القروض تبتلع الاقتصاد والمواطن يدفع الثمن

هل يستمتع الفريق الاقتصادي برؤية أموال الشعب السوري مكدسة في المصارف العامة والخاصة، تنعم بدف أقبيتها، أو بدفء أقبية المصارف الخارجية؟  وما معنى هذه  السياسة الاقتصادية الهادفة إلى الاقتراض، ثم الاقتراض؟ وأين موارد الاقتصاد السوري المالية، وثرواته المادية؟ وهل عجزت تلك الموارد عن تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة وبسيطة جداً؟ ومن سيتحمل عبء المديونية من أقساط وفوائد في المستقبل؟ أليست القروض الحالية مصادرة للحقوق الاقتصادية للأجيال القادمة؟  ثم ألا توجد بدائل اقتصادية محلية للقروض الخارجية؟

كلها أسئلة فتحتها عمليات الاقتراض التي ما زالت مستمرة من الخارج، والتي بدأت تتطور في ظل توجه الحكومة السورية نحو اقتصاد السوق بشكل واضح، واستخدام وتطبيق كل أدواته الاقتصادية على المستويين الكلي والجزئي، وها هو القرض الماليزي الذي حصلت عليه سورية منذ أسابيع قليلة يفتح الباب مجدداً أمام جدوى هذه القروض وأمام النتائج الاقتصادية والاجتماعية منها، والمشاريع التي وجه إليها، ذلك القرض الذي يهدف إلى تمويل مشروع محطات معالجة  مياه الشرب والصرف الصحي في محافظة ريف دمشق والبالغ عددها 23 محطة صرف و15 محطة معالجة مياه وتبلغ قيمة القرض 30 مليون يورو تسدد على عشر سنوات منها 3 سنوات فترة سماح.
وكان وزير الإسكان قد أوضح في وقت سابق إن  هذا المشروع سيخدم التجمعات السكنية من 5000 نسمة إلى 200 ألف نسمة، كما سيتم تنفيذ 15 وحدة تنقية لمياه آبار الشرب في الغوطة الشرقية حيث تبلغ القيمة التقديرية لتنفيذ المشروع 60 مليون يورو منها 30 مليون يورو من القرض ومثلها تمولها الحكومة السورية. مع العلم أن سورية وقعت هذا القرض في الوقت الذي وصلت فيه الأرباح الصافية للمصرف التجاري السوري في عام 2005 إلى 7.391 مليار ليرة، وفي عام 2004 كانت قدرت تلك الأرباح بـ19.653 مليار ليرة، أليست مفارقة كبيرة أن تجمد أموالنا، ثم نقترض من الخارج لتمويل مشاريع مثل هذه المشاريع البسيطة؟
أليست أموال الشعب السوي ذاتها المودعة في هذه المصارف أجدى بالتشغيل والعمل ضمن اقتصادها؟ ولماذا تبقى أموالنا عذراء ونركض وراء أموال الآخرين لنتزوجها؟ وإلى متى ستبقى أموالنا عديمة السيادة على ذاتها وفي بلدها ومكدسة مثل رزم الورق البالية في المصارف؟
 
قروض لكل شيء

من العسير جداً التحدث عن جميع القروض والمنح التي حصلت عليها سورية، والقطاعات التي مولتها لكن من اليسير جدا معرفة أن لهذه القروض دوراً وظيفيا "إداريا وتنظيميا" فقط وليس "اقتصاديا وإنتاجيا" والدلائل على ذلك كثيرة ننطلق من أولها، وهو أننا لم نجد أبدا في قائمة تلك القروض والمنح أي قرض موجه لبناء مصنع جديد أو مشروع استراتيجي وحيوي ينعش الاقتصاد أو مشروع استثماري نوعي، فحتى القروض والمنح التي حصلت عليها وزارة الصناعة كانت ذات دور إداري وتنظيمي بحت لعمل الوزارة كالقرض الذي وقعت عليه مع أسبانيا العام الماضي بقيمة 500 ألف دولار لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والمنحة التي وقعت عليها من الاتحاد الأوربي في عام 2000 بقيمة 21 مليون يورو لمشروع التطوير والتحديث المؤسساتي، والمنحة الموقعة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2002 لوضع استراتيجية للتنمية الصناعية وباستثناء القرضين الذين حصلت عليهما الوزارة منذ 13 عاماً لمشروعي الأسمدة الفوسفاتية بتدمر بقيمة 30 مليون دينار كويتي، ومشروع معمل غزل إدلب بقيمة 33.5 مليون دينار كويتي، لم تحصل حتى الآن على قرض مشابه له ناهيك عن العديد من المنح والقروض التي حصلت عليها الوزارة لتمويل التنظيم وليس لتمويل الإنتاج، وهذا الأمر ينطبق تماماً على باقي الوزارات إذ لم تحصل أي منها على قروض لتمويل مشروعات إنتاجية ضخمة، وبالتالي كانت الصفة الغالبة على القروض والمنح التي تحصل عليها سورية أنها قروض موجهة للاستهلاك الخفيف فقط ولشراء وتركيب مستلزمات البنية التحتية مثل القرضين الذين حصلت عليها وزارة الكهرباء من بنك الاستثمار الأوربي بقيمة 190 مليون يورو من أجل نقل وتوزيع الكهرباء ( عامي 2000 و 2001 ) والقرض الذي حصلت عليه وزارة النقل بقيمة 50 مليون يورو من بنك الاستثمار الأوربي أيضا لتطوير ميناء طرطوس ( عام 2003 ).
 
صدق أولا تصدق

من ناحية ثانية نجد أن هناك العديد من القروض التي وجهت لمشاريع قد نستغرب جدا أن الدولة تقترض ملايين الدولارات من أجل تمويلها مثل مشروع مجاري حلب بقيمة 12.5 مليون دينار كويتي ( عام 1990 ) ومشروع مجاري حمص وحماة بقيمة 9.5 مليون دينار كويتي ( عام 1990 ) وطريق أريحا اللاذقية بقيمة 30 مليون دينار كويتي (عام 2000 ) ومشروع ري الخابور بقيمة 15 مليون دينار كويتي ( عام 1990 ) وكل هذه المشاريع كانت ممولة من الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بالكويت يضاف إليها مشروع الصرف الصحي لمدينة دمشق بقيمة 30 مليون دينار كويتي ( عام 1990 ) ومشروع طريق الرقة دير الزور بقيمة 6 مليون دينار كويتي ( عام 1999 ) وقد كانت ممولة من الصندوق الكويتي. هذه المشاريع تجعلنا نتساءل عن إمكانيات الحكومة وعن موازناتها الاستثمارية التي كانت تخصصها سنوياً ضمن الموازنة العامة للدولة فإذا كانت إمكانيات الحكومة المالية لا تسمح لها بتمويل مثل هذه المشاريع العادية جدا والبسيطة جداً فماذا عن المشاريع الكبيرة والاستراتيجية الأخرى التي يحتاجها الاقتصاد؟ أو لماذا لم تخصص الحكومة خلال كل الفترة السابقة أموالا استثمارية لتنفيذ تلك المشاريع بدلا من اقتراضها من الخارج؟ يضاف إلى ذلك أن هذه المشاريع وغيرها قد مولت من الخارج في الوقت الذي كانت تحصل فيه سورية على عائدات مالية متزايدة من النفط، ألا يوحي ذلك الوضع بتناقض ما في السياسة الاقتصادية؟
 
للمنح مكان آخر

إن كانت هذه المشاريع المذكورة قد وجهت إلى قضايا البنية التحتية مباشرة فإن العديد منها لم توجه لذلك وإنما وجهت لنشاطات عامة وشاملة جدا مثل برنامج التدريب للحفاظ على التراث الثقافي بقيمة 2 مليون يورو ( منحة ) والمعهد العالي لإدارة الأعمال بقيمة 14 مليون يورو ( منحة ) وبرنامج دعم القطاع المصرفي بقيمة 6 مليون يورو ( منحة ) ومشروع التطوير والتحديث المؤسساتي بقيمة 21 مليون يورو ( منحة ) وكلها ممولة من الاتحاد الأوربي في سياق التعاون المالي بين سوريا والاتحاد الأوربي والملاحظ من هذه القروض أنها موجهة لمشاريع رمزية أكثر منها مشاريع حقيقية وهي تخدم القطاع الإداري في جهاز الدولة ولا تخدم القطاع الإنتاجي، واللافت للنظر هو أننا لماذا لم ننفذ مثل تلك المشاريع الإدارية وحدنا سابقا ولماذا انتظرنا الاتحاد الأوربي ليقدم لنا المنح والقروض لتنفيذها؟ وهل تقوم فلسفة الإصلاح الاقتصادي والإداري في سورية على تمويل ذلك الإصلاح من الخارج؟ والأكثر أهمية من ذلك ماذا لو لم يكن الاتحاد الأوربي ممولا لمثل هذا النوع من المشاريع فهل كنا سنبقى دون إصلاح إداري أم أننا كنا سنبحث عن مصدر بديل آخر للتمويل؟
 
هل كانت القروض محايدة

لمعرفة مدى مساهمة القروض الحقيقية في الاقتصاد لا بد من البحث والتفتيش عن المردود الاقتصادي الذي تقدمه هذه القروض للاقتصاد وتكشف الحقائق أن  القروض والمنح والهبات التي تحصل عليها سورية إنما هي موجهة إلى التنظيم المؤسسي مثل دعم الإدارات والدراسات، و أن هذه المنح والقروض  تواكب الانتقال من مرحلة الاقتصاد المركزي إلى مرحلة اقتصاد السوق حيث تكون الدولة أقل انغماسا في عملية التمويل المباشر، حيث ينظر المخططون السوريون إلى القروض الخارجية على أنها بديل استثماري فقط دون الأخذ بعين الاعتبار الآثار الاجتماعية السياسية المترتبة عليها مستقبلاً، أي أنهم ينظرون إلى هذه القروض كبديل استثماري حسب العائد والمردود وأن يكون هذا المردود هو الأساس في عملية الاقتراض.
تبدو القروض والمنح التي تحصل عليها سورية كأنها ذات أثر محايد في عملية التنمية التي يروج لها منذ عقود، أي أن هذه القروض لم تقدم الكثير من الترابطات الاقتصادية أو تفعل الكثير من التغيرات الاجتماعية بدلالة القطاعات التي وجهت إليها وأن هذه التغييرات إن حدثت فقد بقيت في الحدود الدنيا وبالتالي فقد بقيت هذه القروض والمنح بمستوى فعالية متدنية نوعا ما وإذا سمحنا لأنفسنا بمقامرة اقتصادية سنقول بأن الفساد قد نال حقه وحصته من تلك القروض بطريقة أو بأخرى، وإن تلك القروض والمنح قد بقيت محايدة أو ضعيفة التأثير في معدلات النمو الاقتصادي بدليل أن تلك المعدلات تنحو نحو الانخفاض منذ عدة سنوات رغم استمرار الحصول على المنح والقروض لتصل إلى أدنى مستوياتها تقريبا عام 2004 إذ أنها لم تتجاوز 1.4% بأسعار عام 2000  الثابتة بل إنها وصلت في بعض السنوات إلى أقل من 1% كما في عام 2000 ذاته، وبالوقت نفسه تحملت سورية طيلة العقود الماضية أعباء تسديد تلك القروض.
هذه  هي سياسة التمويل بالقروض الخارجية التي اتبعتها الحكومة السورية منذ عقود طويلة، ملايين الدولارات دخلت ولا آثار تنموية حقيقية ظهرت في الاقتصاد، وملايين الدولارات مكدسة في المصارف، ولا آثار تنموية أيضاً،  والنتيجة الوحيدة التي وصلنا إليها " لا تنمية"، لا بأموالنا المحلية، ولا بالأموال المقترضة.