د. منير الحمش لـ«قاسيون»: معدلات نمو عالية وهمية لتبرير التحولات الجارية
ليس من قبيل المصادفة أن تُجمع جميع التقارير الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية عربياً ودولياً على مخالفة رقم النمو المعلن من جانب الحكومة السورية، حيث أكد تقرير اقتصادي عربي صدر مؤخراً أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في سورية للعام 2009 بلغ نحو 3.99%، بينما ذهبت تقارير اقتصادية دولية أبعد من ذلك، حيث أشار تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في الشهر الرابع من العام الحالي إلى أن الناتج المحلي السوري انخفض من 54.5 مليار دولار عام 2008 إلى 52.5 مليار العام الماضي، بينما أكدت الحكومة أكثر من مرة أن نسب النمو المحققة وصلت إلى 5,5 – 5,8%، وهذا الاختلاف، أو بالأحرى الخلل بالأرقام الحكومية ليس مصادفة حتى لو حاول البعض تبريره باختلاف طرق احتساب الناتج المحلي التي تؤدي إلى ظهور فوارق بسيطة لا تتعدى بالضرورة نسبة 1%، وهذا معترف به، لكن الفوارق الحالية تشير إلى ما هو أبعد من خلل في طريقة الاحتساب..
توجهت «قاسيون» إلى الباحث الاقتصادي د. منير الحمش لسؤاله عن رقم النمو الذي بات إشكالية سورية بامتياز تقابل برفع الجهات الحكومية نسبه ودوره خلال السنوات الأخيرة.
ما الغرض من تركيز الإدارة الاقتصادية على معدل النمو في هذه المرحلة؟! وما أسباب الفارق الحاصل في الأرقام؟
المؤسسات الدولية تركز اليوم على معدل النمو وتأخذه كمعيار للتطور الاقتصادي، وهذا التركيز طبيعي في الأنظمة الليبرالية والنظام الرأسمالي الذي يهمه معدل النمو، لكن ما يهمنا نحن في البلدان النامية هو التنمية، فالأنظمة الليبرالية تمتلك أدوات لمعالجة مسألة انخفاض معدل النمو أو توجيهه، لأن لديهم سياسة لمواجهة التضخم أو الانكماش إذا حصل، فما يشغلهم ليس التنمية بل كيفية المحافظة على نوع من التوازن الاقتصادي، فالطبابة، الخدمات، والمؤشرات البشرية، والعدالة الاجتماعية ترهق البلدان النامية، لكنها لا تعتبر أساسية للبلدان الرأسمالية، لأنه تم التوصل لحلول لها، على الرغم من أن الأزمة العالمية الأخيرة أظهرت نوعاً من الثغرات في النظام الرأسمالي.
أما بالنسبة لسورية، فتركيز الإدارة الاقتصادية في سورية على معدل النمو يأتي نتيجة تماس الإدارة الاقتصادية مع المؤسسات الدولية، ونتيجة للتحولات التي حصلت باتجاه اقتصاد السوق، مما خلق نزوعاً لدى الحكومة والفريق الاقتصادي بكامله لتبيان معدل نمو كبير تبريراً للتحولات الجارية على الصعيد الاقتصادي باتجاه الانفتاح الاقتصادي واقتصاد السوق.
إن معدل النمو يجب أن يكون واحداً من مجموعة مؤشرات في عملية التنمية، تتضمن مؤشرات التنمية الإنسانية والبشرية، فهمنا يجب أن ينصب على التنمية، لكن التركيز على معدل النمو في الفترة الأخير خلق نوعاً من الاضطراب بالإدارة الاقتصادية، هذه الإدارة التي ترغب بإظهار وجود إنجازات لدى الرأي العام وحقيقة ضآلة الانجازات بل وتراجع الاقتصاد الوطني.
الاعتماد على رقم النمو كمؤشر للانجاز الاقتصادي.. هل هو هروب للإمام كونه مؤشراً فضفاضاً؟!
الإدارة الاقتصادية تتدخل في كيفية احتساب معدل النمو من أجل إظهار معدلات نمو عالية لتبرير التحولات الجارية على الصعيد الاقتصادي في ظل غياب معرفة التثقيلات التي تستخدم في الدوائر الإحصائية لإخراج هذا الرقم، والرأي العام يفهم رقم النمو من خلال تأثير السياسات الاقتصادية على مستوى معيشته (الأسعار، رسوم المدارس، الطبابة، والحياة الاجتماعية)، وهو ذاته لا يعرف اليوم إلا الغلاء، وتردي خدمات التعليم والصحة، فلو قلت للمواطن وصل معدل النمو إلى /10%/، يسألك: ماذا انعكس من هذا النمو على حياتي ومستوى معيشتي؟!
إن معدلات النمو في مرحلة التحول الحالية نحو اقتصاد السوق ـ إذا ما تحققت ـ ستعود بالنفع على فئات محددة وصغيرة (المستفيدين من عملية التحول)، وبالتالي ستكون على حساب مجموع الشعب والشرائح المتوسطة التي تنحسر يوماً بعد يوم، وتتدنى لتصل إلى مستوى معيشة الفقراء.
انطلاقاً من مستوى معيشة الشعب السوري اليوم.. برأيك ما نسب النمو الأقرب إلى الواقع؟
يجب التوقف لتحليل الوضع الاقتصادي الذي يتميز اليوم بمعدل نمو غير منتظم، والسبب يعود إلى الطبيعة الريعية للاقتصاد الوطني أو التوزيعية الهامشية، هذه الطبيعة التي تجعل اقتصادنا أكثر حساسية لأية تغيرات اقتصادية على الصعيد الإقليمي أو الدولي نتيجة ارتباطه بالانفتاح وتحرير التجارة، ويضاف إلى هذا ما أبرزته التحولات الاقتصادية ـ اعتماد الاقتصاد الوطني على القطاع الأولي من جهة، وعلى السياحة والعقارات والخدمات من جهة أخرى ـ، فالقطاعات المعتمد عليها في النمو تمتلك حساسية تجاه ما يجري في الخارج، فالسياحة ترتبط بعملية السلام والاستقرار في المنطقة وبالأزمة الاقتصادية العالمية، وكذلك القطاع المالي والمصرفي. بالإضافة إلى غياب السياسات الاقتصادية الكلية المتوازنة، حيث نجد سياسات منفصلة تعمل وحدها في القطاع المالي أو النقدي، إذ لا توجد هناك موازين اقتصادية كلية تجمع هذه القطاعات ضمن خيمة من السياسات الاقتصادية الكلية، أما الأمر الآخر فهو تدني مستوى الأداء في الإدارة الاقتصادية، وهذه الأسباب تأتي نتيجة انسحاب الدولة من الشأن الاقتصادي، لافتراض أن القطاع الخاص هو القادر على إدارة الاقتصاد الوطني، وهذا ما أشار إليه النائب الاقتصادي بقوله إن رجال الأعمال السوريين أقدر على تمثيل الاقتصاد الوطني في الخارج، فما حاجتنا عندها للحكومة وللإدارة الاقتصادية؟!
ما أفضل الطرق لقياس نمو الناتج المحلي الإجمالي؟!
هناك تعتيم على أسلوب استخراج معدل النمو لدينا، فمن دون رقم صحيح لا يمكن أن تكون هناك سياسة صحيحة، ولكن ليكون هناك رقم صحيح يجب أن تكون هناك إدارة صحيحة ونظيفة للاقتصاد الوطني.
ما أسباب عدم انعكاس معدل النمو على التنمية في سورية؟!
إن السياسات المالية والاقتصادية المتبعة في السنوات الأخيرة كانت محابية لفئة معينة، وغير محابية للفقراء، والفجوة تتسع ما بين الفئة القليلة التي تملك والواسعة التي لا تملك، وهذا دليل على عدم عدالة توزيع الدخل. هذه السياسات التي تراهن على قدرة القطاع الخاص بأن يحل مكان الدولة، وهذه المراهنة أثبتت فشلها في الماضي، وستثبت فشلها في المستقبل، والحقيقة أنه لا يمكن المراهنة على القطاع الخاص في أن يحل مكان الدولة في قيادة الاقتصاد الوطني.