مسألة إلغاء دعم أسعار المشتقات النفطية
تطرح بين حين وآخر مسألة إلغاء أو تخفيض دعم أسعار المشتقات النفطية. وفي كل مرة توضع الأرقام عن الأسعار والكميات وتقدر الخسائر الناجمة عن البيع بأقل من تكلفة الإنتاج والتوزيع، ثم يطوى الحديث إلى أن يظهر مجدداً كما هو الحال في هذه الأيام.
والحجة جاهزة، فالأسعار المحددة حالياً، أقل (بكثير) من تكلفة الإنتاج (أو الاستيراد) والتوزيع. مما يؤدي إلى تحقيق خسائر كبيرة تتحملها الخزينة العامة. الأمر الذي يقود إلى عجز الموازنة. هذا فضلاً عن أن انخفاض الأسعار المحلية عن مستوى أسعار البلدان المجاورة يشجع على التهريب.
ولا نريد هنا الدخول في (لعبة) الأرقام، لأن ذلك سيجرنا إلى مناقشات لا نملك معطياتها الأساسية، ونقصد بذلك معطيات (تصنيع) الرقم، ومدى تعبيره عن التكلفة الحقيقية، فضلاً عن تحليل عناصر الكلفة ذاتها.
والمناقشة الهادئة لهذا الموضوع، بعيداً عن التشنجات وعن المواقف المسبقة، تقتضي وضعه في إطار مصلحة الاقتصاد الوطني من جهة، ومصالح جموع الشعب الفقيرة ومحدودة الدخل والفئات المتوسطة من جهة ثانية. مما يجعلنا نبحث عن السياسات الاقتصادية الكلية، وفي موقع سياسة الأسعار والدعم فيها.
انسحاب الدولة
ففي ظل " اقتصاد السوق الاجتماعي " لا بد من وضع أي قرار اقتصادي في هذا الميزان، والنظر إليه من خلال هذا المعيار الحساس (استخدام آليات السوق بما لا يضر بمسيرة التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية) فإذا كانت سياسة الدعم مطلوبة قبل إقرار التوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، فقد أصبحت بعد ذلك ضرورية، بعد أن تم هذا الانفتاح الواسع وبعد تحرير الأسعار وانسحاب الدولة من السوق. ذلك أن الإدارة الاقتصادية فهمت اقتصاد السوق الاجتماعي على أنه تحريراً للأسعار والأسواق وللتجارة الخارجية وتشجيعاً للاستثمار الداخلي والخارجي، دون أن تولي الاهتمام اللازم للجانب الثاني من معادلة اقتصاد السوق الاجتماعي، ونعني به الجانب الاجتماعي، وتأتي الآن رغبتها (أي الإدارة الاقتصادية) في رفع أسعار المشتقات النفطية بإزالة الدعم عن هذه الأسعار في إطار هذا الفهم. انطلاقاً من أن " اقتصاد السوق الاجتماعي " ما هو إلا مرحلة انتقالية توصلاً إلى إقامة اقتصاد السوق الحر.
وهنا نتساءل عن مدى أهمية أسعار المشتقات النفطية المحلية، ولماذا الإصرار على زيادتها؟ ولماذا يصر البنك الدولي (في إطار إجماع واشنطن) على المطالبة بزيادة أسعار المشتقات النفطية بوجه خاص، وإلغاء الدعم المقدم للمستهلكين والمنتجين على السواء؟
الاقتصاد الليبرالي الحر
والمساءلة هنا تتعلق بالسياسات الاقتصادية الكلية، إن جوهر السياسة الاقتصادية الكلية في برنامج الإصلاح والتكييف الهيكلي المقدم من البنك والصندوق الدوليين، والمدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إن جوهر هذه السياسة هو (الليبرالية الاقتصادية الجديدة) الذي يتبلور في إجماع واشنطن ( وهو التوافق الذي تم بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومة الولايات المتحدة) من أجل إجراء التحول في اقتصادات البلدان الاشتراكية السابقة والبلدان ذات الاقتصاد الموجه (كسورية) إلى الاقتصاد الليبرالي الحر، ومحور هذا البرنامج يستند إلى هدفين أساسيين:
الأول: انفتاح الأسواق الداخلية وحرية التجارة الداخلية.
الثاني: الوصول إلى حكومة الحد الأدنى، أي الحكومة التي يتم انسحابها من الشأن الاقتصادي والاجتماعي.
ويأتي تحت هذا الهدف إتباع سياسة مالية انكماشية بحجة تخفيض العجز في الموازنة العامة للدولة، بتخفيض الإنفاق الجاري والاستثماري وفي هذا السياق يتم تخفيض الدعم والإنفاق على الخدمات الاجتماعية والتركيز على رفع أسعار المشتقات النفطية، هو أحد ركائز هذه السياسة، نظراً للمهام المركبة لهذه المشتقات، وبالتالي لدورها الهام في جميع القطاعات الاقتصادية.
فهي مادة أساسية لاستهلاك الأفراد والأسر من أجل الحصول على التدفئة والأشغال المنزلية ووقود المواصلات، وهي أيضاً مادة أساسية للمنتجين الصناعيين والزراعيين لتوليد الطاقة، حيث تدخل في حسابات التكلفة النهائية للمنتج النهائي، وبالتالي فإن زيادتها عن المعدل السائد من شأنه:
- الضغط على نفقات الأسرة والأفراد.
- رفع تكاليف إنتاج المنتجات الزراعية والصناعية والخدمات وخاصة النقل والمواصلات التي ستنعكس بدورها على أسعار جميع المواد والسلع الاستهلاكية في الأسواق، مما يشكل ضغطاً آخر على مستوى نفقات الأسرة والأفراد، خاصة من أصحاب الدخل المحدود والفئات المتوسطة (التي بدأ مستواها بالتراجع فعلاً) إضافة إلى الفئات الفقيرة بالطبع.
اقتصاد السوء
وهذا ما يريده برنامج التحول إلى اقتصاد (السوء) أقصد اقتصاد السوق، الذي يرفع شعاره الآن بعض أفراد الفريق الاقتصادي الحكومي "بفخر ليبيرالي" عظيم كما جاء في مقالة النيوزويك الأمريكة في عددها الصادر بتاريخ 15-5-2007(*) ويعتبر رفع أسعار المشتقات النفطية أحد أهم الإجراءات الآيلة إلى بناء اقتصاد السوق الحر، ذلك أن المشتقات النفطية تعتبر محرك الحياة الاقتصادية، وبما أن تكاليف الحصول عليها تدخل عملياً في جميع مكونات السلع والخدمات المعروضة في السوق، فإن أسعارها تكتسب حساسية خاصة في معرض تنفيذ السياسات الاقتصادية.
تستند الإدارة الاقتصادية الحكومية في سعيها لرفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية إلى ركيزة أساسية مفادها الخسائر التي تتحملها الدولة من جراء إبقاء الأسعار (المنخفضة) قياساً إلى مستوى الأسعار العالمية وإلى أسعار البلدان المجاورة، الأمر الذي يؤدي إلى التهريب من جهة، وإحداث عجز في الموازنة من جهة ثانية.
في حين نرى أن هذا التوجه في رفع الدعم، يأتي من خلال (حزمة) من السياسات الاقتصادية التي تصب في إطار التحول نحو اقتصاد السوق الحر. والدليل على ذلك هو مجموعة الإجراءات التي تم اتخاذها والتي يغلب عليها طابع الليبيرالية الاقتصادية الجديدة، ونشير بوجه خاص إلى:
ظهور الاحتكار
- رفع شعار "تحرير التجارة الخارجية" واعتبارها (قاطرة النمو) وتنفيذ هذا الشعار عملياً من خلال ما نجده من بضائع وسلع أجنبية في الأسواق الداخلية، وكذلك التوجه العملي نحو تخفيض الرسوم الجمركية.
- إطلاق حرية استيراد السيارات السياحية بعد تخفيض مرسومها الجمركية، دون دراسة دقيقة لإمكانات الاستيعاب الطرقية.
- تحرير الأسعار الداخلية وتلاشي الرقابة على الأسواق وصولاً إلى فوضى السوق، وظهور الاحتكار، وتبدى ذلك عملياً بإلغاء وزارة التموين.
- تخفيض الضرائب على الأغنياء من خلال قانون ضريبة الدخل الجديد، ومن خلال التشريع الخاص بالعقارات.
- المناخ العام الذي شجع على المضاربات العقارية وارتفاع أسعار بيوت السكن وخاصة ما يعلن عن السياحة والاستثمار العقاري (كقاطرة للتنمية).
- تراجع الاستثمار العام، وتوقفه في القطاع الصناعي وما يروج حول الخصخصة.
من هنا يجب أن ينظر إلى مسألة رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية، كجزء أساسي من (حزمة) الإجراءات والسياسات الاقتصادية، وهذا يعني التخلي عن عنوان رئيسي من عناوين السياسات الاقتصادية " اقتصاد السوق الاجتماعي" فضلاً عن ذلك، فمن الناحية الاقتصادية، سوف يؤدي رفع الدعم عن المشتقات النفطية إلى ارتفاعات متوالية في أسعار المواد والسلع والخدمات، مما سيؤدي إلى المزيد من التضخم، بالإضافة إلى ما يحققه ذلك من ضغط على دخول الأفراد وعلى مستوى معيشة السكان.
وداع التنمية والاستثمار
ولهذا الإجراء أثر اقتصادي سلبي هام يتبدى في توجهين أساسيين:
الأول: سيضعف القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، سواء فيما يتعلق بالتصدير أو في منافسة السلع المستوردة التي غزت الأسواق المحلية بعد إطلاق حرية الاستيراد لتلك المنتجات.
الثاني: سيضعف (حملة) التوجه نحو الاستثمار (المحلي والخارجي) لأنه سيزيد من تكاليف الإنتاج مما يخفض من عائد الاستثمار.
إن الحصول على (الطاقة الرخيصة) يعتبر من أهم عوامل المناخ الاستثماري، كما أنه من محركات عملية التنمية، ومع الطاقة المرتفعة الأسعار علينا أن (نودع) التنمية والاستثمار.
إن أوروبا لم تستطع تعمير ما خربته الحرب العالمية الثانية، أو تحقيق الازدهار والنمو الاقتصادي الهائل إلا بفضل حصولها على الطاقة الرخيصة.
وإذا كانت النية متجهة لدى الإدارة الاقتصادية إلى استمرار العمل في السياسات الانفتاحية-التحريرية واعتبار ذلك قاطرة للنمو، فإن سياسة الدعم (للمشتقات النفطية وللمنتجين وللمستهلكين في إطار سياسة اجتماعية تنسجم مع توجهات اقتصاد السوق الاجتماعي) تصبح أكثر ضرورة وإلحاحا. فكيف يمكن مواجهة الآثار المترتبة على تحرير الأسعار والتضخم بالنسبة لغالبية أفراد الشعب بدون دعم؟ وكيف نضمن رفع القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية دون دعم؟
السياسة المالية والضريبية
بقي هناك عدد من النقاط الهامة لا بد من أخذها بنظر الاعتبار لدى مناقشة هذا الموضوع، وهي:
1 - إننا بلد منتج للنفط (رغم كل ما ينشر حول انخفاض الإنتاج) ولهذا فإن التسعير المحلي للمشتقات يجب ألا ينطلق من أسعارها العالمية، بل لا بد من وضع (الميزان النفطي) للكميات والمبالغ دون أن ننسى أن المواطنين جميعاً (مع الأجيال المقبلة) لها حقوق في ثروتها النفطية.
2 - إذا كانت المسألة إيجاد مورد جديد للخزينة، أي سد العجز في الموازنة، فليست هذه هي الوسيلة الأنجح أو الأفضل. فلا يجوز استسهال الحلول بزيادة أسعار المشتقات النفطية، إنما لا بد من البحث جدياً في السياسة المالية والضريبية، وفيما إذا كانت تلبي أغراض المرحلة. ويأتي من خلال ذلك تحسين أداء الإدارة المالية وإيجاد مطارح ضريبية تتناسب مع أهداف واقعية وعادلة للسياسات الضريبية وتحسين أساليب فرض وتحصيل الضرائب والرسوم.
ويأتي في هذا السياق:
1 - تقليص الهدر في النفقات العامة وضبط عملية تخصيص واستعمال السيارات الحكومية وخاصة لكبار المسؤولين.
2 - القضاء على الفساد أو الحد منه ما أمكن، وخاصة الفساد الكبير المتمثل في الصفقات الكبيرة والعمولات والسمسرة.
3 - إعادة الاعتبار لمراقبة الأسعار والأسواق.
4 - الربط ما بين الأسعار والأجور والقضاء على التضخم.
5 - ترشيد استهلاك المشتقات النفطية، وتشجيع استخدام البدائل.
6 - القضاء على الفاقد الكهربائي.
7 - إصلاح القطاع العام الصناعي، والتوقف عن الترويج لخصخصته، وإعادة الاعتبار لسياسات الاستثمار العام.
- (*) جاء المقال بعنوان «على صورة أميركا» وفيه يتحدث الكاتب عن تحول السياسة الاقتصادية السورية نحو الليبرالية الجديدة وفقاً لتوصيات (إجماع واشنطن) في الوقت الذي حادت دول عديدة عن سياسات إجماع واشنطن مثل روسيا ودول أميركا اللاتينية ودول جنوب شرق آسيا وبما فيها الولايات المتحدة أيضاً التي مازالت تحمي منتجاتها الزراعية وتقدم خدماتها الاجتماعية لمواطنيها. ويمكن الإطلاع على هذا المقال لأهميته في الكشف عن السياسة الاقتصادية السورية الحقيقية التي يعمل بموجبها الفريق الاقتصادي الحكومي.