عود على بدء.. لماذا الدَّعم؟ ولـمن يُقدّم؟ مسألة «الدَّعم» في السياسات الاقتصادية الكلية (1-2)
يسعى الفريق الاقتصادي الحكومي إلى إقناع الناس، بأهمية وضرورة تخفيض الدعم المقدم للسكان على شكل تخفيض الأسعار إلى مادون التكلفة لبعض المواد الحياتية والاستراتيجية، تمهيداً لإلغائه.. ويلح هذا الفريق على أجهزة الإعلام والمحررين الاقتصاديين على مساعدته في إقناع الرأي العام السوري بأن هذا الإجراء ضروري، وأنه يتم لمصلحة الاقتصاد الوطني (ولمصلحة المستهلك تالياً).
والحجة التي يقدمها الفريق الاقتصادي الحكومي، هي عجز الموازنة العامة الذي ينجم عن تحميل الخزينة العامة أموال الدعم الطائلة التي لم يعد بالإمكان تحمل ضغطها على الموازنة العامة للدولة.
لكن جاءت حجة ثانية (من عالم الغيب) أخذ يتذرع الفريق الاقتصادي بها، وهي الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت بأزمة (الائتمان العقاري الأميركي) ثم ارتفاع أسعار النفط وأسعار المواد الغذائية وسوء الأحوال الجوية وغير ذلك من أسباب خارجة عن السيطرة كما يقولون.
إن الحجج والادعاءات (حول عجز الموازنة والأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة الغذاء العالمي) جميعها تؤكد هشاشة وضعف موقف الفريق الاقتصادي، إن أساس المشكلة يكمن في السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية التي تم انتهاجها من الفريق الاقتصادي منذ الإعلان عن تبني القيادة السياسية لنهج (اقتصاد السوق الاجتماعي) فقد وجد الفريق الاقتصادي في هذا الشعار أو النهج فرصته التاريخية في (تمرير) التحول نحو اقتصاد السوق الحر، وتنفيذ سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، بمساعدة ودعم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي، وبما يلتقي مع توجهات النظام الشرق أوسطي الذي تريد الولايات المتحدة فرضه على البلدان العربية تنفيذاً لمشروعها (الشرق الأوسط الكبير أو الجديد) الذي ينص على التحول نحو اقتصاد السوق إلى جانب دعوته إلى الديمقراطية المزيفة، والإلحاح على الانخراط بالاقتصاد العالمي والاندماج بالعولمة.
لقد أدت السياسة المالية المحابية للأغنياء، إلى تقليص الإيرادات العامة من الضرائب، كما أدى انسحاب الدولة من الشأن الاقتصادي إلى تخفيض (وفي الواقع إلغاء) الاستثمار العام مما أدى إلى الخلل في التوازنات الاقتصادية، والبطالة، وإشاعة الفقر والضغط على الطبقة المتوسطة، بمساعدة (قيّمة) من الفساد الكبير (والصغير) الذي هو أصل البلاء.
أما الإعلان عن أن تحرير التجارة الخارجية قاطرة النمو، وإصدار القائمة تلو الأخرى من قوائم السماح بالاستيراد وتخفيض الرسوم الجمركية على المستوردات، فقد كان له أبلغ الأثر في (إغراق) الأسواق المحلية بالمستوردات الأجنبية، والمغالاة في (استيراد التضخم) مما أدى إلى الإساءة إلى المنتجات الوطنية وتعريضها لمنافسة غير متكافئة مع المنتجات الأجنبية، فضلاً عن أن هذا الانفتاح السداح المداح، على استيراد السيارات من كل حدب وصوب مما أحال طرقات وساحات المدن والأرياف إلى معارض متنقلة للسيارات المكتظة التي أسهمت مع (الجوال) في تبديد مدخرات السكان.
وأدت سياسة (السياحة قاطرة النمو) إلى المضاربات في المباني السكنية وفي الأراضي، مما زاد في حمى (التضخم) وأضرَّ ضرراً كبيراً في مستقبل السكن الشعبي، وفي رفع أسعار بيوت السكن مما زاد من الضغوط المعيشية على أصحاب الدخل المحدود.
ولم ينجح الفريق الاقتصادي في تحويل سورية إلى سوق مالي إقليمي، ذلك الهدف المحبب إلى قلبه والذي أورده في الخطة الخمسية العاشرة. رغم (سخائه) في الترخيص للمصارف ولشركات التأمين الخاصة ورغم انفتاحه على أصحاب الأموال العرب والأجانب.
ولو قضى الفريق الاقتصادي بعضاً من وقته الذي صرفه من أجل الانفتاح وإشاعة ثقافة السوق و(تدليل) أصحاب الأموال العرب وغير العرب، لو قضى هذا الفريق جزءاً من وقته هذا في معالجة القضايا الاقتصادية الملحة ووضع الحلول لمعاناة الناس المعيشية، لكان ذلك أجدى وأنفع للبلاد والعباد.
لقد انشغل الفريق الاقتصادي كثيراً في مؤتمرات الاستثمار داخل وخارج سورية، كما انشغل في قص أشرطة المعارض المختلفة لكنه لم يكلف نفسه عناء التفكير بأبسط مهام الحكومات التي تشعر بالمسؤولية تجاه شعبها وتجاه قضاياه المعيشية.
كما لم يكلف الفريق الاقتصادي (خاطره) بالنظر إلى مشكلات القطاع العام وإصلاحه، بل ووضع ما يلزم بتصرفه من أجل نهوضه من عثراته التي تراكمت عبر الزمن.
ورغم أن القيادة السياسية نادت بإصلاح القطاع العام، إلا أن الفريق الاقتصادي تجاهل ذلك، وأصر على إنهاء القطاع العام، تارة بالإعلان عن خصخصة إداراته، وتارة عن طريق تأجيره، والتحايل والالتفاف حول رغبته الحقيقية في تصفيته. إذ بقي القطاع العام الصناعي، قائماً، ورابحاً، رغم كلّ ما تعرض له بفضل عماله ومسانديه من القوى السياسية داخل حزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب الجبهة واتحاد العمال والنقابات والمثقفين والأكاديميين المؤمنين بأهمية ودور القطاع العام مما يؤكد أهمية إصلاحه وبقائه لبنة قوية في الاقتصاد الوطني.
إن مسألة الدعم، والرغبة (المجنونة) التي يبديها الفريق الاقتصادي بتخفيضه تمهيداً لإلغائه، تثير لدى جموع الشعب مسائل اقتصادية واجتماعية (بل وسياسية) عديدة، يأتي في مقدمتها الشك في النوايا الحقيقية للفريق الاقتصادي وتوجهاته السياسية، انطلاقاً من الشك في أسلوب حساب التكلفة للمواد والسلع المستهدفة، مما يطرح بحدة موضوع الرقم الإحصائي والحسابي.
ويأتي في مقدمة المسائل أيضاً دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، والمعروف أن هذا الدور يخضع لطبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد في البلد المعني. ففي الدول التي يحكمها النظام الرأسمالي وتتحكم بها سياسات الاقتصاد الحر، يتقلص دور الدولة، حتى يقتصر على القيام بالوظائف التقليدية المتعلقة بإدارة الشؤون البلدية والقضاء والأمن وما إلى ذلك، وتمتنع (نظرياً) عن التدخل في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
إلا أن الدولة في الدول الصناعية المتقدمة، لم تكن يوماً بعيدة عن الشأن الاقتصادي والاجتماعي، لا بل أنها (بعد الحرب العالمية الثانية) أسهمت على نحو مباشر بعملية إعادة تعمير ما خربته الحرب، ودعمت الاقتصاد، وأقامت نظماً متطورة للضمان الاجتماعي، وأقامت نظاماً تربوياً وتعليمياً مجانياً أسهم في التطور العلمي والتكنولوجي، مسترشدة في ذلك النظرية الكينزية التي نادت بتطوير دور الدولة في الاقتصاد على نحو مباشر، من خلال الإنفاق العام، وعلى نحو غير مباشر عبر السياسات المالية والنقدية الموجهة للاقتصاد. وكان كينز يرى أن توسيع وظائف الدولة هو أمر لازم لمطابقة الميل للاستهلاك مع الحافز للتوظيف، وشرط للقيام بالمبادرة الفردية بنجاح، ورأى كينز أيضاً أن نوعاً من (الاشتراكية الواعية) في مجال التشغيل هو الوسيلة الوحيدة لتأمين التشغيل الكامل بصورة تقريبية.
وانطلاقاً من ذلك، توسع في الدول الصناعية المتقدمة دور الدولة في مقابل تنامي أهمية الدول الاشتراكية (وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي)، ونجاح تجربتها، وتحت ضغط النقابات العمالية والأحزاب الاشتراكية، واستمرت فعالية النظرية الكينزية في تدخل الدولة بالشأن الاقتصادي إلى أن ظهرت أزمة ما يدعى (الركود التضخمي) في أوائل السبعينات، فقد كانت النظرية الكينزية لا ترى أن هناك إمكانية لتزايد التضخم والبطالة في آن واحد، وعجزت عن تقديم الحلول للأزمة، مما أفسح المجال لاندفاع فكر الليبرالية الاقتصادية الجديدة (والنظرية النقدية الجديدة) حيث تم تحميل تدخل الدولة مسؤولية الأزمة، وجرى الترويج على نطاق واسع بأن تمتنع الدولة عن التدخل في الشأن الاقتصادي وأن ينحصر دورها في الوظائف التقليدية. ولكن رغم ذلك فإن سياسة الدعم والتعليم المجاني والضمان الاجتماعي والصحي، لم تمس، بل بقيت حتى الآن إذ تعتبره الدول الرأسمالية ضماناً للاستقرار السياسي والاجتماعي، خاصة وأن مجتمعات هذه الدول بما فيها من منظمات عمالية وسياسية، قادرة على الدفاع عن مكتسباتها التاريخية في إطار النظم السياسية الديمقراطية.