أحمد ذياب أحمد ذياب

يـا لسـخرية الأقـدار.. إنتـاج النهـب أصبـح دعمـاً

كثر الحديث مؤخراً وعلى نطاق واسع على ساحة الوطن عمّا سمي (رفع الدعم)، وقد أخذ هذا الحديث شكلاً يكاد يرتقي إلى صراع طبقي ووطني في آنٍ معاً، تساهم فيه قوى مختلفة داخل السلطة وخارجها، وتنطع بهذه المهمة اقتصاديون من مختلف المشارب، وتساهم قاسيون واقتصاديوها بشكل بارز في إدارة هذا الصراع بالتعاون مع بعض الاختصاصيين في الاقتصاد، ولا يكاد يخلو عدد من افتتاحية أو ندوة أو مقالة أو ما شـابه في هذا المجال. وهذا من حيث المبدأ يثلج صدري لأنني على الأقل أنتمي إلى الـ (17 مليون سوري) الذين يعانون الأمرّين من شظف العيش ومرارته بسبب النهب المستمر لاقتصاد البلد والفساد المستشري فيه، والذي أدى بنتيجته إلى تدهور الوضع المعاشي للسواد الأعظم من الشعب، وإلى التفاوت الهائل بين الأجور والأسعار الذي يهدد بدوره الأمن الاجتماعي للبلد، خاصة وأن سورية الحبيبة تتعرض للتهديد بالعدوان في كل لحظة، ولست بحاجة لإثبات ذلك.

وما دفعني للكتابة في هذا المجال ليس قصور الاقتصاديين أو جريدة قاسيون في إغناء الموضوع إعلامياً، وأنا بالأساس لست اقتصادياً، بل ما دفعني هو استخدام اقتصاديينا لاصطلاح (رفع الدعـم) فلا يوجد دعم أصلاً حتى يرفع، وأعتقد جازماً أن هذا المصطلح أوجدته قوى النهب والفساد نفسها كغطاء للنهب والفساد الذي تمارسه أولاً، وثانياً لإثبات كرم وأريحية هذه الطبقة الفاسدة في إبراز عطفها وحنوها وكرم أخلاقها تجاه الطبقة الكادحة السورية. ولا يخفى على كل ذي بصيرة خطورة ذلك على البلد، سيما وأن تلك الطبقة من الفاسدين التي تمارس النهب لا تمتلك أي حس أو شعور وطني، وأنها على استعداد لبيع الوطن بكامله والهروب وراء الأموال التي نهبتها خارج الوطن، وقد بدأ بعض رموزها الذين غادروا البلد بطرح بضاعتهم في خيانة الوطن، وسوف تقوم بنفس الدور الرموز الأخرى منهم في الداخل عندما تحين الفرصة.
وأودّ أن أذكر الاقتصاديين الوطنيين ببعض الثوابت إذا كانوا قد نسوها. أولها أن مفهوم الدعم يأتي بقصد زيادة الرفاهية للجماهير الشعبية وليس لسد حاجاتها، خاصة إذا كانت هذه الحاجات ناجمة عن النهب والفساد. فمثلاً عندما يطرح هوغو تشافيز أسـعار النفط مدعومة لشعوب أمريكا اللاتينية من فائض تراكم الثروة، وليس على حساب لقمة الكادحين الفنزويليين، فهذا يعتبر دعماً بكل المقاييس، ولا أعتقد أن حالة ما يسمى (دعـم) عندنا تنطبق على الحالة الفنزويلية.
وثانيهما أن العملة الوطنية هي (سلعـة) وهي المنتج الوطني الوحيد الذي لا يمكن استيراده من دولة أخرى وإن سلامة هذه السلعة، وعافيتها مرتبطة عضوياً بسلامة اقتصاد البلد وعافيته.
فلو احتجنا موزاً مثلاً فبصفقة تجارية مع شقيقتنا الصومال نوفر الموز لشعبنا وتنتهي المشكلة، أما أن نستورد ليرة سورية قوية ومحترمة ومهابة الجانب، فليدلني الاقتصاديون على المصدر إذا أمكن. وأنا عندما أتحدث عن الليرة السورية، فأنا أعرف تماماً ماذا أعني، فقد عاصرت وأنا على أعتاب الستين الآن، تلك القوة المتميزة لها في النصف الثاني من القرن الماضي، رغم أن الاقتصاد السوري لم يحقق بعد ذلك التطور الهائل الذي حصل عليه منذ ما ينوف على نصف قرن وحتى هذا التاريخ. ولا بد لي من إجراء بعض المقارنات بين الليرة السورية آنذاك وعملات الدول المجاورة الناشطة اقتصادياً بفضل وفرة إنتاجها من النفط، في حين أن بلادنا كانت غير منتجة له في ذلك الحين. فقد كان الريال السعودي يساوي ستين قرشاً سورياً، وقد ارتفع إلى خمسة وسبعين قرشاً في سبعينيات القرن الماضي، والدينار الكويتي في أول إصدار له بعد أن تحولت عملة الكويت من الروبية إلى الدينار في مطلع الستينيات كان يساوي عشر ليرات سورية، والدينار العراقي على زمن حكومات آل عـارف (عبد السلام وعبد الرحمن) كان يساوي ثماني ليرات سورية فقط، وقس على ذلك. وبما أنني من الطبقة المسحوقة فأترك للاقتصاديين موازنة الليرة في ذلك الوقت مع الجنيه الاسترليني والدولار الأمريكي، لأنني لا أعرف أسعارها في حينها. أما بالقيمة المحلية لليرة فقد كانت المائة ليرة سورية إصدار الستينيات والمزينة بصورة فلاحة تقطف القطن تستطيع أن تشتري بها من البضائع ما تعجز عن شرائه ببضع ورقات من فئة الألف ليرة والمزينة بصور القادة العظماء، وأجزم أنك سوف تحتاج إلى الرقم الأعلى من البضع هذا الذي يتراوح حسابياً بين الثلاثة والتسعة. والعصملية أكانت رشادية أو حميدية تساوي خمس ليرات سورية، وقد اشتراها أبي لأختي الكبرى عندما تزوجت.
واغفروا لي غلظتي وسماجتي في الإطالة فقد بدأت حياتي العملية في عام 1970م براتب مقبوض قدره  (227،15 ليرة) مائتان وسبع وعشرون ليرة وخمسة عشرة قرشاً، وكنت أشتري كسوة الشتاء طقم جاهز من الجوخ (ياباني ـ هندي ـ وطني) وقميص جيد وربطة عنق وسباط جلد من النوع الجيد ولباس داخلي وجوارب، كل هذه الكسوة بحدود خمسة وسبعين ليرة سورية، أما كسوة الصيف فلا تتجاوز قيمتها خمسة وثلاثين ليرة سورية.
بعد كل ما تقدم يدرك القارئ العزيز ملامح قوة الليرة السورية، وسوف أعود إلى الجانب الآخر من الموضوع، أي ضعف هذه الليرة وعجزها الراهن. فبعد أن تفشى الفساد بشكل منظّـم، وتحديداً بعد ما سمي بعصر الانفتاح في مطلع سبعينيات القرن الماضي، والذي أنتج طبقة فاسدة من محدثي النعمة استخدمت كافة أساليب الفساد والإفساد اللا أخلاقية من أجل الإثراء السريع على حساب الاقتصاد الوطني وجهد الكادحين السوريين. والتي استنفذت قدرات اقتصاد البلد. ويحضرني مثال على هؤلاء أورده أحد المحاورين في برنامج الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة، قال: إن أحد رجال الاقتصاد السوري عمره (37 سنة)، وثروته التي يديرها الآن تقدر بـ (37 مليار ليرة سورية)، وأنا أؤكد أن هذا الاقتصادي لم يكن من أبناء أو أحفاد البرجوازية الوطنية السورية السابقة أو البيوتات الاقتصادية المعروفة، بل إنه من أبناء العمال والفلاحين ومن أحفاد الثورة الاشتراكية العظمى في سورية، وهذا المثال غيض من فيض من الأمثلة المشابهة. إن تردي وضع السلعة الوطنية (الليرة) مرتبط بهذه النوعية من الاقتصاديين، ومرتبط أيضاً باستغلال أساطين الفساد المرتبطين بمصالحهم فقط لاقتصاد الوطن أبشع استغلال، ومن ثم يأتي من يقول (دعم مواد) إنه ليس دعماً، وإن تسميته دعماً تمهيداً لرفعه وزيادة العبء على كاهل الجماهير الشعبية، هو شكل جديد من أشكال النهب المنظّم وإفراغ جيوب الكادحين. ومحاربته يجب أن تنضوي تحت مصطلح آخر غير (دعـم)، وأترك للاقتصاديين مهمة تسميته بمصطلح جديد مناسب. وجواباً على من يصر على تسميته دعماً، ويقولون إن سعر لتر المازوت في الأردن مثلاً يعادل (20 ليرة سورية)، فعليهم أن يجيبوا على سؤال سوف أطرحه عليهم وهو: (راتب المعلم الأردني بعملته الوطنية الدينار يساوي راتب كم معلم سوري بعملته الوطنية أيضاً)؟
 وأخيراً أربأ برجالات الاقتصاد ومختصيه الوطنيين أينما كانوا، أن ينجروا وراء التسميات التي يخترعها ناهبو قوت الشعب وكرامة الوطن، وأن يعوا ألاعيب هذه الزمرة المنحرفة، وأن يدركوا أن رفع أسعار المواد الأساسية ما هو إلا استكمال للاعتداء على كرامة شعبنا في لقمة عيشه المخضبة بالدم، ويجب عليهم تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة.