هل انعكست أرقام النمو إيجاباً على المواطن السوري كما يزعم الزاعمون؟!
هل انعكست أرقام النمو إيجاباً على المواطن السوري كما يزعم الفريق الاقتصادي الحكومي؟!! سؤال تتباين الإجابات عليه، ففي بعض الأوساط الحكومية هناك إصرار على انعكاس هذا النمو على المواطن السوري، لكن هذه الأوساط لا تحدد طبيعة هذا الانعكاس أهو إيجابي أم سلبي، لتترك للمتابعين الاجتهاد في تفسير ما تقصده. أما لدى الناس، ولدى العديد من الاقتصاديين فالإجابة واضحة: لا، لم ينعكس إيجاباً، ليتبع هذه الإجابة الصارمة تشكيك وتفنيد علمي لحقيقة أرقام النمو المعلنة أساساً، والتي تؤكد عدم انعكاسه إيجابياً على المواطن السوري العادي على الإطلاق.
■ د. منير الحمش لـ « قاسيون»:
النمو لم ينعكس إيجابياً لا على المواطن السوري ولا على الاقتصاد الوطني
معدلات النمو انعكست سلباً على المستوى المعيشي للمواطن السوري
يؤكد د. منير الحمش أن معدلات النمو المعلنة لم تنعكس بشكل إيجابي أبداً على المستوى المعيشي للمواطن السوري، وإذا انعكست فبشكل سلبي، وذلك من خلال زيادة معدلات البطالة وتفاقم معاناة الناس، واتساع دائرة الفقر، موضحاً أن انعكاس معدلات النمو على مؤشرات التنمية البشرية (مستوى المعيشة، الفقر، البطالة، التعليم، الصحة) هو الأهم، مشيراً إلى أن الأرقام المعلنة للنمو غير دقيقة لافتقار الجهة الحيادية العلمية التي تقدمها، بالإضافة للتضارب الحاصل في الأرقام بين المؤسسات الدولية والمكتب المركزي للإحصاء من جهة والبيانات الحكومية من جهة أخرى، وبالتالي فإننا الآن نأخذ أرقام النمو – بافتراض صحتها - ونتحدث عن مدى انعكاسها على الناس.
د. الحمش يرى أن القضية الأساسية تتعلق بالسياسات الاقتصادية وجوهرها، المتوجهة نحو اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية، هذه التوجهات التي لا تعطي أهمية لمسألة التنمية، وإنما تركز على النمو، بحجة أنه عندما يتحقق النمو الاقتصادي يمكن في المستقبل أن يكون هناك توسع لهذا النمو بحيث يطال مختلف الشرائح الاجتماعية، والمستندة لنظرية تساقط النمو للاقتصادي الأمريكي روستو، بمعنى أن النمو المتحقق تناله فئات اجتماعية معينة من السكان (الفئة الغنية)، وتعود هذه الفئات من جديد للاستثمار، وبالتالي يعم تدريجياً النمو على مختلف فئات الشعب، وهذه افتراضات ثبت عدم صحتها، لأنه عندما تتراكم الثروة لدى فئة معينة نجدها تزداد شراسة، وتسعى للمزيد من تراكم الثروة، وخاصة في بلدنا، حيث ثبت عملياً أن الفئة التي تستفيد من عوائد عملية النمو لا تقوم بعملية استثمار جدية في الداخل، بل تنحرف هذه الإيرادات باتجاه الاستهلاك التفاخري، وتهريب الأموال إلى الخارج، أو الاستثمار في قطاعات هامشية لا تخدم عملية التنمية.
وبيًن د. الحمش أن التنمية هي الأهم، بمعنى أنه يجب توسع عائدات النمو الاقتصادي لتشمل جميع فئات الشعب، وتعمل على النهوض في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وهذا غير محقق في ظل السياسات الاقتصادية المتبعة، وهذا بعكس مطالب البلدان المتقدمة في مجالات الزراعة والصناعة والحضارة، والتي يهمها دائماً زيادة معدلات النمو الاقتصادي.
وتساءل د. منير الحمش عن ماهية القطاعات الاقتصادية التي حققت النمو، مبيناً أن النمو الذي يحققه القطاع المالي والمصرفي والعقاري والسياحي لا تنعكس أثاره ونتائجه إلا على فئة معينة من السكان - وهذا شيء يتم لمسه يومياً –، في الوقت الذي يتراجع فيه دعم القطاعات الإنتاجية، حيث يتم سحب الدعم المقدم للصناعة، وتراجع دعم الزراعة، بينما تلجأ الدول الصناعية المتقدمة إلى دعم صناعتها، والدفاع عن منتجاتها الوطنية في وجه عمليات المنافسة غير المتكافئة مع منتجات البلدان الأخرى.
وأضاف د. الحمش قائلاً: إن الإجراءات الحكومية تتوجه نحو تفعيل اقتصاد السوق، وتحرير التجارة، والسوق المحلية والأسعار، تزامناً مع تراجع مهم عن دورها في مجال الخدمات الصحية والتعليمية المقدمة للمواطنين بشكل خاص.
وختم د. الحمش بالإشارة إلى أن أرقام النمو لم تنعكس لا على المواطن السوري ولا على الاقتصاد الوطني، فالميزان التجاري يواجه عجوزات كبيرة، وكذلك هو حال الموازنة العامة للدولة، وهذا واضح ومعترف به.
■ د. نزار العبد الله لـ «قاسيون»:
السياسات الاقتصادية تشل قوى الإنتاج... فكيف للنمو أن يتحقق؟!
أكد د. نزار العبد الله أن أرقام النمو - إذا ما حدثت - فإنها انعكست على شريحة محددة (كبار التجار، وجزء من المستثمرين)، لكن عموم الشعب السوري لم يستفد منها، فالدخل الحقيقي للمواطن السوري يتراجع عاماً بعد عام نتيجة السياسات الاقتصادية المتبعة التي تدمر الاقتصاد والمجتمع، المترافق مع سوء في توزيع الثروة والدخل، مشيراً أن السياسات الاقتصادية المتبعة أدت لحدوث شلل في قوى الإنتاج والقطاعات الاقتصادية كافة بشكل عام، فالقطاع الزراعي بتراجع مستمر، والصناعي العام يحاصر، ويكبل بشتى القيود، ولا يسمح له بتجديد آلاته، والصناعي الخاص توضع العقبات في طريقة أيضاً، فكيف للنمو أن يتحقق إذاً؟! و أين كان هذا النمو؟!
وأوضح د. العبد الله أن قيمة الإنتاج الزراعي بالأسعار الثابتة كانت في العام 2000 حوالي /337/ مليار ليرة سورية، وأصبحت /351/ مليار ليرة في العام 2008، رغم الزيادة السكانية التي قاربت /20%/ خلال هذه الفترة، والتي أتت كنتيجة أولية لرفع أسعار المازوت والأسمدة بنسبة 350%، مما أدى لهجرة الفلاحين من مناطق الجزيرة والحسكة وغيرها بسبب تردي الإنتاج الزراعي، هذا بالإضافة لثبات أسعار المحاصيل الزراعية خلال عقد من الزمن على الرغم من ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، وذلك انطلاقاً من تخطيط أرباح منتجي القمح مثلاً خلال عقد من الزمن عند نسبة 2% من قبل مديرية الإحصاء والتخطيط في وزارة الزراعة، فكيف يمكن للفلاح أن يرفع دخله في هذه الحالة؟! بينما سمحت السياسات الاقتصادية للتاجر وضع السعر الذي يريده شرط الإعلان عنه فقط، كما خسرت سورية حوالي /100/ آلاف هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة خلال الخطة الخمسية العاشرة، لأن التوسع العمراني يتم حصراً على الأراضي الزراعية، وهذا لا يحصل إلا في سورية!!.
وبيَن د. عبد الله أن قوة العمل في سورية بقيت عند حدود /5/ مليون طيلة عقد من الزمن، وهذا يفترض ارتفاع الإنتاجية لكي يرتفع النمو الاقتصادي، فكيف تحقق النمو بغياب زيادة الإنتاجية والاستثمارات الضخمة في مجال الزراعة والصناعة على حدٍ سواء لتطوير وتحديث وسائل الإنتاج؟! كما أن البطالة طالت أكثر من /50%/ من القادرين على العمل، حيث دخل سوق العمل في السنوات الخمس الماضية /2.5/ مليون إنسان، فأين وجدوا عملاً؟! وارتفع أيضاً معدل الإعالة، كما تراجعت القيمة الشرائية للأجور، والتي كان من أهم أسبابها التضخم الناجم عن السياسات الاقتصادية، هذا التضخم الذي يأخذ من الفقراء ويعطي للأغنياء.. هكذا انعكس النمو المزعوم على المواطن السوري!!
وأشار د. عبد الله إلى أن الاقتصاد السوري يعاني من كساد كبير منذ قرابة عقد من السنين نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة التي ينفذها الفريق الاقتصادي، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية لتساهم في إظهار أوسع لمواطن الخلل، فالأزمة أفلست كبرى المصارف العالمية، كما أنها تهدد النظام الرأسمالي برمته بالانهيار، وهذا الانهيار المتوقع سببه سوء توزع الثروة، والدخل الفاحش لمصلحة فئة صغيرة، والأهم بسبب ترك العمل على الغارب لاقتصاد السوق. هذا ما يقوله الآن العديد من الاقتصاديين في الغرب، فهل يختلف الوضع عندنا كثيراً؟!
■ د. عابد فضلية لـ «قاسيون»:
هناك انعكاس متفاوت للنمو يختلف باختلاف الشرائح الاجتماعية
يرى د. عابد فضلية أن النمو الاقتصادي المحقق في سورية خلال السنوات الماضية لم ينعكس على المواطن العادي من زاوية الدخل المحدود، وعلى الأخص الشرائح الأفقر، لأن هذا النمو تحقق في القطاعات المالية والعقارية والتجارية وليس من خلال نمو القطاع الصناعي والزراعي – القادرين على تشغيل القسم الأعظم من اليد العاملة السورية - فإن ضعف نمو القطاع الصناعي والزراعي أدى لعدم انعكاسه على الشرائح الفقيرة. وأشار د. فضلية إلى أن عدم ارتفاع حجم كتلة الرواتب والأجور (عوائد عنصر العمل)، بنسبة زيادة الدخل القومي نفسها، يعد المؤشر الأساسي على ضعف انعكاس معدلات النمو الاقتصادي على المواطن السوري (القسم الأعظم من القوى العاملة)، في الوقت الذي ارتفعت فيه الفائدة (عوائد رأس المال)، والأرباح (عوائد المستحدث أو المنظم أو المستثمر).
وأوضح د. فضلية أن هناك علاقة جدلية بين مستوى الأجور والنشاط الاستثماري والنمو والبطالة والفقر، أي أنه لن يطرأ تحسن على المستوى المعيشي للشريحة الأكبر من اليد العاملة للعاملين بفعل ضعف النمو في القطاعات التي يعملون بها، وهذا يؤدي بدوره إلى انتشار البطالة لدى جزء من هذه القوى (اليد العاملة)، والوجه الآخر من البطالة هو الفقر، فعائد العملية الإنتاجية في القطاعات الخدمية المالية يكون لمصلحة رأس المال والربح بشكل أساسي، بينما العائد الأكبر في قطاعي الزراعة والصناعة يعود للقوى العاملة، وهذا يعني أن النمو لم ينعكس بشكل كاف على الرواتب والأجور، فالذي استفاد خلال الفترة الماضية هو الاقتصاد الوطني عموماً، إلا أن حصة الفوائد والأرباح من هذا النمو كانت نسبياً أكبر من حصة الرواتب والأجور مقابل العمل، أي أن القلة - أصحاب رأس المال والمستثمرين – حصلوا على الحجم الأكبر من عوائد النمو، بينما لم تحصل الأغلبية - العاملون بأجر والشريحة الأكبر في المجتمع - إلا على جزء صغير من عوائد هذا النمو، أي أن هناك انعكاساً متفاوتاً للنمو باختلاف الشرائح الاجتماعية.
وأشار د. فضلية إلى أن ارتفاع نسبة التضخم الحاصلة في الاقتصاد السوري خلال الفترة الماضية ساهمت في الحد من تأثير النمو على الشرائح الفقيرة، لأن التضخم ابتلع عوائد النمو من أيدي أصحاب الدخل المحدود، لأن آثاره بطبيعة الحال تكون موجعة لأصحاب الدخل المحدود أكثر بكثير مما هي عليه لأصحاب الدخول المرتفعة، أي أنه عندما يكون دخل الفرد شهرياً مليون ليرة سورية ويحدث التضخم بنسبة /10%/ يمكن لصاحب هذا الدخل استهلاك /900/ ألف وتكون كافية، ولكن عندما يكون الدخل /10/ ألاف - بالكاد يكفي أساساً - ويحدث هذا التضخم، فإن صاحب هذا الدخل يقع في عجز ونقص مالي.
واعتبر د. فضلية في ختام اللقاء أن فترة انتقال التي يعيشها الاقتصاد السوري حالياً بين اقتصاد المخطط واقتصاد السوق الاجتماعي عادة ما تكون مشوهة، ويحدث فيها خلل هيكلي، وهي التي ساهمت جزئياً في ضعف النمو، والتشوه في توزيع الدخل القومي، والأثر السلبي للبطالة والفقر، متمنياً أن يتجاوز الاقتصاد السوري هذا الخلل بصورة سريعة، وهذه من الآثار السلبية للمرحلة الانتقالية التي جرت خلال الخطة الخمسية الحادية عشرة.