القطاع العام.. استحالة الحلول الواقعية أم تبرير لفرض وصفات مصلحية؟
مرت سنوات عديدة، وما زال موضوع الواقع المأساوي للقطاع العام في حالة سبات، من حيث عدم الوصول إلى حلول جذرية قادرة على إعادة الحياة والتألق لتشكيلة اقتصادية أرست أسس التطور والتنمية والاستقرار والممانعة والتقدم والعدالة الاجتماعية لسورية في مرحلة حرجة، وفي أوقات عصيبة مرت على بلدنا وعلى المنطقة والعالم، فكان خير سند لتجسيد المواقف والأفكار، وبالتالي فإن قضية الواقع الحالي والآفاق المستقبلية للقطاع العام ليست قضية عابرة أو آنية عاطفية، بمعنى أن يقوم الشخص أو المؤسسة أو الأكاديمي أو الباحث بكتابة مقالة أو رفع توصية كنوع من رفع العتب، وإنما هي قضية إشكالية يترتب عليها انعكاسات خطيرة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، وهذا طبيعي لقطاع كان السبب الرئيسي للنهضة الشاملة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسبباً رئيسياً لصمود سورية أمام الكثير من الهجمات والحصارات، وهو الأداة التي أوصلت إلى الانصهار الاجتماعي والوصول إلى نسيج اجتماعي رائع بعيد عن أغلب الأمراض.
فلا يمكننا ذكر وحصر ما قدمه هذا القطاع، لأن كل الأسس التنموية والتي نراها تتقلص أمامنا اليوم، هي نتيجة طبيعية لقوته وصلابته، فهو من ساهم ويساهم في توظيف الملايين عبر السنين، وبالتالي كان الأداة الرئيسية للتوزيع العادل للدخل. وهو الذي أوصلنا إلى شبه الاكتفاء الذاتي في مجال الصناعات غير الثقيلة، وفي مجال إحلال البضائع الوطنية مكان الاستيراد.. وبالتالي حافظ على رصيدنا من العملات الصعبة، وهو الذي انتشر في جميع المدن بين الريف والمدينة، وبالتالي كان النواة للتنمية المتوازنة.. وهو الذي سمح للملايين بمتابعة تعليمهم حتى غدا هناك فائض من الكفاءات السورية التي يشهد لها بالكفاءة والخبرة. وكان السبب الرئيسي لملء فراغ ثقافي وفكري وأداة رئيسية لمقاومة المخططات الامبريالية والصهيونية ولتمويل الموازنة بفوائض كبيرة، طبعاً عبر الزمن. وبالتالي فلهذا القطاع ماض عريق، ولكن ما وصل إليه هذا القطاع في السنوات الأخيرة يدعو إلى التساؤل والاستغراب من نواح عديدة..
فمن ناحية التنويم أو التطنيش عن إيجاد الحلول لهذا القطاع على الرغم من وجود كوادر قادرة على دراسة عميقة تاريخية واقعية كافية لإيجاد الأسباب الحقيقة الكامنة وراء وصول القطاع العام إلى الوضع المأساوي، والذي أدى إلى تجرؤ أصوات وأقلام سواء من حيث التبعية أو اليأس، للمناداة بالخصخصة كحل لهذا القطاع.. فهناك أقلام مرتبطة بخط اقتصادي وفكري ومصلحي يقوم على تطبيق الأفكار الليبرالية مهما كانت النتائج الناجمة عن هذه السياسات، نزولاً عند مصالح أشخاص أو إملاءات خارجية..
وهناك أقلام وصلت إلى مرحلة اليأس كما خطط وعمل المعرقلون لأية خطة للإصلاح، بحيث يفرضون الأمر الواقع الذي يقتضي الخصخصة دون أية معارضة أو مواجهة، وهو ما دفع البعض إلى التصريح العلني بنظريات تتقاطع مع فرض الأمر الواقع الليبرالي.. وهنا يمكننا طرح السؤال التالي:
لمصلحة من ما يجري في القطاع العام وما يعامل به هذا القطاع؟ هل هو لمصلحة سورية الصلبة الممانعة المنصهرة اجتماعياً، اللاعب الأساسي في المنطقة وعلى مستوى العالم سياسياً؟ وهل هو لمصلحة المؤسسات الوطنية التي عن طريق هذا القطاع وبعقلانية واعية متطورة، استطاعت وتستطيع فرض رؤيتها على جميع المستويات، وعلى الصعد كافة؟ هل ما يحصل لمصلحة الموازنة العامة للبلد التي كان يرفدها وما يزال بمئات المليارات من الليرات السورية؟ هل هو لمصلحة التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر ملايين فرص العمل التي كان يوفرها وسيوفرها في حال إيجاد الحلول المناسبة؟ وهل هو لمصلحة الشرائح الوسطى التي رسخها في هذا الوطن؟ هل هو لمصلحة الفقراء والفلاحين والكادحين الذين لولا هذا القطاع لما استطاعوا التعلم، ولما كانوا أداة فاعلة في هذا الوطن، ولما تحسنت معايير التنمية البشرية؟ هل هو لمصلحة القطاع الخاص الذي استفاد من ملايين فرص العمل المرتبطة والمتعلقة بوجود وقوة القطاع العام؟ هل هو لمصلحة رؤوس الأموال التي في يوم ما سوف تتأثر بالانعكاسات السلبية الاجتماعية الناجمة عن القضاء على القطاع العام؟.
وكذلك يمكننا التساؤل حول الآتي:
هل عجزت الكفاءات السورية عن تشخيص مشكلات القطاع العام من إدارات غير كفؤة، جزء منها يعتمد على المحسوبية والولاءات الشخصية خارج إطار السيطرة المؤسساتية وعبر أجهزة رقابية تابعة لهذه الإدارات، وعبر قوانين معرقلة لعملية التطوير والتحديث في هذه الإدارات عبر فساد وهدر منظم ومبرمج، وعبر قوانين لا تراعي الواقع الحالي لهذا القطاع، ولا تراعي التطورات الحاصلة في المحيط عبر آلات ومعدات أكل عليها الزمن، وعبر سلوك لإسقاط هذا القطاع؟
لقد بدأت المشكلة في إطار القطاع العام الصناعي، ثم انتقلت وكبرت لتشمل الخدمات، ليتضح أن المشكلة ليست بنيوية، وإنما هي إقصائية! بمعنى لا تهم الأسباب، ولكن المهم هو الإقصاء لجزء منه وتقليل فاعلية ودور جزء آخر..
لقد كنا مع مبدأ التنافسية ضمن شروط، ولكن الذي حدث هو إقصاء القطاع العام من أجل تفعيل دور القطاع الخاص، وأصبح يعامل القطاع العام كابن الجارية والقطاع الخاص كابن الست..
كنا مع التشاركية من أجل الوصول إلى صيغة وطنية تساهم في الاستفادة القصوى من الإمكانات المتاحة في البلد وفق شروط عادلة ووفق استراتيجية قادرة على التصدي للبنية التحتية وللتنمية بشكل عام، ولكن تم استغلال التشاركية من أجل الاستفادة من قطاعات ذات ربحية عالية وذات أداء جيد.. ولهذا نقول إن هذا القطاع صبر وصبر أكبر من صبر النبي أيوب، وهذا دليل على قوته وصلابته، وما يزال يصبر في ضوء غياب الرؤى الإصلاحية المواتية. وقد بدأنا بالقطاع الصناعي، وكر الحبل باتجاه قطاعات الخدمات، وهنا نقول: نحن لسنا ضد القطاع الخاص، لأن سورية لا يمكن أن تقوم إلا بنمو القطاعين وقوة القطاعين وفق شروط تنافسية وليس وفق التمويت والقضاء على العام من أجل إقحام القطاع الخاص. فالقطاع العام هو أداة قوة للسلطة السياسية تستطيع من خلاله قيادة التنمية بجميع أشكالها ضمن الضرورة الحتمية لموقع ومواقف سورية السياسية التي تفرض وصاية سياسية على كيفية التطورات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية كموجه ومشرف في العموم ومتدخل عندما يكون ما ينعكس على الاستقرار الوطني.
وبالتالي نقول: من يفرط بالقطاع العام يفرط بكثير من مفاتيح القوة القادرة على ضبط التحولات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية وتوجيهها الاتجاه الصحيح في ظل تطور الأداء والوعي المؤسساتي، وفي ظل التحولات الفكرية والهيكلية. وبالتالي الاستمرار بقطاع عام قوي ومتجدد ومتطور كفيل بحماية مصالح سورية والسوريين بكل أشكالهم، وضمان الحاضر والمستقبل. وبالتالي أول ما يجب العمل عليه هو وجود النية الحقيقية لإصلاح هذا القطاع ومن ثم العمل الحقيقي والدؤوب من خلال الوصول إلى جذر المشكلة ووضع الحلول الواقعية القادرة على إعادة الحياة لهذا القطاع، والعمل على تنفيذها..
وأخيراً نقول ارحموا عزيز قوم قد ذل.. وبذله سوف يذل الملايين؟.