التضخم في سورية.. والسياسات الليبرالية

ارتفع المؤشر العام للأسعار في أربعة الأشهر الأولى «كانون الثاني ــ نيسان» من عام 2008 حسب الرقم القياسي العام السوري الذي يعده المكتب المركزي للإحصاء، بنسبة 13 % (ما يعادل 39 % سنوياً). وارتفع مؤشر أسعار الأغذية والمشروبات (وهو يمثل 42 % من سلة المؤشر العام) بنسبة 23% (ما يعادل 69 % سنوياً) في الفترة نفسها.

وفي عام 2007 ارتفع المؤشر العام للأسعار 4.5 بالمئة، ومؤشر أسعار الأغذية 9 %. لكن معدل التضخم المأخوذ من فارق معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي النقدي والحقيقي في 2007، ارتفع بنسبة 13 %، كما هو مبين أدناه، ويعتقد مراقبون اقتصاديون أن معدلات التضخم في سورية أعلى بكثير، وتتراوح ما بين 30 – 70 %.

أسباب التضخم ‏

أولاً ـ طلب عال على السلع والخدمات يفوق طاقة الاقتصاد الوطني على تلبية مستويات الطلب العالية في المدى القصير، وينعكس بارتفاع الأسعار. ‏

ثانياً ـ ارتفاع في أسعار عوامل الإنتاج من مواد وآلات وتجهيزات وعمالة، وهو ما يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج، فتنعكس في ارتفاع أسعار المنتجات.

ثالثاً ـ مبالغة كبار المنتجين وتجار الجملة في الحصول على أرباح بالاستفادة من صعوبة حصول المستهلكين وتجار المفرق على المعلومات عن السلع وأسعارها ومواصفاتها وأماكن توفرها وبيعها، وغياب المنافسة، وتحكم القلة في الأسواق ما يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار. ‏

 هذه الأسباب كلها متوفرة في البيئة الاقتصادية الاجتماعية السورية، ‏وثمة فساد مستشر تتأتى منه دخول كبيرة غير ناتجة عن جهد وتعب في نشاطات إنتاجية أو خدمية يمكن إدخالها في حسابات الناتج القومي الإجمالي. ‏ويستسهل أصحاب هذه الدخول السهلة الكسب صرفها دون حساب على سلع وخدمات لم ينتجوها، فيرفعون بذلك الأسعار، ويزيدون من فاتورة الاستيراد «انظر فقط إلى أعداد السيارات الجديدة التي ترمى في شوارع المدينة كل يوم والزيادات الكبيرة في استهلاك البنزين». من جهة أخرى، جاء رفع الدعم جزئياً عن المازوت وزيادة أسعار المشتقات النفطية الأخرى، وكذلك زيادة أسعار السلع الغذائية المستوردة (ذرة، أرز، شعير، زيوت، سمون...)، وهو ما يمكن أن نسميه تضخماً مستورداً ‏ناتجاً عن ارتفاع أسعار البترول والمحاصيل والمواد في العالم، ليزيد من ضخامة فاتورة المستوردات، ما أدى في المحصلة إلى ارتفاع الأسعار محلياً.. ‏وقد جاء توقيت رفع الدعم في أسوأ بيئة اقتصادية عالمية ومحلية، وكان تأثيره الأول في رفع تكلفة النقل التي ساهمت في ارتفاع أسعار المواد التي يتم نقلها. وفي تأثيره الثاني أدى ارتفاع سعر المازوت كوقود، أحد مدخلات الإنتاج الأساسية في الصناعة، إلى زيادة تكاليف الإنتاج الذي انعكس زيادة في أسعار المنتجات الصناعية على باب المصنع أي حتى قبل توزيعها. ‏ كما ساهم النقص الكبير في مواسم الإنتاج الزراعي السوري بسبب الظروف المناخية في إحداث نقص كبير في إنتاج المحاصيل السورية من قمح وشعير وذرة وعدس وحمص ومواد علفية وخضار وفواكه، وقد أدى نقص المواد العلفية إلى ارتفاع كبير في أسعارها، ما دفع المربين إلى عرض الأغنام بكثرة للتخلص من التكلفة العالية لتنميتها «تسمينها». ومن غير المطمئن الانخفاض النسبي الحالي في أسعار اللحوم والعواس السورية الجيدة، لأنه سرعان ما سينعكس ارتفاعاً كبيراً في أسعار هذه اللحوم في الفترة القادمة. ‏

إن ارتفاع أسعار المواد أدى إلى زيادة تكاليف الإنتاج التي انعكست في ارتفاع أسعار المنتجات، كما أن عدم قيام الدولة «مكتب الحبوب» بشراء نسبة كبيرة « معتادة» من موسم حبوب هذه السنة «أقل من مليون طن قمح» بسبب سوء المواسم، عبر سياسة غير مفهومة سعرياً، أدت عملياً إلى استيلاء القطاع الخاص التجاري على الكمية العظمى من المحصول، مما زاد الطين بلاً.

 

ثمة عوامل أخرى:

ـ هناك فوارق سعرية كبيرة ما بين أسعار المنتجين وبائعي الجملة وبائعي المفرق، يظهر ذلك بوضوح في قنوات توزيع المنتجات الزراعية حيث تذهب هوامش الربح الكبيرة إلى أسواق الهال، أما المنتج الزراعي فلا يحصل حتى على تكلفة الإنتاج في كثير من الأحيان. ‏

ـ هناك نقص في المعلومات عن أسعار ومواصفات وأماكن توفر السلع والخدمات بصورة عامة في الاقتصاد السوري ما يعطي قوة احتكارية لكثير من الباعة. ‏

ـ هناك اتجاه قوي لتشكيل احتكارات قلة في السوق السورية، مثل شركات الاتصالات النقالة، والشركات القابضة، والمجموعات. ‏

لقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي بأسعار سنة 2000 الثابتة 1.272 مليار ل.س في عام 2007، محققاً معدل نمو حقيقي 6.63 %، وكانت قيمة الناتج المحلي بأسعار السوق الجارية 2.38 مليار ل.س محققاً معدل نمو نقدي «اسمي» 19.%، والفرق بين هاتين النسبتين هو 19.25-6.63=12.62 % هو عملياً حجم التضخم الرسمي خلال هذه الفترة الذي إذا اعتُمد في الحسابات، فهذا يعني أن القوة الشرائية لليرة السورية قد انخفضت بهذا المقدار، وبالتالي فإن زيادة الأجور اسميا بمقدار 25 %، يعني أنها زادت فعليا بمقدار 25-12.62=12.38 % فقط لاغير.. والواقع الحقيقي هو أبعد من هذه الأرقام الرسمية بكثير.. إن أحد الأسباب الهامة للتضخم هو التوسع النقدي غير المبرر الذي يرتدي بحثه اليوم أهمية خاصة في ظل الأزمة الرأسمالية العظمى والتي يكمن أحد أسبابها في هذا الموضوع بالذات...

التوسع النقدي‏

ساهم التوسع النقدي بمفهومه العريض ن 2، أي النقود المعدنية والعملة الورقية في التداول والودائع تحت الطلب في المصارف، زائد شبه النقد «ودائع الادخار والأجل»؛ في معدلات التضخم في سورية. فقد بلغ عرض النقد /ن 2/ 449،1 مليار ل.س في عام 2007، بزيادة 13 % عن العام السابق، كما هو مبين في الجدول (3). إن معدل التوسع النقدي المذكور مماثل لمعدل التضخم في 2007 البالغ 13 % المأخوذ من حسابات الدخل القومي «فارق معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي النقدي والحقيقي».

كما أن السياسة النقدية التوسعية التي ينتهجها مصرف سورية المركزي باعتماد معدلات فائدة متدنية وأدنى بكثير من معدلات التضخم (معدل فائدة حقيقي سلبي)، تجعل عملية الاقتراض من المصارف للمضاربة في الأراضي والعقارات والمحاصيل والعملات والسلع المستقبلية والأسهم والسندات عملية مربحة جداً. ان مردود عمليات المضاربة الكبير يصب في الإنفاق الاستهلاكي، ما يفاقم معدلات التضخم. ‏

من حيث التوسع في التسليف المصرفي: ‏

بلغت القروض والتسليفات المصرفية 619 مليار ل.س في عام 2007، بزيادة 26 % عن العام 2006، وحيث أن 67 % من هذه القروض والتسليفات ذهب إلى قطاعي التجارة «جملة ومفرق».. والخدمات، فإنه يساهم في رفع معدلات التضخم.

 

 علاجات التضخم: ‏

بيَّنا فيما تقدم ان للتضخم في سورية أسباباً حقيقية وأسباباً لها علاقة بالسياسات المتبعة. ‏

الأسباب الحقيقية كالعوامل المناخية وارتفاع أسعار السلع «بترول مثلاً» والمحاصيل عالمياً قد يكون من الصعب السيطرة عليها. لكن بإمكان الحكومة معالجة التضخم باتباع سياسات اقتصادية ومالية ونقدية مناسبة‏:

1 ـ ضخ الاستثمارات الحكومية في القطاعات الإنتاجية الأساسية كالزراعة والصناعة

وزيادة عائد الاستثمار في قطاعات الاقتصاد الوطني. ‏

2 ـ ‏ محاربة الفساد بجدية بوضع خطة مقنعة وتطبيقها فعلياً. ‏

3 ـ العمل على تخفيض الإنفاق الحكومي العادي، وترشيد هذا الإنفاق. ‏ ولجم الزيادة في الضرائب والرسوم على الأساسيات و‏ زيادة وفرض ضرائب جديدة على الإنفاق الاستهلاكي الترفي.‏

4 ـ إصدار بيان رسمي يحدد فيه موقف السلطة النقدية من التضخم. فمن غير المعقول وغير المقبول أن تكون معدلات التضخم أعلى من معدلات الفائدة وبفارق كبير، أي أن معدلات الفائدة الحقيقية سالبة، ويقدم المصرف المركزي على تخفيض معدلات الفائدة، ودون أي بيان توضيحي لإجراءاته ولموقفه تجاه محاربة التضخم، لجهة طمأنة المستهلكين والمستثمرين والأسواق بأنه يتبع سياسة نقدية صحيحة. ‏

يتطلب تحديد مستوى معدلات التضخم المقبولة التي إذا ما تم تجاوزها تحرك المصرف المركزي لمحاربة التضخم، وجود مؤشرات دقيقة للتضخم يجري قياسها على أساس شهري، بالإضافة إلى تحديد أدوات وإجراءات السياسة النقدية التي يمكن أن يستعملها المصرف المركزي لمحاربة التضخم، مثل خفض معدلات نمو الكتلة النقدية، رفع معدلات الفائدة، استخدام أدوات السياسة النقدية العامة (نسبة الاحتياطي الإلزامي ومعدل إعادة الحسم ـ قريباً شراء وبيع أذونات الخزينة)، استخدام أدوات السياسة النقدية  لتوجيه التسليف نحو زيادة الإنتاج وليس نحو قروض الاستهلاك الشخصي والسيارات وبطاقات الائتمان...