المستوى المعيشي للسوريين بين التسويف بـ«الرفاهية»حكومياً.. وتوسع دائرة الفقر عملياً
عندما سئل النائب الاقتصادي خلال مشاركته في اجتماع الهيئة العامة الخامسة لغرفة صناعة حمص: لقد تكلمتم عن إنفاقات استثمارية هائلة، من أين سيتم تأمين الموارد لهذه الإنفاقات أمام عجز الخزينة عن تأمين زيادة الرواتب التي وعدت بها الخطة الخمسية العاشرة، وعدم التمكن من رفع المستوى المعيشي للمواطن؟! ... فأجاب الدردري نافياً وجود عجز في الخزينة، معتبراً أن عجزها لا يمكن أن يتعلق بإمكانية زيادة الرواتب، مضيفاً: «أما بالنسبة للمستوى المعيشي للمواطن الذي أصبح لديه فائض سيولة في المصارف، فهناك إيداعات بلغت 400 مليار ليرة سورية لحسابات دون المليون ليرة سورية، فلو أن المواطن بحاجة لأستجر مبالغ من الإيداعات، مؤكداً زيادتها من 200 - 400 مليار ليرة، وهذا مؤشر على ارتفاع المستوى المعيشي للمواطن السوري، والمؤشر الآخر ينحصر بسؤاله: كيف استطاعت أكثر من 200 ألف أسرة سورية من تدريس أولادها في التعليم الموازي»؟!
آليات وأساليب جديدة يحاول من خلالها المسؤولون الاقتصاديون قياس تحسن المستوى المعيشي للمواطن السوري، وإجبار هذا المستوى على التحسن قسراً، بدلاً من انتهاج سياسات اقتصادية كفيلة برفعه، وخصوصاً بالنسبة للفقراء وذوي الدخل المحدود، فتحسن المستوى المعيشي يجب أن يقاس دائماً من خلال علاقة الدخل والأسعار بالنسبة للشريحة الكبرى من المواطنين، وليس بإيداعات شريحة صغيرة في المصارف العامة والخاصة، هذه الفئة التي يعرفها الجميع، والتي لا يتجاوز عدد أفرادها في أحسن الأحوال 200 ألف مودع بين صغير وكبير، مقارنة مع 23 مليون سوري على الأقل، أي لا تتعدى نسبتهم 1%، وإذا ما افترضنا أن كل واحد منهم ينتمي إلى أسرة فإن نسبتهم تصل إلى 4% من مجموع الأسر السورية المقدرة بـ 5 ملايين، فهذه النسبة من الغنى معترف بها في سورية، ولكن السؤال المطروح هنا: هل تعبّر إيداعات هذه الشريحة (4%) عن أحوال الشعب السوري بعمومه؟! وهل يختزل واقعها الاقتصادي خارطة معيشته؟! هذه الفئة القادرة أساساً على تعليم أولادها في التعليم الموازي أو الجامعات الخاصة، علماً أن إقساط أغلب فروع التعليم الموازي باستثناء الهندسات والطب، هي بين 30 ـ 40 ألف سنوياً، وهي تكلفة يضعها اليوم من يعلّم أولاده في الجامعات الحكومية أيضاً (سكن، محاضرات، تنقل، مصاريف أخرى متنوعة)، حتى المواطن السوري المعدم يجبر على تأمين هذه المبالغ ـ حتى ولو بالاستدانة ـ فهل هذا دليل رفاهية اقتصادية يعيشها الشعب السوري المجبر بفعل الواقع الاقتصادي والغلاء وتعدد وتنوع متطلبات الحياة الأساسية على العمل لدوامين أو ثلاثة أحياناً؟، هذا المواطن الذي يجلد نفسه مع طلوع كل فجر بعمل متقطع ـ متواصل لمدة 15 ساعة يومياً في أغلب الأحيان، وذلك مقارنة مع 40 ساعة أسبوعياً في أغلب دول العالم الثري، هذه الساعات الأربعون القادرة على تأمين متطلبات الحياة والعيش الكريم.
وبالانتقال إلى الربط بين الـ400 مليار ليرة سورية المودعة في حسابات دون المليون ليرة سورية، واعتبارها مؤشراً على ارتفاع المستوى المعيشي للمواطن السوري، فإننا نجد ـ بالاستناد إلى تقرير المصرف المركزي السوري الصادر في شهر أيار 2010 - أن إجمالي حجم السيولة الفائضة (بالليرة السورية والعملة الأجنبية) لدى المصارف العاملة في السوق السورية (عامة، خاصة) حتى نهاية 2009 بلغ نحو 256 مليار ليرة بزيادة قدرها 56 مليار ليرة عن مستواها في 2008، بمعدل نمو 27.1%، وفائض السيولة تركز لدى المصارف العامة بمبلغ 170 مليار ليرة بنسبة 64% من إجمالي الفائض لدى القطاع المصرفي، في حين بلغت نسبة فائض السيولة لدى المصارف الخاصة حوالي 36% أي ما قيمته 94 مليار ليرة حتى نهاية 2009، وبالاستناد إلى أن نسبة التسليف إلى الودائع في المصارف الخاصة السورية التي لا تزال متدنية إذ تتراوح ما بين 25 إلى 30% (25 مليار ليرة)، وهي قريبة من نسبة التسليف في المصارف العامة، نجد أن إجمالي ما هو موجود من أموال في أروقة المصارف العامة والخاصة، بالإضافة إلى ما قامت هذه المصارف بإقراضه لا تتعدى 350 مليار ليرة سورية، فأين هي الـ400 مليار ليرة المودعة في حسابات الصغار أقل من مليون ليرة وحدهم؟! فكيف يمكن أن تكون أموال المودعين الصغار أكبر من فائض السيولة والقروض المقدمة مجتمعين من المصارف العامة والخاصة العاملة في سورية؟! وهل خلت مصارفنا من المودعين الكبار الذين تفوق إيداعاتهم المليون ليرة سورية؟! فأين مصداقية الأرقام ـ 400 مليار في أروقة المصارف لحسابات أقل من مليون ليرة ـ التي يتحدث عنها هؤلاء المسؤولون الاقتصاديون في هذه الحالة؟!
من جانب آخر، يشكل نفي النائب الاقتصادي وجود عجز في الخزينة، واعتباره أن هذا العجز لا يمكن أن يتعلق بإمكانية زيادة الرواتب، أرضية خصبة لتساؤلات كبيرة، خصوصاً وأن العديد من المسؤولين الحكوميين يذكرنا مع كل طلة إعلامية أن العجز في الموازنة العامة للدولة هو العائق الوحيد أمام زيادة رواتب العاملين في سورية، كما كان هذا العجز في السابق الحجة الحكومية الدائمة للمطالبة برفع الدعم عن المواطن والزراعة السورية، وهذا ما تجسد في العام 2008 برفع أسعار المشتقات النفطية والأسمدة في السوق المحلية بما يساوي أو يضاهي أحيانا الأسعار العالمية للمادة ذاتها، فما هي حقيقة وجود العجز من عدمه؟! وهل يستخدمه البعض شماعة حكومية لتمرير الإجراءات والسياسات المجحفة بحق المواطن السوري؟! أما التساؤل الآخر: إذا توفرت الإمكانية، لماذا لا تقوم الحكومة بزيادة رواتب وأجور العاملين في الدولة؟ خصوصاً وأن هذه الزيادة تشكل اليوم، وفي كل يوم ضرورة قصوى لتحسين المستوى المعيشي للمواطن السوري، مع الارتفاع اليومي للأسعار، وتدني القيمة الشرائية لليرة السورية؟