د. الحمش في الثلاثاء الاقتصادي: ما مصير «جنون» النظام الرأسمالي وليبراليته الجديدة؟!

«يعمد الفريق الاقتصادي دائماً إلى تجاهل الرأي الآخر، لدرجة أن عدداً قليلاً من القائمين على سدة القرار الاقتصادي يظنون أنفسهم على صواب مقابل كل أبناء الشعب السوري الذين يعتبرهم هؤلاء (القلة) على خطأ. ومن المدهش ما ذهب إليه النائب الاقتصادي مؤخراً حين تفاخر بتجاهله لمقررات القيادة السياسية فيما يتعلق بالنهج الاقتصادي، وتفاخر بأنه خالف مقررات المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي رفض خصخصة القطاعات الاقتصادية العامة، وذلك حين عبر عما يراه تعريفاً للخصخصة بمفهوميها الواسع والضيق، فالتعريف الواسع لديه يتضمن ثلاثة مكونات، أولاً السماح للقطاع الخاص بالعمل في مجالات كانت محصورة بالقطاع العام وهذا يعد جزءاً من الخصخصة وهو ما تم تطبيقه في سورية، والمفهوم الآخر هو السماح للقطاع الخاص بإدارة المرافق العامة وهذا ما تم أيضاً من خلال قضية الحاويات في مرفأي طرطوس واللاذقية، أما المكون الثالث الذي قال إنهم لم يستطيعوا خصخصته هو القطاع الصناعي العام، لكنهم خنقوا هذا القطاع، ومنعوا إصلاحه، وحجبوا عنه الإمكانيات المادية، منعوا تجديد آلاته واستبدالها، سحبوا احتياطياته وخنقوه. وقد أفلس هذا القطاع الآن، وقد قال أحدهم، وهو من كبار الداعين لاقتصاد السوق و(تعرفونه دون ذكر اسمه): حرام تصرفوا قرش واحد على إصلاح القطاع العام، دعوه يموت!...». هكذا أنهى د. منير الحمش كلامه في ندوة الثلاثاء الاقتصادي الأخيرة مساء الثلاثاء 17/3/2009، والتي حملت عنوان «الأزمة العالمية الراهنة.. ومصير النظام الرأسمالي»..

الأزمة متفردة عن سابقاتها
سعى د. الحمش أكثر من مرة خلال تقديم بحثه المفصل حول الأزمة العالمية إلى إسقاط كلامه على الواقع في سورية، وبدأ سرده بشرح تحول الأزمة من مجرد فقاعة في الرهن العقاري الأمريكي إلى أزمة مالية، فاقتصادية أصابت القطاعات الاقتصادية العينية بالعمق، وأدخلت الاقتصاد العالمي في نفق الركود. ونوه إلى أن تاريخ النظام الرأسمالي هو تاريخ أزمات مختلفة الأشكال والأبعاد والنتائج، مشيراً إلى أن هذه الأزمة تختلف عن سواها من حيث الامتداد والعمق والتداعيات، ويتلمس د. الحمش ذلك عبر ثلاثة أبعاد:
البعد الأول: هو اختلافها الجوهري عن أزمات سابقة تعرضت لها أسواق المال منذ ثمانينات القرن الماضي، والتي كانت تنشب بعيداً عن الاقتصاد الأمريكي. وكانت الإدارة الأمريكية تنجح في القيام بالجهد الرئيس لاحتوائها والحد من امتداداتها العالمية. أما الأزمة الراهنة، فقد نشأت واستفحلت في مركز الرأسمالية العالمية، في الولايات المتحدة، ثم انتقلت إلى باقي أسواق العالم.
البعد الثاني: دور الاقتصاد الأمريكي في خلق الأزمة واستفحالها، ويتعلق هذا المحور بطبيعة الاقتصاد الأمريكي الذي ولدت الأزمة في أحشائه. فالاقتصاد الأمريكي هو أقوى وأكبر وأغنى اقتصاد في العالم، ويشكل أحد عناصر قوة الولايات المتحدة التي أصبحت بعد زوال الاتحاد السوفييتي القطب الوحيد المتحكم بالسياسة الدولية.
أما البعد الثالث: فيشير إلى أن هذه الأزمة في ضوء البعدين الأول والثاني ما هي إلا أزمة في النظام الرأسمالي الاحتكاري في تطوره وفي التزامه بأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة، مما يجعل من الضروري طرح السؤال الكبير حول مصير هذا النظام.
 
إلى أين سيؤدي هذا الجنون؟!
تناول رئيس الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية في محاضرته أربعة محاور أساسية هي:
- تشخيص الأزمة الراهنة وبيان مراحلها - واقع الاقتصاد الأمريكي والسياسات الاقتصادية - الأزمة من حيث كونها أزمة النظام الرأسمالي الاحتكاري الملتزم بأيديولوجية الليبرالية الاقتصادية الجديدة - ومصير النظام الرأسمالي. وتابع د. الحمش عرض محاوره الأربعة بإسهاب وقد رأى أن العقود الثلاثة الماضية شهدت تحولات هامة على صعيد العلاقات الاقتصادية والمالية الدولية في ظل سياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ما أفرز أجواء عولمية فرضت ما دعي بالعولمة المالية. وهذه التحولات حسب الباحث هي: ظهور المشتقات المالية التي اتسع نطاق استخدامها وتعددت أنواعها بعد انهيار بريتن وودز، إلى جانب ما شهده العالم من تقدم تكنولوجي وخاصةً في مجال الاتصالات والمعلوماتية والمواصلات، إضافةً إلى تصاعد عمليات الإبداع في مجال الأعمال وظهور صيغ جديدة من أشكال الشركات كالشركات القابضة والشركات التابعة لأغراض معينة، وطبعاً إلى جانب هيمنة الفكر الليبرالي الجديد المتمثل في (إجماع واشنطن) الذي تجسد في برامج التثبيت والتكيف الهيكلي برعاية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وصولاً إلى تساؤل د. الحمش حول كفاية قيام الولايات المتحدة بضخ السيولة للمصارف والمؤسسات المالية وحتى لشركات الإقطاع العيني من أجل إنقاذ النظام، خاصةً بعد دخول مرحلة الانكماش والركود؟!
وهنا دعا د. الحمش إلى إسقاط قول ساركوزي على الواقع الاقتصادي السوري (ومن المعروف أن ساركوزي جاء إلى الرئاسة في فرنسا بأجندة ليبرالية متشددة جداً)، إذ قال ساركوزي مؤخراً إن حالة الاضطراب الاقتصادي التي أثارتها أزمة الأسواق المالية الأمريكية وضعت النهاية لاقتصاد السوق الحر، وإن نظام العولمة يقترب من نهايته مع أفول الرأسمالية التي فرضت منطقها على الاقتصاد بأسره وساهمت بانحراف مساره، إن فكرة القوة المطلقة للأسواق ومنع تقييدها بأية قواعد أو بأي تدخل سياسي كانت فكرة مجنونة، وفكرة أن السوق دائماً على حق كانت أيضاً فكرة مجنونة!.. ليتساءل الحمش نفسه: إلى أين سيؤدي هذا الجنون؟!
 
الاحتمالات «المقررة» أمريكياً!
وتابع المحاضر عرضه للاحتمالات المطروحة أمام النظام الرأسمالي مستنداً إلى تقريرين صدرا مؤخراً في الولايات المتحدة، أولهما من مدير المخابرات الأمريكية دينس بلير الذي يشرف على 17 جهاز مخابرات في أمريكا، والذي حذر فيه من أن هذه الأزمة ستؤدي إلى ظهور حالات من التطرف العنيف الذي شهدته الولايات المتحدة في سنوات الكساد العظيم، وتابع الحمش أن هذا ما سبق للدكتور قدري جميل أن أشار إليه في مداخلة سابقة منذ شهور، وأكمل إن مدير المخابرات الأمريكية يقول في تقريره إن خطر أن تنتج هذه الأزمة انتفاضات ثورية هو خطر عالمي، فمن المرجح أن ينتج الانهيار المالي موجة من الانهيارات الاقتصادية في بلدان الأسواق الصاعدة خلال العام القادم، ويتوقع بلير أن يتم إطلاق موجات مدمرة من الإجراءات على نحو سبق أن أدى إلى تهيئة المناخ في ثلاثينيات القرن الماضي إلى انفجار الحرب العالمية الثانية، وإن التهديد الذي تشكله الأزمة الراهنة يرفع من تقدير الأخطار الإرهابية المحتملة (الكلام لبلير) مشيراً إلى قوس الاضطرابات الممتد من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا مروراً بأمريكا اللاتينية وإفريقيا وروسيا. أما التقرير الثاني فهو صادر عن البنتاغون بالذات، وهذا التقرير يطالب بالاستعداد لصدمات استراتيجية، ويرى التقرير أن هذا الاستعداد ضروري لتفكك استراتيجي عنيف داخل الولايات المتحدة قد ينشأ عن انهيار اقتصادي لا يمكن التنبؤ به، ويمكن لهذه الصدمات الاستراتيجية أن تتضمن استعدادات لاستخدام القوة العسكرية ضد جماعات معادية داخل أمريكا نفسها.
 الرأسمالية الاحتكارية إلى انهيار
وتابع د. الحمش: على أية حال فإن هذه الأزمة تؤكد أن النظام الرأسمالي بسياساته الليبرالية الاقتصادية الجديدة لن يستطيع الاستمرار، لكن مسألة انهياره تتوقف بالحقيقة على وجود البديل الذي سيكون بالتأكيد غير النظام القائم، يمكن أن يكون نوعاً من الاشتراكية التي يفترض أنها استفادت من التجربة السوفيتية، وإلى أن تتوفر الظروف والشروط المواتية فإن النظام الرأسمالي الاحتكاري سوف لن يكون غداً كما كان بالأمس، كما أن النظام العالمي وحيد القطب لابد أن يتغير باتجاه إيجاد الآليات الكفيلة بعدم السماح للولايات المتحدة بالاستفراد بالقرار الدولي.
 
د. جميل: حلان لا ثالث لهما!
ومن جانبه قدم د. قدري جميل مداخلةً حول القضية المطروحة جاء فيها: «القضية الأولى التي يجب التفكير بها، هي ما الذي سيسفر عنه اجتماع العشرين المرتقب؟ في المرة الأولى ذهبوا وفي فمهم كلام كثير، ولكنهم لم يقولوا كلمة واحدة عن الموضوع الأساسي نتيجة خوفهم، والآن سيتم الحديث حول المؤسسات المالية وضبطها وتشديد الرقابة عليها، بينما يكون قلب الدول الـ 19 (في كفة والولايات المتحدة في كفة أخرى) يتلهف إلى طرح الموضوع الأساسي وهو إلغاء دور الدولار كعملة عالمية واحدة، ولكن السؤال ما الذي يمكن أن يفعلوه لتحقيق هذه الرغبة؟ إن هذه الإرادة تتطلب القوة لتدعيمها، وهم ليس لديهم ما يكفي منها!.
إن جميع الدول مستاءة من كون الدولار عملةً عالميةً، لأنهم يشاركون في دفع ثمن الأزمة الأمريكية، وإذا لم تكن لديهم القدرة على إيقاف الولايات المتحدة عن طبع المزيد من دولاراتها فماذا سيكون وضع الدولار الأمريكي؟ سيبقى قيد الطباعة، وإذا ما استمر ذلك فإن العالم ذاهب إلى الانفجار.. (الذي تنبأ به التقريران اللذان أشار إليهما د. الحمش). وإذا افترضنا أن المعارضين استطاعوا إيقاف طباعة الدولار- وهذا مجرد افتراض لأنهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك- فماذا سيحل بالأمريكيين؟ إنهم محكومون بالتقرير ذي الصدمات الاستراتيجية الداخلية الذي تكلم عنه د. الحمش!. وليس هناك احتمال ثالث؛ إما صدمات استراتيجية كونية.. وإما صدمات استراتيجية أمريكية داخلية، وهذان هما الحلان الوحيدان.. وما أتكلم به ليس نابعاً من موقف أيديولوجي، وإنما هو أمر واقع، ونحن نتكلم به منذ سنوات»!.