تغيرات التجارة الخارجية :نمو الاحتكارات وتآكل القطاع العام
تغير اتجاه الميزان التجاري السوري من الفائض إلى العجز منذ عام 2003، فازدادت وارداتنا بنسب كبيرة مقارنة بالصادرات وأصبح لقطاع التجارة الخارجية سمتان ثابتتان منذ عام 2003 أولهما زيادة حصة الواردات مقابل الصادرات، وثانيهما زيادة حصة القطاع الخاص، مقابل القطاع العام..
ومع هاتين السمتين الواضحتين كمياً تظهر تغيرات ناتجة بشكل مباشر عن هذا الانحراف نحو القطاع الخاص والواردات، والتي تنعكس في نوع الواردات وتوزعها ووظيفتها..
يستورد القطاع الخاص حوالي ثلاثة أرباع الواردات السورية، وكذلك نسبة متقاربة من الواردات المتعلقة بالصناعة التحويلية، والتي تتوزع في سلع متنوعة منها السلع الاستهلاكية الجاهزة، والمواد الخام، والوسيطة والأصول الثابتة الرأسمالية، أي يعتبر القطاع الخاص المزود الأساسي لقطاع الصناعة التحويلية بموادها المستوردة.
يتضح أن الأصول الثابتة الرأسمالية والتجهيزات الكبرى تستورد لمصلحة القطاع الخاص وعن طريقه، ويبقى للقطاع العام نسبة 11% بعد أن كانت في عام 2004 حوالي 22%، أي أن المستورد الأساسي للتقنيات والتجهيزات الجديدة هو القطاع الخاص.
المواد الاستهلاكية هي احتكار على القطاع الخاص، حيث تبلغ حصته منها 94%.
ترتبط واردات القطاع الخاص ارتباطاً كبيراً بالصناعة، فنسبة 50 % من وارداتها نصف مصنعة، بينما الخام تشكل نسبتها 12% فقط من مجمل واردات القطاع الخاص.
تدل كل هذه الأرقام على أن زيادة الواردات لدى القطاع الخاص، قائمة على أساس تعميق الارتباط مع الصناعة، وخلال الأعوام العشرة الماضية بدأت واردات القطاع الخاص المرتبطة بالصناعة تزيح حصة القطاع العام من هذا المجال تحديداً، حيث تراجعت مستوردات القطاع العام الوسيطة من 44 % في عام 2004 إلى 33% في عام 2010. وتراجع استيراده للأصول الثابتة الراسمالية كما ذكر سابقاً.
إلا أن الأعوام العشرة الماضية التي ازداد فيها ارتباط التجارة الخارجية بالصناعة لم تشهد نمواً في قطاع الصناعة وإنما يشهد القطاع تراجعاً في مساهمته بالناتج، وتغيرات طفيفة في الإنتاجية، وهو ما يطرح تساؤلاً:
ما السبب الذي يمنع قطاع الصناعة من التطور بمستوى تطور الوارادات التي ترتبط بشكل كبير به؟
تجارة المفرق حاجز بين الواردات والصناعة
بين عامي 2004 – 2010 ازدادت حصة تجارة الجملة والمفرق من 12 % إلى 16%
مقابل تراجع في الصناعة من 37% إلى 34%، وفي الزراعة من 20% - 14%.
تعطي هذه الأرقام إشارات إلى أن الاقتصاد يعاني من نسب نمو منخفضة في الصناعة والزراعة لا بد أن توسع حصة تجارة الجملة والمفرق بنسب كبيرة مرتبطة بالقطاع المزدهر الآخر وهو الواردات، حيث تشكل الواردات الاستهلاكية تحديداً الجزء الأساسي من تجارة الجملة والمفرق، بعد أن حررت من جزء كبير من التعرفة الجمركية والقيود، وتحولت إلى منافس للقطاع الصناعي الذي يعاني من ارتفاع تكاليفه، وهو ما يشكل الجانب الآخر من ازدهار قطاع التجارة الداخلية وارتباطه بالمستوردات، حيث ترتفع أسعار المستوردات الصناعية لتشكل ربحاً لتجار الاستيراد وتراجعاً في إنتاجية الصناعة.
تجارة الجملة والمفرق تنافس الصناعة عن طريق بيع الواردات الاستهلاكية بكميات كبيرة وأسعار منخفضة، وتزيد من تكاليف الصناعة ببيعها الواردات المتعلقة بالصناعة بأسعار مرتفعة.
وهي المعادلة التي تفسر زيادة تجارة الجملة والمفرق مع زيادة حجم الواردات، مقابل انخفاض حصة الصناعة على الرغم من تركز الواردات بالمواد الصناعية والمتعلقة بها.
استثناءات
تنطبق هذه المعادلة المذكورة على المشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة، ولا تنطبق أبداً على مشاريع حيتان الاستيراد والصناعة والسلطة، بل هي مفصلة على مقاسهم..
موضعياً نتجت في سورية ظاهرة رجال الأعمال المركبين والمشتركين بثلاثة نشاطات رئيسية، تجار واردات، صناعيين، ومسؤولين حكوميين في أغلبهم، وهي صفة مشتركة لدى العديد من رؤساء غرف الصناعة في المحافظات على سبيل المثال، وهي نتيجة طبيعية لتجمع أموال الفساد خلال العقود الماضية، وحاجتها إلى منفذ يناسب وزنها ومستوى أرباحها المطلوبة، وكانت الصناعة الاحتكارية التي سرعت عملية الارتباط بالمنظمات الدولية لتلاقي مصلحتها مع عملية تحرير التجارة الخارجية من القيود والتعرفة، نظراً لانخفاض الإنتاجية والذي يتطلب احتكاراً واسعاً وتخفيضاً كبيراً في أسعار المدخلات لتحقيق الربحية، ولهذه الاحتكارات حصة كبيرة من الواردات الصناعية والاستهلاكية، وقد تتم العملية بطريقة عكسية أي من احتكار التجارة الخارجية في قطاع ما، إلى الصناعة، ولكن كلا الطريقين يبدأ من النفوذ والعلاقة مع منابع الفساد الكبرى القائمة على نهب الدولة..
تتيح هذه العملية ربط مصالح فئات واسعة من كبار التجار، الصناعيين، وكبار المتنفذين والمسؤولين، وينتج عنها تآكل المشاريع الصغيرة الصناعية، عجز متزايد في الميزان التجاري، وفوضى في السوق الداخلية نتيجة توسع الواردات الاستهلاكية واحتكارها. أما النتيجة الأخطر فهي تآكل القطاع العام الصناعي وتراجعه بشكل دائم.
إزالة المنافس الأقوى
احتاجت هذه الاحتكارات الصناعية إلى إزالة المنافس الأقوى في السوق السورية وهو القطاع العام الإنتاجي الذي يمتلك جسداً ضخماً وعدداً كبيراً من العمال، وتجربة طويلة ومصداقية، وتلقائياً فإن تشكل نواة هذه الاحتكارات كان قد تم بناء على تراجع قدرة جهاز الدولة على ضبط مستوى أداء مؤسساته ومراقبة مدى قيامها بدورها الاقتصادي والاجتماعي ،وقد نجحت هذه الاحتكارات في تنظيم عملية سحب المقدرات من هذا القطاع، بتنظيم عملية الفساد الإداري والهدر، ولا بد أن الكثير من ملفات الرقابة والتفتيش تشير إلى علاقات ما بين كبار المحتكرين وبين الإدارات الفاسدة وعمليات النهب الكبرى، ولكن تبقى السلطة المحكمة ما بين النفوذ المالي والسياسي تمنع فتح هذه الملفات حتى الآن..