوطني وكانت الضرورة الجديدة تتطلب منها إسقاط القناع عن وجهها فقط لاغير وهو ما جرى. وفي تجربة دول عديدة في العالم الثالث، ما يحاكي التجربة السوفيتية في سنواتها الأخيرة. فقطاع الدولة الذي انبثق لتسريع النمو ونتيجة لظروف مشابهة تحول بفعل قوانين السوق المنفلتة إلى بقرة حلوب تستفيد منها القوى الفاسدة وقوى السوق التاريخية في هذه البلدان واليوم بعد أن استنفد هذا القطاع دوره برأيهم في تكوين وتعظيم الرساميل الأولية آن الآوان لإطلاق رصاصة الرحمة عليه.
نعود إلى سؤالنا: أي اقتصاد سوق يريدون؟ ماهو اقتصاد السوق الحقيقي برأيهم؟
أمامنا نماذج أربعة والأرجح أن أحدها هو خيارهم فلنبحث عنه:
■ النموذج الرابع: إنهم يطالبون اليوم بالقضاء عليه لأن حجم مشاركتهم في نهب قطاع الدولة غير كافية برأيهم. والظروف الدولية والاقليمية تسمح بشروط نهب أفضل لهم.
■ النموذج الثالث: إنهم يعلنون العداء السافر له.
■ النموذج الثاني: الوصول إليه مستحيل لأنه ممكن فقط في البلدان الرأسمالية المتقدمة أي التي تسود فيها الرأسمالية الاحتكارية وحتى لوكان هذا نموذجهم فإنه مرفوض عقلانياً وأخلاقياً.
■ بقي النموذج الأول؛ وهو على الأرجح ما يدعوننا إلى الالتحاق به: هذا الشكل الذي يتطلب العودة 150 سنة إلى الوراء اقتصاديا ًوسياسياً من أجل إيجاد حل لأزمة الرساميل العالمية التي طبقت النموذج الثاني لديها وتراكمت لديها أرباح هائلة بصورة رساميل نقدية تتطلب الضرورة تدويراه بسرعة وإلا على الدنيا السلام.
إذن هذا هو اقتصاد السوق الحقيقي حسب رأيهم وهو قد طُبق بنجاح في بلدان عديدة مثل روسيا ومصر، أما النتائج فكانت انخفاض معدلات النمو الى مايقارب الصفر، وهو المطلوب، وانخفاض مستوى معيشة أكثرية الناس بشكل مريع وهو المطلوب، وكذلك نهب ثروات هذه البلدان بحجة الانفتاح على العالم الخارجي وهو المطلوب أيضاً.
يبقى سؤال لابد من الإجابة عليه: إذا كان تخصيص مؤسسات الدولة ليس مطلوباً لعدم تبديد أموال القطاع الخاص على قطاع لم يعد ذا جدوى، كما جرى في روسيا مثلاً، فكيف نربط هذا الموقف بفكرة ظهور رجال أعمال أقوياء في روسيا وأوروبا الشرقية داعياً هذه البلدان إلى الاحتذاء بها، من تغيير المناخ السياسي إلى تعلم قواعد اقتصاد السوق إلى تحول رجال الأعمال إلى أقوياء.
رجال الأعمال الأقوياء أصبحوا «أقوياء» في هذه البلدان لأنهم مافيا إجرامية بكل معنى الكلمة، نهبوا الأخضر واليابس من خلال إخضاعهم السلطة السياسية لمصالحهم التي هي جزء منهم والتي غيرت المناخ السياسي فعلاً باتجاه تأليه النموذج الرأسمالي الغربي الذي لم تجن منه شعوبها إلا الفقر والمرض والموت وماتعلم قواعد اقتصاد السوق في هذه البلدان إلا تطبيق معادلة «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، هذه القواعد التي نشرت الإجرام والدعارة والفسادوالبطالة.
■■ أخيراً يجب أن نفهم أنه إذا كان النموذج الروسي وغيره ليس نموذجاً يحتذى فلماذا الاستشهاد به وضرب المثل برجال أعمالهم الأقوياء الذين ما اغتنوا إلا من جراء الخصخصة التي كانت أكبر عملية نهب شهدها التاريخ. هذا ما سنأتي عليه لاحقاً.
■ د. قدري جميل
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.