د. غسان طيارة: الاقتصاد الوطني أبعد ما يكون عن الاقتصاد المقاوم
التقت قاسيون الوزير السابق د. غسان طيارة، وطرحت عليه جملة من الأسئلة حول واقع الاقتصاد السوري حالياً، وحول النموذج الاقتصادي المطلوب لمواجهة تحديات التنمية والاستحقاقات الوطنية الكبرى.. وكانت الخلاصة التالية:
يقول د. طيارة:
«تطرق الكثيرون في كتاباتهم لمفهوم النموذج الاقتصادي الوطني دون التعرُّض إلى الترابط العضوي بينه وبين سياسة الدولة، ولهذا وجدْتُ من الضروري تسليط الضوء على هذا الجانب حتى تكتمل صورة النموذج الاقتصادي المطلوب لسورية.
في نهاية الحرب العالمية الثانية ظهر معسكران اقتصاديان سياسيان يتقاسمان السيطرة على العالم الحديث، وهما: معسْكر الدول الرأسمالية، وكانت القوة والقرار في المعسكر بيد الولايات المتحدة الأميركية، ومعسْكر الدول الاشتراكية، وكانت القوة والقرار بيد الاتحاد السوفياتي، ولهذا فور انهيار الاتحاد السوفياتي انهار المعسكر الاشتراكي، وعندما عصفت الأزمة المالية بالولايات المتحدة الأميركية انتقلت إلى المعسكر الرأسمالي بجميع دوله.
انهيار الاتحاد السوفياتي لا يعني انهيار الاشتراكية
إن انهيار الاتحاد السوفياتي لا يعني انهيار الاشتراكية بدليل صمود الدول الاشتراكية التي كانت خارج المعسكر الاشتراكي كالصين، وكوبا، وفيتنام، وكوريا الديمقراطية، بل على العكس تنامى الفكر الاشتراكي والنضال الطبقي في العالم، وخير مثال على قولنا هذا هو ما يحْدث في بعض دول أمريكا اللاتينية، وفي مقدمتها فنزويلا.
الأزمة المالية التي ضربت واشنطن تفشت في دول المعسكر الرأسمالي كافة، مما يعني أن الترابط السياسي هو في الأصل ترابط اقتصادي، وعندما أرادت تلك الدول الخروج من تلك الأزمة بدأت بضخ أموالها الاحتياطية في جميع مدخلات اقتصادياتها بما يتقارب مع مفهوم تأميم الرأسمالية.
النموذج الاقتصادي يدعمُ القرار السياسي
وكنتيجة يتأكد لنا أن هناك تجانساً بين القرار السياسي والقرار الاقتصادي، يضاف إليه بأن قوة سلطة الدولة وتأثيرها في الاقتصاد أساسية في الحفاظ على التوجه السياسي لها.
أي أنه من مهام النموذج الاقتصادي لسورية دعمُ القرار السياسي فيها، ولهذا نتساءل هل ينسجم نموذج الاقتصاد السوري مع القرارات السياسية لسورية؟
وإذا افترضنا أن جميع المواطنين مؤيدون للقرار السياسي في سورية العربية، فهل جميع الفئات المواطنين مؤيدون لنموذج الاقتصاد السوري؟
وفي الإجابة على تلك الأسئلة نجد ما يلي:
- إن النموذج الاقتصادي الساري في سورية حالياً غير متفق عليه، ونحن مختلفون حوله، رغم افتراض وجود توافق على القرار السياسي، والتخوف الأول هو أن يكون التوافق السياسي مؤقت تمْليه المصالح الضيقة لبعض فئات من الجماهير الشعبية، ومع زيادة الاختلاف سيتخلى القرار الاقتصادي عن دعمه للقرار السياسي.
ا- القرار السياسي في سورية هو قرار مقاوم، لكن الاقتصاد الوطني أبعد ما يكون عن الاقتصاد المقاوم الذي يعْتمد على موارد الوطن والمواطن الذاتية في جميع المجالات الاقتصادية، لأنه اقتصاد يحابي الفئة المترفة ويحْظَى بتأييدها على حساب تناقضه مع مكونات الجماهير الشعبية.
النموذج الاقتصادي الحالي لا يحظى بالتأييد الكافي
ويمكن تأكيد هذا الاختلاف من المعطيات التالية:
1 - نحن غير متفقين على تأثيرات مكونات الناتج المحلي على المستوى المعاشي للمواطنين، لأن تزايد النسبة السنوية لهذا الناتج لا يعتمد على زيادة الإنتاج، وإنما يعود لزيادة إنفاق عدد محدود من المواطنين على حساب باقي فئات الشعب، ولهذا نتساءل: هل هذه الفئة المترفة، التي يشكِّل إنفاقها حجماً كبيراً في نسبة تزايد الناتج المحلي الإجمالي، تقبل أن تتقاسم نفقاتها مع معظم فئات الشعب؟! والجواب طبعاً لا يمكن، ونفس تلك الفئات المترفة، وهي قادرة على زيادة إنفاق الإنتاج، هل هي مستعدة لتحويل جزء من إنفاقها لمصلحة زيادة الإنتاج؟! وهنا يحتمل الجواب وجود حالتين، الأولى إذا كانت تلك الفئة المترفة متأكدة من زيادة أرباحها وغناها على حساب ما تنفقه في زيادة الإنتاج، والحالة الثانية أن تكون تلك الفئة خائفة من زيادة قوة العمل المنتجة على مصالحها، فلن تغامر في زيادة إنفاقها على الإنتاج، وهذا ما يحْدث فعلاً.
2 - نسبة البطالة غير متفق عليها ولا على طريقة حسابها، يضاف إلى ذلك بأن دور الفئة المترفة ضعيف، خلال الخطة الخمسية العاشرة، في تخفيض تزايد نسبة البطالة.
3 - نسبة الفقر غير متفق عليها ولا على عناصرها، ومن أهم أسباب زيادة نسبة الفقر يعود إلى زيادة تجمُّع الثروات بيد الفئة الغنية المترفة.
4 - تقع مسؤولية العجز في الميزان التجاري على الفئة المترفة، وهل يمكن لمن يساعد على زيادة العجز في الميزان التجاري أن يكون مع القرار المقاوم؟، والجواب المتفائل لهذا السؤال، يجعلنا نشكك في تحقيق ذلك.
5 - يقع الجزء الأكبر من مسؤولية انتشار الفساد في الإدارات الحكومية على الفئة المترفة نفسها مستغلة حاجات العاملين في الدولة فتغْريهم وتشجعهم على الفساد، أي أن الفئة المترفة في الوطن فاسدة ومفْسِدة، وهنا نتساءل هل يمكن للمُفْسِد أن يكون مع القرار المقاوم؟ والجواب طبعاً لا يمكن.
وعليه يجب التأكيد على أن نجاح أي نموذج اقتصادي يعْتمد على تأييده من معْظم فئات الشعب، وهذا غير متوفر في نموذج اقتصادنا في سورية.
وكنتيجة حتمية فإن النموذج الاقتصادي المطلوب يجب أن يكون اقتصاداً مقاوماً داعماً للقرار السياسي المقاوم ويحظى بأكبر تأييد من أصحاب المصالح الحقيقية في المقاومة المتمثلة بجماهير الشعب.
الشعب يدعم النموذج الاقتصادي المقاوم
لا تعْترف الحكومة بكل ما كُتِب حول هذه المواضيع ولا ترضى أن تتحاور مع غير الموافقين على سياساتها الاقتصادية مما يجعلنا نؤكد على ما يلي: إن النموذج الاقتصادي النافذ في سورية غير متفق عليه ومشكوك في شعبيته، وبسبب هذا الاختلاف في وجهات النظر يصبح تأييد القرار السياسي المقاوم مشكوك به، ولهذا نؤكد على أن كادحي الشعب يدعمون بشدة القرار السوري المقاوم ويدعمون النموذج الاقتصادي المقاوم المعْتمد على مواردنا الذاتية المتمثلة بقوة العمل المستمدة من الجماهير الوطنية.
إن الاقتصاد السوري صغير بحجمه مقارنةً مع بعض الدول المتقدمة التي تقل عن سورية في تعداد السكان والمساحة مثل هولندا وبلجيكا، ولهذا يصعب أن يكون لسورية دور في التقسيم الدولي للعمل، وكنتيجة لذلك فإن تأثير الأزمة المالية العالمية على سورية متنوع ومختلف، فهو ضعيف في مجال وقوي في مجال آخر:
1 - زيادة الادخارات من التأثيرات الجيدة، ولكن انخفاض الاستثمار من التأثيرات السلبية.
2 - زيادة الاستيراد على حساب التصدير بسبب خفض تكاليف منتجات دول الأزمة المالية مقارنة مع ارتفاع تكاليف منتجاتنا، بالإضافة إلى خفض استيرادات تلك الدول من منتجاتنا.
3 - تقليص فرص العمل في دول الأزمة المالية أدى إلى خفض واردات المغتربين، وزيادة نسبة البطالة بينهم.
يجب تفعيل دور الدولة
ومن هذا كله نستنتج ما يلي: يجب تفعيل دور الدولة في بناء نموذج اقتصادي يخدم القرار السياسي المقاوم وهذا يتم من خلال التالي:
- زيادة توظيف استثمارات الدولة في مشاريع إنتاجية ضرورية نستعيض فيها عن ضعف استثمارات القطاع الخاص وتساعد على خفض المستوردات وفي زيادة حجم الصادرات لتخفيف حجم عجز الميزان التجاري، وخفض نسبتي الفقر والبطالة.
- توجيه الرأسمال الوطني نحو مجالات اقتصادية محددة من خلال وضع حوافز لها، بهدف زيادة صادراته والتخفيف من حجم وارداته.
- تشجيع الرأسمال الوطني لتوظيف بعض نفقاته لمصلحة الخدمات العامة وللتعليم والصحة ( ليس من خلال فتح الجامعات والمستشفيات وإنما من خلال تقديم هبات مالية للجهات الحكومية المشرفة على تلك الخدمات).
- رصد حركة خروج رأس المال من سورية، وتشجيع دخوله (إن الولايات المتحدة الأميركية تضع شروطاً قاسية على حركة الرساميل خارج بنوكها ولهذا فهي قادرة على فرض قرارات المقاطعة على بعض الدول التي تعارض نهجها السياسي، كما أنها لن تسمح بسحب أرصدة ضخمة لمواطنين غير أميركيين من بنوكها).
- وضع نظام ضريبي عادل لصالح أصحاب الدخل المحدود ويساوي بين القطاعين العام والخاص في الفرض والجباية، وتحسين نظام الجباية من القطاع الخاص لزيادة الحصيلة الضريبية التي تحتاجها الدولة لزيادة خدماتها واستثماراتها التي يحتاجها المجتمع.
- تحصيل حقوق الدولة من أصحاب الفعاليات الاقتصادية في مواعيدها.
- تحصيل حقوق العمال الحقيقية من أصحاب الفعاليات الاقتصادية.
إن قيادة جميع مكونات العمل الاقتصادي من القطاع الخاص يُضْعف من دور الدولة وبالتالي يضعف قوة القرار السياسي لها، ولهذا لا بد من بناء نموذج اقتصادي يراعي إمكانية جعل القرار الاقتصادي بيد الدولة مع الحفاظ على الدور الوطني للرأسمال الوطني، ويمكن أن يشارك القطاع الخاص في مجالات اقتصادية حيوية من خلال محفزات محددة لتلك المجالات، وعلى سبيل المثال: عناقيد صناعية في النسيج أو في الصناعات الغذائية أو في صناعات مواد البناء، ويمكن أن تشارك الدولة معه في مثل تلك المجالات الصناعية، ومن المحفزات الممكنة: تحديد رسوم وضرائب مُخفَّضة طيلة مدة استثمار هذه الصناعات، أو بيع الأراضي لمثل هذه المشاريع بأسعار رخيصة وحتى مجانية، سواء للقطاع الخاص أو العام أو المشترك.
وفي الوقت نفسه يجب أن تبقى بعض المجالات الصناعية والخدمية بيد الدولة مثل توليد الكهرباء وملكية المطارات والمرافئ والطرق العامة لأنها تعطي قوة للقرار السياسي.
إن الدولة السورية بمكوناتها الاجتماعية تحتاج إلى مشاركة فعَّالة وحقيقية لجميع فئات الشعب، وحشد مواردها المادية والبشرية كاملة لتوظيفها في التنمية، ولهذا فإننا نقترح اعتماد نموذج الاقتصاد الموجه، ( يحتاج شرح هذا المفهوم لبحث خاص فيه) ولكن أكتفي بإيراد العبارة التالية:
- بعد سقوط مفهوم أن السوق ينظم نفسه بنفسه، فإننا نجد بأن الاقتصاد الموجه يقبل بتنظيم السوق ويقبل بالتنافس العادل ولا يقبل بالإغراق ويخفف من حدة انتشار الفساد.