أكثر من نصف السكان دون مأوى أزمة السكن بين مطرقة الركود الاقتصادي وسندان السياسات الحكومية
السكن الشبابي والقروض السكنية والاستثمار العقاري، عناوين عديدة حاولت الحكومة من خلالها إيجاد حل لمشكلة السكن المتفاقمة، لكن مع ازدياد أعداد العاطلين عن العمل واتساع قاعدة الفقر والإجراءات الحكومية لجهة رفع أسعار الأسمنت بنسبة تزيد عن 50% والركود التضخمي الذي يعيشه الاقتصاد السوري منذ عقود، أُفرغت تلك العناوين من مضامينها وتحولت إلى أنصاف حلول وربما أقل،
خاصة إذا علمنا أن مجموع الوحدات السكنية الموجودة في القطر لاتلبي سوى حاجة ثلث الشريحة السكانية المؤهلة، وهو تفسير يختلف بطبيعة الحال عما أعلنه منذ أيام مدير المؤسسة العامة للإسكان المهندس «عمر غلاونجي» الذي علل الإقبال الكبير على شقق الادخار السكني بانتشار ثقافة تملك البيوت لدى السوريين؟!
فما هي اسباب أزمة السكن في سورية، وماهي عوامل ارتفاع أسعار العقارات، وكيف نظرت الحكومة إلى المشكلة وماهي الإجراءات التي اتخذتها من أجل إيجاد حلول لها؟
أرقام وشهادات
يوجد بحسب تعداد المساكن لعام 2003 في سورية حوالي 2.9مليون مسكن جاهز للسكن، من ضمنها 400 ألف مسكن خالٍ ومغلق، في حين وصل تعداد السكان للعام نفسه حسب المجموعة الإحصائية إلى 17.550 مليون نسمة أي بمعدل 7 أشخاص ضمن المسكن الواحد.
* المهندس خالد كلالي مدير سلامة الغلاف الجوي في وزارة الإدارة المحلية، أكد خلال ملتقى الاستثمار العقاري بأن هناك حوالي 209 منطقة للسكن العشوائي في سورية، تبلغ مساحتها 26.600 هكتار، ويعيش فيها حوالي 30% من عدد السكان في الحضر، وتفتقر هذه المناطق بحسب «كلالي» إلى شروط الحياة الضرورية مثل شبكات الصرف الصحي ومياه الشرب والخدمات، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض المنتقلة مثل الكوليرا والتيفوئيد والإسهالات، مشيراً إلى أن السبب الرئيسي في نمو هذه المناطق هو كلفة الأراضي العالية في المناطق النظامية المخصصة للسكن بالمقارنة مع كلفة الأراضي الزراعية، أما السبب الآخر فهو غياب التخطيط الإقليمي وضعف النشاطات الاقتصادية في الريف وعدم مواكبة المخططات التنظيمية لاحتياجات التوسع خاصة في مناطق السكن العشوائي.
* حسين جمعة ـ صاحب مكتب عقاري بدمشق أوضح بأن هناك ارتفاعاً في أسعار العقارات، مشيراً إلى أن بعض الشقق السكنية ازدادت أسعارها بأكثر من نصف مليون ليرة أي ما يعادل 10 آلاف دولار، وفي بعض الأحياء زادت أكثر من مليون ليرة عما كانت عليه قبل أشهر قليلة، ويُرجع أسباب ذلك إلى ارتفاع أسعار مواد البناء وخاصة الأسمنت الأسود، بعد أن عمدت الحكومة مؤخراً إلى رفع سعر الطن الواحد من 4 آلاف ليرة سورية إلى حوالي 6500 ل.س، ومن الأسباب الأخرى في ارتفاع أسعار العقارات كما يراها صاحب المكتب العقاري هو عدم توفر محاضر للبناء في معظم أنحاء دمشق، ولجوء أغلب المدخرين للاستثمار في العقارات بسبب التذبذب في قيمة العملة الوطنية وعدم جدوى الاستثمار في السيارات، بالإضافة إلى زيادة معدل النمو السكاني الذي لم يواكبه زيادة في عدد الشقق السكنية، مما أدى إلى زيادة الطلب ونقص العرض، الذي أثر بدوره في رفع أسعار السكن.
* السيد قاسم سلمان وهو مدرس في إحدى المدارس الثانوية بدمشق، يرى بأن أزمة السكن إنما تعود إلى عدم جدية الحكومة في إيجاد حل مناسب لهذه المشكلة وأغلب وصفاتها عادت بالنفع على شريحة محددة، مثل القروض السكنية التي طرحتها والتي لم تكن متناسبة أبداً مع دخل المواطن، فمن أجل الحصول على قرض سكني بقيمة 500 ألف ينبغي على الموظف أن يدفع أكثر من 60% من مرتبه لمدة 20عام.
أزمة العرض والفجوة السكانية
على الرغم من وجود أكثر من 2.9 مليون وحدة سكنية تتوزع بين 46% في الريف و54% في الحضر بمعدل 6 ـ 7 أشخاص ضمن المسكن الواحد إلا أن هذا الرقم يتعلق بتعداد السكن الإجمالي وتهمل عدد الشرائح القادرة فعلياً على السكن المستقل سواء من حيث العمر أو من حيث الإمكانات، لذلك سنحاول الانطلاق في التحليل من واقع الإحصاءات الرسمية إلى تقدير الفجوة السكنية بين أرقام الوحدات السكنية المتاحة وحجم الطلب التقديري، أسوة بما يعمل به في دراسات البطالة التي تنطلق من واقع نسب أعداد العاطلين عن العمل إلى القادرين عليه وليس إلى عدد السكان الإجمالي.
بلغ عدد السكان في سورية ممن تجاوزت أعمارهم 20 عاماً حوالي 9.5 مليون نسمة في نهاية العام 2003 بينما وصل عدد الوحدات السكنية (المشغولة والخالية) في العام نفسه إلى حوالي 2.9 مليون وحدة سكنية، وباعتبار نسبة الاشغالية التامة والتباين الحاد بين مناطق الحضر والريف، نستطيع افتراض أن أقل من ثلث الشريحة المذكورة هم من ذوي السكن المستقل (سواء تملك أو إيجار). وهذا يعني أنه يقطن مع كل شخص مستقل بوحدة سكنية (ثلاثة أشخاص) بالإضافة إلى الأولاد دون العشرين من العمر، من جهة ثانية بلغ متوسط التزايد السنوي لشريحة السكان الذين تتجاوز أعمارهم العشرين عام بين أعوام 2000 ـ 2003 بحدود 250 ألف نسمة، وضمن الفرضية المذكورة أن «ثلث الشريحة يقطن منزلاً سواء بالتملك أو الاستئجار» نجد بأن عدد الوحدات السكنية المطلوبة خلال الفترة ا لمذكورة هي بحدود 83 الف وحدة سكنية، وعند العودة إلى وسطي الوحدات السكنية الجديدة في القطاع الخاص والتعاوني خلال أعوام 2000 ـ 2003 نجد بأنها تقارب 18.5 ألف وحدة سكنية، أما وسطي عدد الوحدات السكنية في القطاع العام للفترة نفسها فإنها كانت بحدود 15.5 ألف وحدة سكنية، أي أننا نجد أنفسنا أمام 34 ألف وحدة سكنية مقابل طلب يصل إلى 83 ألف وحدة سكنية خلال الفترة المذكورة، أي بفارق يصل إلى (-49) وبنسبة تصل إلى 244% وهو رقم يثبت بما لايدع مجالاً للشك بأن السبب الرئيسي لأزمة السكن وارتفاع أسعارها هو عدم تناسب الكميات المطلوبة للسكن مع الكميات المطروحة، وهذا الخلل في المعادلة قد أدى في النهاية إلى قفز أسعار العقارات لأرقام قياسية تتناسب طرداً مع نسبة الفارق بين الطلب والعرض
أزمة طلب وركود تضخمي
أزمة السكن لم تقف عند حدود الخلل الموجود في جانب العرض، بل ازدادت تعقيداً وتعقداً مع اتصالها بطرف المعادلة الآخر «أي الطلب» حيث أدى ازدياد معدل البطالة وانخفاض القوة الشرائية، التي لم تساهم الزيادات الأخيرة للأجور في معالجتها، نظراً لطبيعة الخلل البنيوي التي تحكم علاقة الأسعار بالأجورإلى أنخفاض الطلب على شراء المساكن،حيث لايساعد مستوى الأجور الحالي المواطن من أجل تسديد الأقساط المطلوبة للسكن إذا فكر في الحصول على قرض. فمن أجل الحصول على قرض بقيمة 500 ألف ليرة سورية لمدة عشرين عاماً يسدد بأقساط ثابتة وبفائدة 4% فقط، فإنه يتعين على المقترض أن يدفع 3000 ل.س كل شهر لمدة عشرين عاماً، وفي حال الإقدام على هذه المغامرة سنكتشف بأن الموظف سيدفع أكثر من نصف مرتبه منذ بداية تعيينه وحتى خروجه إلى التقاعد، كي يحصل على غرفة متواضعة مع منتفعاتها في إحدى مناطق السكن العشوائي. أي أننا نجد أنفسنا أمام سياسة تمويلية لاتراعي مستوى الأجر المتدني أو بعبارة أدق فإن مستوى الأجور الحالي لايسمح للمواطن بأن يحصل على ترف قرض سكني، لذلك أفرغت تلك القروض من محتواها بعد أن تحولت إلى مجال للمضاربة وهدر في الإمكانات، لأن تلك القروض اتجهت في الأساس إما إلى صغار المستثمرين الراغبين ببناء مساكن شخصية مخالفة، مسببة في هدر بالوفورات كان من الممكن تحقيقها في حال تم التمويل باتجاه بناء تجمعات سكنية منظمة، أو أنها اتجهت نحو المواطنين الراغبين بشراء مساكن جاهزة، وماترتب عليها من دفع مبالغ إضافية كبيرة مقارنة بسعر التكلفة خاصة في فترات المضاربة.
إن السياسة المصرفية غير المستندة إلى رؤية مستقبلية وتكاملية قد أدت في النهاية إلى زيادة مساحات السكن العشوائي وزيادة في هدر الإمكانات وشفط للسيولة التي كان من الممكن أن تتجه نحو القطاعات الأخرى، لأنها بصيغتها الراهنة لم تعد بالنفع إلا على أشخاص معدودين كانوا بعيدين افتراضياً عن أهداف التمويل المصرفي، وهو مايفسر إلى حد بعيد أسباب قرار المصرف العقاري بوقف القروض السكنية. من جانب آخر أدى ازدياد معدل البطالة وعدم قدرة السياسات الحكومية على استيعاب البطالة الوافدة إلى تدهور وانخفاض في القوة الشرائية أثرت بدورها على الطلب، حيث تشير الأرقام الإحصائية الوسطية للقوى العاملة إلى تقدير نسبة البطالة بـ 12% من قوة العمل، بالإضافة إلى دخول أكثر من 250 ألف شخص سنوياً إلى سوق العمل، وهو رقم مرجح للازدياد بعد التغييرات الإقليمية في المنطقة «لبنان والعراق» والتي تركت آثارا ًبالغة الخطورة على سوق العمل لم تكن مأخوذة بالحسبان، بالإضافة إلى سياسات إعادة الهيكلة وقانون التقاعد وقانون العمل الجديد التي ستؤدي حكماً مع قلة فرص العمل الجديدة إلى طرح بطالة جديدة، ستزيد من التدهور الحاد في مستوى المعيشة وبالتالي انخفاض الطلب الفعلي على السكن وتزايد عدد طالبي السكن الكامنين والمضطرين للسكن عند أهاليهم، لنكون بذلك أمام ظاهرة فريدة تشكل إحداثياتها انخفاضاً في العرض والطلب معاً وارتفاعاً مستمراً في الأسعار، ولتتوضح بشكل أدق ظاهرة الركود التضخمي في مجال العقارات وبالتالي نجد أنفسنا مجدداً مع وضع معقد ومركب يحتاج بدوره إلى حلول مركبة وليس إلى حلول ترقيعية لاتزيد المشكلة إلا تعقيداً.
السكن العشوائي والقنبلة الموقوتة
تصل نسبة السكن العشوائي غير المنظم إلى 50% من السكن الإجمالي على مستوى البلاد، في حين وصلت نسبة سكان المخالفات إلى 45% من سكان دمشق و 35 % من سكان حلب و 42% من سكان حمص، وإذا كانت ظاهرة السكن العشوائي تعود بالأساس إلى عقود بسبب النزوح الذي حدث من المناطق المحتلة، فإن السياسات الاقتصادية والمالية «الانكماشية» التي اتبعتها الحكومات السابقة على مدى العقود المتتالية قد أدت بالنهاية إلى حالة الركود التضخمي، لتشهد مناطق السكن العشوائي نمواً سريعاً دون أن تخضع لأي نوع من المعايير الفنية والخدمية والصحية، لذلك تسببت هذه المناطق في إرباك حقيقي لشبكة المياه والكهرباء والنقل أدت بدورها إلى تحميل خزينة الدولة مبالغ إضافية كان يمكن استثمارها في بناء وحدات سكنية نظامية، بالإضافة إلى تشويه المنظر العمراني، لكن الأخطر في ذلك كله هو وقوع جزء كبير من السكن العشوائي في مناطق معروفة بعدم استقرارها الجيولوجي، فقد كشفت إحدى الدراسات عن وجود منطقة خطرة في دمشق بطول عشرة كيلو مترات وعرض 20 ـ 30 متراً تمتد من منطقة مشفى تشرين حتى مزة 86 مروراً بعش الورور وبرزة والشيخ محي الدين وركن الدين والمهاجرين، ويمتد تحت هذه المنطقة مايسمى بنطاق التكهف تحت السطحي، وهو عبارة عن مغاور وكهوف تشكلت من انحلال طبقات الكلس الغضاري، حيث شيدت فوق هذه المنطقة الكثير من المباني، لنجد أنفسنا أمام قنبلة موقوتة قابلة للانفجار عند حدوث أي اهتزاز دون أن تتخذ الجهات المسؤولة أي إجراء لتدارك الآثار البالغة الخطورة التي يمكن أن تحدثها هذه المناطق على الصعيد الإنساني والاجتماعي والاقتصادي.
النفق المظلم
سنوات طويلة وأزمة السكن تزداد تعقيداَ حتى دخلت في النفق المظلم وذلك دون أن تضع الحكومات المتعاقبة أية استراتيجية واضحة ومتكاملة في مواجهة حلها. وإذا كان المسكن عموما يرمز في الوعي الشعبي الجمعي إلى أنه تمسك بالأرض والدفاع عنها،فإنه مع التحديات المفروضة يصبح مسألة اجتماعية وسياسية من الدرجة الأولى وسيكون من الأهمية وضع حل كامل لها إذا أردنا الصمود أمام التحديات المفروضة.
■ كاسترو نسيّ
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.