20 ألف بسطة على أرصفة دمشق!! تزايد أعدادها نتاج الأزمة الحالية.. واستكمال لأزمة اقتصادية – اجتماعية مستمرة
البسطات، التي تشهد مداً غير مسبوق في شوارعنا هذه الأيام، باتت تتقاسم الأرصفة العامة مع المارة دون رقيب، لا بل إن حصتها هي الأكبر، فتزايدها يعتبر أحد مفرزات الأزمة الحالية ، وفي الوقت ذاته، تعد تعبيراً عن أزمة شباب يبحثون عن فرصة عمل بعدما عصفت الأزمة الأمنية- السياسية الحالية بوظائفهم في شركات القطاع الخاص والمشترك..
تزايد البسطات في هذه الأوقات بالذات، ما هو إلا استكمال لأزمة جيش من العاطلين عن العمل، كانوا ضحية السياسات الاقتصادية- الاجتماعية التي طُبقت سابقاً، وما تزال، فما التزايد في أعدادها بأوقات انحسار رقابة البلديات والجهات الأخرى، كالتي نعيشها اليوم، إلا تأكيدٌ لهذه السلسلة من المتعديات الاقتصادية- الاجتماعية أي (البطالة – الفقر) أنتجت عبر سياسات اقتصادية مشبوهة، في اقتصاد مشوه أساساً، هذه العاهة المستديمة في جسم الاقتصاد الوطني، وهي البسطات، ويبقى حلها مرهوناًُ بالبدائل العادلة المتاحة..
20 ألف بسطة
ما يقارب 20 ألف بسطة تنتشر في شوارع وأرصفة دمشق، هذا الرقم غير الرسمي الذي تم تسريبه لوزير الاقتصاد والتجارة كعدد حالي لهذه البسطات، وهذا الرقم لم يكن ليتعدى(5 إلى 8) ألاف في أسوأ الأحوال، أي أن هذه الأزمة ضاعفت أعداد البسطات بمقدار ثلاثة أضعاف تقريباً، فمنطقة جسر الرئيس وحدها (البرامكة) تحوي ما يقارب 500 بسطة متنقلة على أقل تقدير، فالبسطات تنتشر على يمين ويسار الرصيف، أي أن ثلثي الرصيف الدمشقي يعمل اليوم في اقتصاد الظل، ليبقى الثلث الأخر لمارة يتزاحمون من أجل المرور والوصول إلى جامعاتهم أو مراكز عملهم..
تشغل60% من الأرصفة
مشهد انتشار البسطات على أرصفة الطرقات وأبواب المحلات التجارية بات أمراً اعتيادياً وطبيعياً، فلم تعد تخلو منطقة في دمشق أو أي شارع من شوارعها التجارية من «أرتال» البسطات التي تستحوذ على 65% من مساحة أرصفتها، فالبسطات تنتشر من شارعي الحمراء والشعلان وصولاً إلى سوق الحميدية، والطلياني، والقصاع، والبرامكة، و تمتد القائمة إلى عشرات الأسواق التجارية في دمشق وحدها..
وللآسيويين نصيب
السوريون المجبرون على مزاولة مهنة الكر والفر فيما مضى ببسطاتهم المتحركة المتنقلة، ليسوا وحدهم من يفترشون شوارعنا، بل أتى زملاؤهم من شرق أسيا ليقاسموهم باب رزقهم، وهؤلاء ليسوا بقلائل، وهم من امتهنوا «مبازرة» موظفي البلديات، عملاً بمقولة «ما حدا أحسن من حدا»، فهم العالمون بأسرار مهنتهم، والقابضون على مفاتيح الاستمرار وفن البقاء والحياة، في سوق تحكمه شريعة الغاب، حيث البقاء للأقوى، وفي ظل عدم وجود أية محاولة جدية لتنظيم هذا العمل العشوائي، وتبقى القاعدة على أرض المعركة من أجل الحياة هي تلك القائلة: "إذا ما بتبكر بتروح عليك"، فهم يتسابقون للمجيء مبكراً لحجز أماكن مميزة لمحلاتهم المتنقلة..
العمالة الوافدة تضيق الخناق أكثر فأكثر على بائعي البسطات السوريين، وجنسية هذه العمالة هي صينية وبنغلادشية وشرق آسيوية عموماً إضافة إلى الروسية وغيرها، وتعرض بسطاتهم بضائع متنوعة (الإكسسوارات، والعطور، وملابس الأطفال وألعابهم، وملابس الرجال والنساء، والأحذية) مستغلين الأماكن والشوارع التي تشهد ازدحاماً لا سابق له..
أنين تاجر متهرب
التجار كعادتهم.. تكاد تصل شكواهم للسماء من انتشار البسطات، وهم العاملون ليلاً و نهاراً ودون كلل على قطع أرزاق أصحاب البسطات، لأنهم باتوا _وبحسب التجار_ عبئاً عليهم، وقطعوا أرزاقهم، وفي المقابل لا يتوجب عليهم أية التزامات كتلك التي يقدمها أصحاب هذه المحال حسب زعمهم وتقديرهم..
إن إدعاء أصحاب المحال أن البسطات عالة عليهم وعلى البلد، من باب أن البسطجية لا يدفعون لا ضريبةً ولا رسوماً بعكس "إلتزاماتهم" المفرطة في سداد ما يستحق عليهم من ضرائب ورسوم غير واقعي وغير صحيح، ويبدو أن أصحاب المحال التجارية يضخمون عدوهم كعادة بعض الدول ليجدوا مبرراً لمحاربته، فالالتزام بتسديد المستحقات على أغلب أصحاب المحال التجارية – والجميع يعرف – ما هو إلا كذبة كبرى، تفندها أرقام التهرب الضريبي الذي يعيشه الاقتصاد السوري، والتجار هم عماده، والمضاف أساساً إلى تهربهم الجمركي باعتراف العديد من التجار أنفسهم، بحجة التعرفة الجمركية العالية..
خيطوا بغير مسلة
للتجار نقول: «خيطوا بغير مسلة»، فدفاتر حساباتكم الثنائية تفضحكم، فإحداها حقيقية سرية لا يراها إلا معدّها في غرفكم التجارية المغلقة، والأخرى تقدم للمالية، ويتفنن محاسبوكم القانونيون في اختصارها، وجعلها تمارس أقسى أنواع «الريجيم»، وبكل ما سيتبع هذه الفاتورة أيضاً من مساومات تجري للتخفيض والتقليل من حجمها بالاتفاق مع مدراء المالية في المحافظات، وعلى الرغم من أن هذه الفاتورة الوهمية هي أقل من الحقيقية بثلاثة أو أربعة أضعاف!..فالتحالف بين أصحاب المحال وموظف المالية، يوصلنا في المحصلة لتجار لا يدفعون ضرائب حقيقية، ولكن ضرائب وهمية لا تساوي شيئاً من حجم أعمالهم ومبيعاتهم، وهذا ما لا يمكن حله من الناحية الإدارية إلا بالفوترة الالكترونية، كحل جزئي ونسبي لفساد موظف المالية، مما يحرم الخزينة العامة للدولة من مئات المليارات سنوياً جراء هذا التلاعب في الحسابات والأرباح.
البسطة «هي الحل»!
جاءت الأزمة الحالية لتفجر وضعاً اقتصادياً محتقناً وموبوءاً بالأصل، وأحدثت آثاراً اقتصادية سلبية غير قليلة، وركوداً في عدد من القطاعات الاقتصادية الهامة، وأدت لإغلاق العديد من المعامل والمصانع، وقام العديد من أصحاب المنشآت الخاصة بتسريح عمالهم بشكل تعسفي، أو إجبارهم على تقديم استقالات وإجازات مؤقتة، وهذا يضاف إلى مجتمع يعاني أساساً من تضخم ظاهرة البطالة، بالإضافة إلى اعتبار وزير الاقتصاد والتجارة أن هذه البسطات نظامية حالياً ما لم يتم تأمين البديل، مما خفف من نسبة الرقابة على هؤلاء، وهذه العوامل مجتمعة أدت إلى تعزيز ظاهرة البسطات وانتشارها في شوارعنا..
الفقر وانعدام فرص العمل هو من دفع أغلب أصحاب هذه البسطات للعمل متجولين "يتلقطون" أرزاقهم من على الأرصفة والطرقات، ولو كان لدى أغلبهم بديلْ لما لجؤوا إلى البسطة كوسيلة لتأمين معيشتهم، لتحل البسطة منقذاً وحيداً أمام هؤلاء، فما أجبرهم على مُر التنقل و«الشنططة» على شوارع العاصمة سوى ما هو أمر منه، وهو الجوع، والعيش عالة على مجتمع غير قادر على إعالته!.
«استعصاء» البطالة
ما «جبرك عالمرّ غير الأمر»، هو المعبر الأدق عن حال أصحاب هذه البسطات، فعجز الحكومات السابقة عن تأمين فرص عمل لائقة لهم هو من دفعهم إلى هذا الخيار، فهناك بحسب الأرقام الرسمية 500 ألف عاطل عن العمل، بينما تقدر بعض الاوساط الاقتصادية نسبة البطالة بنحو 15%، أي ما يقارب مليون عاطل عن العمل، وبهذه الحالة باتت البطالة إحدى المشكلات والأمراض الهيكلية المستعصية في جسم الاقتصاد الوطني، فالإدارات الاقتصادية السابقة لم تكلف نفسها عناء محاولة إيجاد حل لهذه المشكلة، بل إن سياستها وخططها زادت البطالة عمقاً واستعصاءً..
أماكن مخصَّصة
ضبط انتشار الإشغالات، ومنع أصحاب هذه البسطات دون بديل لن يكون حلاً، لأنه سيحرم 20 ألف عائلة في أقل الاعتبارات من مصدر رزقهم ومعيشتهم، وقطع الأرزاق قد يكون في أغلب الأحيان أكثر صعوبة من قطع الأعناق، فتخصيص مكان أو حيز محدد في أسواق شعبية تؤسس لهذه البسطات وهؤلاء المتعيشين قد يكون أحد الحلول المناسبة..
أساليب للتحايل
كانت البسطات ممنوعة ويلاحق أصحابها وتتم مصادرة المنتجات بالإضافة إلى فرض الغرامة وأحيانا السجن، فالمطاردات التي كانت تجري في السابق لأصحاب "البسطات" للحيلولة دون مزاولة أعمالهم لم تجد نفعاً، بل زادتهم تشبثاً بعملهم، ودفعتهم لابتكار أساليب متنوعة يحتالون فيها على الرقابة، لأن المطلوب هو مورد رزق بديل بالدرجة الأولى، فالحاجة لتحسين مستوى المعيشة هي التي تدفع باتجاه ترسيخ اقتصاد الظل والحفاظ عليه، وإنهائه دون حلول بديلة عادلة تعني حرمان هذا الكم الكبير من الأسر من مصدر أساسي وضروري للدخل غير قادرين على الاستغناء عنه، أو استبداله ببديل غير متوفر أساساً!..
الإحصاء وحده لا يكفي
الإحصاء وحده لن يؤدي إلى إيجاد الحلول الضرورية لتنظيم اقتصاد الظل، ولن يمكن هذا الأسلوب من إدخال هذا الاقتصاد في الاقتصاد الحقيقي أيضاً، كما أن المطاردة اليومية التي تقوم بها البلديات ودورياتها وبعض الجهات الإدارية في المحافظات السورية لقمع هذا النشاطات غير القانونية لن تكون كافية أيضاً، ولن تجدي نفعاً، وهذا ليس من باب اليأس أو القبول بالأمر الواقع، ولا من باب القول بعدم ضرورة تنظيم هذا النوع من الاقتصاد، لا بل من باب الاعتراف بالواقع بكل تفاصيله ومكوناته، فالحاجة هي التي ترسخ – في أغلب الأحيان - هذا الاقتصاد، وإنهاء وجوده أمر شبه مستحيل، لكن تنظيمه وارد وممكن بالتأكيد، ولكن بشروط، أولها أن يتم ذلك التنظيم على مراحل بما يراعي الأسباب التي أدت لنشأته، وضمن شروط تساهم وتدفع إلى تنظيمه لا إلى زيادة تعتيمه وإخفاءه.
بصراحة
ستبقى البسطات ضرورة لسببين أساسيين هما البطالة وتدني مستوى معيشة السوريين، ما لم تحقق الحكومة الحالية اختراقاً جدياً من خلال رفعها مستوى معيشة السوريين وكسر جدار البطالة الصامت، فالبسطات أرخص، وشريحة غير قليلة من السوريين تفضل التسوق منها، واقتناء معروضاتها من الألبسة وأدوات التجميل، والكتب، والدخان المهرّب، ومختلف الأجهزة الكهربائية، وذلك بفضل الأسعار الرخيصة، وقبول أصحابها بحد أدنى من الأرباح لا يرضى به التجار مطلقاً، وهم الطامحون لربح أضعاف أسعار موادهم وسلعهم، فالبسطة تبيع بأقل من سعر المحل التجاري بضعفين تقريباً..
ومن جهة أخرى، فإن البطالة التي يعيشها الشباب السوري الآن، تجيز لنا القول، إن باعة البسطات لهم الحق في العيش، وفي إيجاد مداخيل أو مصادر لرزقهم ودخلهم، وبالتالي لا يجب أن يكون الحل على حساب هؤلاء كرمى عيون التجار..