البطاقات التموينية عادت للحياة..ولكن!! .. المواطن يدفع ثـمن تخبُّط السياسات الاقتصادية

مرة أخرى، وفي عملية سحرية والتفاتة غير متوقعة، استأنفت الحكومة توزيع الرز المدعوم في المؤسسات الاستهلاكية (منافذ البيع) بعد انقطاع دام أكثر من سنة، عانى فيها المواطنون الأمَرَّين من تردي الأوضاع المعيشية، وقاسى الكثيرون منهم الحرمان وارتفاع الأسعار، فما الذي حدث؟!! هل أحسَّ المسؤولون بمعاناة الناس جراء الوضع المعاشي الذي أوصلوهم إليه من فاقة وعوز؟! أم فتح باب المغارة فجأة، فأحضروا لهم منها جزءاً من الغنيمة؟!!

قبل هذا الانقطاع كانت حصة الفرد من الرز المدعوم نصف كيلوغرام شهرياً فقط، ولكن حتى هذا الدعم الهزيل الذي من المخجل ذكره قد توقف، وأفلتت الحكومة أنياب التجار تنهش لحمنا دون حسيب أو رقيب، فهل هذا التوقف عن الدعم كان مؤشراً للمواطنين أن: «دبروا رأسكم» فالحكومة تسحب يدها من دورها الرعائي؟!!

إن السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة، المستندة إلى الأسس الليبرالية وتعاليم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي تهدف أولاً وأخيراً إلى إنهاء دور الدولة الرعائي، وتسليم خيرات البلاد وقوت العباد إلى أيدي قلة قليلة تتحكم بلقمة العيش والسكن والملبس وكل الخدمات، كل ذلك انعكس سلباً على حياة المواطنين ومعيشتهم اليومية.

بلغ عدد المؤسسات الاستهلاكية (منافذ البيع) التابعة لوزارة الاقتصاد حتى بداية عام 2008، ما مجموعه 1003 منفذاً، (وقد ارتفع هذا العدد طبعاً منذ بداية العام حتى الآن)، وكانت هذه المؤسسات توزع مادة الرز المقنن على المواطنين بموجب القسائم التموينية. وكانت وزارة الاقتصاد تستورد الرز المصري بعقود سنوية بمعدل مائة ألف طن سنوياً، بسعر 8500-9000 ل.س للطن، أي 8.5-9 ل.س للكيلوغرام الواحد. وكان يصل إلى سجلات ومستودعات وزارة الاقتصاد بالسعر الحسابي البالغ 22000-23000 ل.س للطن، أي 22-23 ل.س للكيلوغرام الواحد. وكانت تبيعه للمواطنين بالسعر المدعوم البالغ 11 ل.س.

وقد توقفت الدولة عن توزيع مادة الرز المدعوم بموجب البطاقات التموينية منذ تاريخ 1/10/2007، وقبل ظهور الأزمة الاقتصادية العالمية، دون اكتراث بما قد يصيب السواد الأعظم من أسرنا السورية التي نزلت، وبسبب تلك السياسات نفسها، إلى مادون خط الفقر، وقد كانت المواد التموينية المدعومة، على قِلّتها، تخفف بعض العبء عن متطلبات السلة المعيشية اليومية، وخاصة مادة الرز التي تعتبر الغذاء الرئيسي للمواطن السوري إلى جانب البرغل والعدس، فقد كانت المؤسسات الاستهلاكية توزع بموجب البطاقات التموينية نصف كيلو غرام شهرياً لكل فرد، وإذا كان المعدل الوسطي للأسرة السورية يبلغ خمسة أشخاص، فتحصل كل أسرة على 2.5 كغ شهرياً بسعر الكيلو غرام الواحد 11 ل.س أي مجموع 27.5 ل.س. ولما كان الاحتياج الوسطي للأسرة بمعدل 8 كغ شهرياً، فإنها ستضطر لتأمين الباقي والبالغ 5.5 كغ من السوق بالسعر الحر، الذي كان يبلغ حينها 35 ل.س، أي بمجموع تكلفة يقارب 195 ل.س، ويكون مصروف الأسرة وسطياً على مادة الرز حوالي 220 ل.س شهرياً.

ولكن بعد وقف توزيع الرز المدعوم على البطاقات التموينية وانفلات سعره في السوق الجائرة، فإن التكلفة قد وصلت إلى حوالي 800 ل.س على مادة الرز فقط، أي بزيادة 370 %، وتقاربها الزيادة في سعر المازوت الحر، ولحقت بها زيادات في مجمل أجزاء السلة المعيشية اليومية. لذلك فكثير من الأسر السورية استغنت عن هذه الوجبة الهامة وتحولت للتعويض عنها بالبرغل والعدس. وما إن شعر التجار بزيادة الطلب على هذه المواد كبديل للرز، حتى استغلوا قانون العرض والطلب، وسخروه لخدمة طمعهم وجشعهم، بعيداً عن رقابة الدولة وضبطها للأسعار، فكانت الأسعار الجنونية تجر بعضها تباعاً وصعوداً بدون رحمة.

وللوقوف على مدى الضرر الذي ألحقه وقف توزيع الرز المدعوم على السلة المعيشية اليومية للمواطن، التقت «قاسيون» عدداً كبيراً من المواطنين، وسألتهم كيف أثّر ذلك على معيشتهم ومصروفهم الشهري، وتراكماته على مدى عام، فكانت لنا اللقاءات التالية:

 

المواطن يدرك منبع الهم والظلم

ـ المواطن خالد ع. قال: «أنا موظف وممن تسمونهم أصحاب الدخل المحدود، وقد كان الرز الذي نحصل عليه بموجب القسائم، على قلته، يسد جزءاً من حاجتنا التموينية، ولكن حين توقف التوزيع في المؤسسات الاستهلاكية، توجهنا للاستعاضة عنه بالبرغل، الذي كان يعتبر الأكلة الشعبية الأقل تكلفة، ففوجئنا بقفزات الأسعار الجنونية تجتاح كل شيء، فتضاعف سعر البرغل ثلاث مرات، وسعر الحُمُّص ثلاث مرات، وسعر العدس أربع مرات، ورواتبنا جامدة لا تتحرك يغلفها الجليد، فالراتب قبل زيادات الأسعار كنا نقول إنه يكفي لعشرة أيام فقط من الشهر، ولكن الآن فالراتب ينفد من اليومين الأولين من الشهر، وباقي الشهر «نعوي ونجوع».

ـ المواطن عمر د. قال: «بشكل عام كان وجود الرز في التشكيلة الشهرية لبرنامجنا الغذائي، يشعرنا أننا مازلنا بشراً، فنحن نستهلك شهرياً من 8 ـ10 كغ، وكانت ربع هذه الكمية نحصل عليها بالسعر المدعوم ويكلفنا بحدود 30 ل.س، ونضطر لتأمين الباقي من السوق بالسعر الحر الذي كان قبل موجة غليان الأسعار لا يتجاوز 35 ل.س، يعني كانت الـ250 ل.س تكفينا مؤونة الشهر من الرز، ولكن بعد وقف توزيع الرز في المؤسسات الاستهلاكية، صارت الكمية التي نحتاجها تكلفنا من 800 إلى 1000 ل.س، أي أربعة أضعاف، وهذا على صعيد الرز فقط، فتوقفنا عن طبخه، وصرنا نحلم به حلماً بعيد المنال، أو أحياناً نحتفل بطبخة رز واحدة في الشهر».

ـ المواطن غسان س. قال: «لم نعد نثق بهذه الحكومة، فبعد أن وعدتنا بالتحديث والتطوير انظر ماذا فعلت بنا!! لقد تخلت عن مواطنيها نهائياً، وتركتنا لأنياب التجار ووقفت تتفرج، حررت أسعار السوق من رقابتها، وحررت التجار المسعورين علينا، والآن حين استأنفت توزيع الرز المدعوم يتم توزيعه بموجب القسيمة رقم 24 التي فات على استخدامها سنة ونصف، فبربك من يحتفظ بعد سنة ونصف بقسيمة يحصل بموجبها على نصف كيلوغرام رز فقط؟! أم هي مراوغة لتُبيّض الحكومة وجهها أمام الشعب، أي أن «خذوا ها قد عدنا ندعمكم بالرز ولكن قلّة قليلة منكم سيحصلون عليه».

ـ المواطن مصطفى ش قال: «أكيد هي خطوة مراوغة كما قال المواطن الذي بجانبي، ومن يضمن لنا أن تستمر الحكومة بتوزيع الرز المدعوم حتى ولو كل ثلاثة أشهر؟! فربما تكون هذه المرة «قذفة» ومن هنا إلى عام آخر، فمن يعلم ماذا تخبئ لنا؟!!»

 

هل تنوي الدولة

استعادة دورها الرعائي؟!

نعم، هكذا صرّح كل من سألناه عن همّه اليومي والمعيشي، ومثل هذه الإجابات أجابنا الكثيرون، ولخّصوا لنا جزءاً هامّاً من معاناة شعبنا، وحتى المواطن البسيط أصبح يعرف من هم ناهبوه وسارقو لقمة عيشه، الذين يتحكمون حكراً واحتكاراً بأسعار السوق، بما يرضي جشعهم ولا يشبع طمعهم، دون تدخل أو حماية أو رقابة من أجهزة الدولة، التي تقلَّص دورُها الرعائي، واكتفت بمشاهدة القوي يأكل الضعيف، لا بل شجعت بقوانينها، الرامية إلى خصخصة كل شيء حتى لقمة العيش، هذه الممارسات الاحتكارية الظالمة. إن مادة الرز الهامة كوجبة أساسية في نظام غذاء المواطن السوري مازلت موجودة في السوق، لم تنقطع يوماً، يؤمّنها تجار القطاع الخاص، ولكن بسعر احتكاري فاحش، تفرضه الحاجة الماسة. فهل هم أقوى اقتصادياً من ميزانية دولة؟ أم أن الدولة قد سحبت يدها لتدعهم يزيدون ميزانيتهم بمؤامرة معهم؟!!

الآن وقد استأنفت الحكومة توزيع مادة الرز المدعوم على البطاقة التموينية، ما هو مؤشر هذه الخطوة؟ هل هي خطوة مبشِّرة لاستعادة الدولة لدورها الرعائي، ولو جزئياً؟!! وهل ستستمر هذه المبادرة التي يعلق المواطن عليها آمالاً كبيرة، علّها تخفف عنه جزءاً من تكاليف سلته المعيشية المرهِقة؟!!

أسئلة كثيرة وكبيرة، نتوجّه بها إلى أولي الأمر، لعل في إجابتهم عليها تحقيق جزء من الأمن الغذائي، الذي يحفظ كرامة الوطن والمواطن!!