أزمة الرغيف ..أزمات مركبة وحلول بمستويات مختلفة

«هل ستطال الاختناقات رغيف الخبز...؟» وضعنا هذا العنوان في شهر تموز 2012 كإشارة تحذيرية دفعتنا إليها مؤشرات أولى وتصريحات متتالية تخص قطاع المطاحن والمخابز.. من إعلان تراجع إنتاج القمح إلى 40 % في حينها، إلى إعلان تزايد استجرار الطحين المدعوم إلى السوق السوداء، نقص المازوت، صعوبات النقل، توقف بعض الصناعات... وقلنا بأن استمرار هذا المنوال لن يرحم رغيف الخبز.. مهما صرح البعض بأنه « خط أحمر « .

 

وكما في كل الاختناقات فإن أزمة الخبز تعود بداية لثغرات الإنتاج في جهاز الدولة، والتي تكملها ثغرات التوزيع لتشكل فرصة ذهبية لتجار الأزمات ولتؤدي لوضع لا يستطيع معه هذا الجهاز المترهل الموبوء بالفساد أن يشكل وحيداً الحل..

وخصوصاً إذا ما كان بعض القائمين عليه يدعون إلى « لغة المحبة والحوار والتفاهم « كطريقة لدعوة تجار الأزمات إلى التعقل والرأفة بالعباد..

وصلنا اليوم إلى المساس بهذا الخط الأحمر وهي لحظة من عمر الأزمة الاقتصادية، والأزمة الوطنية السورية تتطلب الوقوف بهدوء ومسؤولية لإجمال الأسباب التي تحدد الحلول وإمكاناتها ومستوياتها المختلفة.

 

أزمة الخبز

لا بد أن ظروف الأزمة هي التي تؤدي للوصول إلى الوضع الحالي حيث لا يتوفر الطحين والمازوت بالكميات الكافية التي تمنع موضوعياً الوصول إلى حالة الاحتكار الحالية، ولاتتوفر استمرارية النقل، ولكن هذه الظروف لم توصل بمفردها سعر الربطة إلى 250 ل.س إن وجدت، بل شكلت الفرصة الملائمة لارتفاع كبير في ريعية تجار أزمة الخبز وهم حلقات محددة ضمن سلسة إنتاجه، حيث تترابط الاختناقات الاقتصادية المتعددة لتوسع احتمالات الربح غير المشروع لهؤلاء ولغيرهم..

فأزمة الخبز ترتبط أولاً بثغرة إنتاج الطحين وتوزيعه المرتبطة بدورها بثغرة الأعلاف، المازوت ، و آلية الدعم.

في عام 2012 وفي الشهر السابع تحديداً صرح المدير العام للشركة العامة للمطاحن، بأنه حتى شهر آيار تم « استجرار» 142 ألف طن طحين، ووصل الرقم إلى 255 ألف طن حتى نهاية الشهر التاسع. واستجرار يعني طلب يتجاوز معدل الاستهلاك المنطقي والموضوع في الخطة السنوية للاستهلاك. وهذه الكمية المستجرة خلال خمسة أشهر قياسية وكبيرة إذا ما قورنت برقم الاستجرار إلى السوق السوداء للطحين في عام 2011 والذي بلغ خلال العام بأكمله 160 ألف طن.

وهذا التذكير لنقول بأن عملية سرقة الطحين المدعوم لها سوق قديمة تستفيد من الأزمات المتعددة.حيث أن الطحين الذي توزعه الدولة للأفران العامة والخاصة يوزع بسعر مدعوم 8000 ل.س للطن، بينما سعر كلفة إنتاج الطن 33515 ل.س للطن. وسعر الطحين المنتج في المطاحن الخاصة يفوق سعر التكلفة الذي سنعتبره الحد الأدنى لتقدير سعر الطن في السوق. ويساعدنا في تدقيق هذا الرقم أن سعر طن الدقيق المعبأ في السوق يتراوح بين 38 ألف ل.س - 40 ألف ل.س.

 

ثغرة إنتاج الطحين وتوزيعه

تقول الأرقام إن سورية تستهلك سنوياً بمعدل 2 مليون و 900 ألف طن طحين، كانت تنتج محلياً بأكملها حتى الأزمة الحالية التي تم فيها للمرة الأولى استيراد الطحين إلى سورية في عام 2012.

تنتج الشركة العامة للمطاحن حوالي مليون و 900 ألف طن سنوياً أي حوالي 65 % من الحاجة الإجمالية. وذلك عن طريق 34 مطحنة منها 33 مطحنة قديمة، بتكلفة للطن تبلغ 33515 ل.س للطن. بينما ينتج حوالي 35 % من حاجة سورية للطحين عن طريق عقود مع المطاحن الخاصة، والتي تحصل على أجور نقدية مقابل قيامها بعملية الطحن لمصلحة الشركة العامة.

وهذه الأجور النقدية تقدر بـ 800 ل.س للطن في عام 2011 لا بد أنها ارتفعت كثيراً خلال العام الحالي، ولكن بحسابات 2011 فإنها تبلغ مقدار 800 مليون سنوياً.

اليوم تراجع إنتاج الطحين محلياً خلال الأشهر القليلة الماضية بمعدل 40 % إي ما يتجاوز مساهمة القطاع الخاص، فمع تصاعد الأزمة وتوقف العديد من المطاحن الخاصة العاملة في حلب وحمص، ووصول العجز إلى 1000 طن في اليوم يعود الحديث عن المطاحن الأربع التي أتمت الدولة إنجازها وتشييدها منذ عام 2007 (سنجار، الباب، دير حافر، تلكلخ)، والتي بقيت تنتظرفقط تركيب الآلات للبدء بالعمل، وتنتظر قرارات الحكومات السابقة حول أي شركات سترسو عليها مناقصات العمولات، مع العلم أن تكلفة الآلات التي تكلفتها الدولة تساوي 20% فقط من تكلفة تجهيز المباني، وتقديرات إتمام المطاحن وتجهيزها الإجمالي حوالي 13 مليون يورو أي بحدود 1,100 مليار ل.س.

وبناء على حديث نائب مدير الشركة العامة للمطاحن، في تموز -2012 فإن مطحنتين إحداهما في جبلة، والأخرى في الكسوة قيد الاستثمار وستدخلان التشغيل مع بداية عام 2013 وهو ما لاتظهر ملامحه حتى الآن..

إذن توافرت إمكانيات جدية لزيادة مستوى أمان إنتاج الطحين في سورية، ولكن ضاعت الفرصة بهذه الثغرة الإنتاجية.

 

توزيع الطحين

كل الطحين المخصص لإنتاج الخبز يوزع عن طريق الدولة إلى المخابز العامة والمخابز الآلية والاحتياطية الخاصة.

يشكل فرق السعر مصدر الريع الأول ، حيث يوزع الطحين بسعر مدعوم 8000 ل.س للطن، ما يفتح الباب لمصدر الريع الأول وهو الفرق بين سعر الطن المدعوم، وسعر طن الطحين في السوق والذي قدرناه بـ 33،5 ألف ل.س. أي أن كل طن يباع في السوق يحقق ريع مقداره: 25 ألف ل.س.

ولتقدير حجم إجمالي لهذا الريع سنستخدم رقم الاستجرار الزائد عن حاجة الاستهلاك:

في عام 2011: 160 ألف طن × 25 ألف ل.س = 4 مليار ل.س

في عام 2012 حتى الشهر التاسع 255 ألف طن × 25 ألف ل.س = 6,375 مليار ل.س

 

ثغرة الأعلاف

يرتبط أيضاً استجرار الطحين إلى السوق السوداء بمشكلة نقص الأعلاف، فالأعلاف التي تتجه أسعارها للارتفاع منذ سنوات عديدة، أصبحت سوقاً تستقبل الخبز المدعوم  بمبالغ تزيد عن سعر الربطة الواحدة التي تباع في المخابز الخاصة بسعر 20 ل.س قبل الأزمة، حيث كان سعر كغ الخبز اليابس قبل ارتفاع الأسعار الحالي حوالي 15 ل.س، أي أن سعر الربطة كعلف أعلى من سعرها « كخبز» ليستفيد أصحاب المخابز من هذه الفروقات ليقوموا بإنتاج الخبز وبيع جزء منه لسوق الأعلاف محققين ريعاً ثانياً من فرق السعر.

وحصة سوق الأعلاف من الخبز المدعوم كانت تتزايد مع تزايد أزمة الأعلاف ونقصها، والتي تعود لتراجع كميات إنتاج المحاصيل العلفية، وتحوّلنا من دولة تصدر الشعير، إلى دولة تستورد الشعير في التسعينيات، وهي العملية التي ترافقت مع تخلي المؤسسة العامة للأعلاف عن ضمان شراء محصول الشعير، حتى وصلنا إلى تضاؤل حصة المؤسسة من سوق الأعلاف لتغطي 20 % فقط من حاجات الأعلاف الكلية التي بلغت سابقاً 10 - 12 مليون طن، تراجعت بنسبة كبيرة في هذا العام مع ما يحمله من مؤشرات خطيرة عن انسحاب كبير لمربي الماشية وتراجع الثروة الحيوانية.

 

ثغرة المازوت

يرتبط المازوت بقطاع المخابز بشكل كبير وفي الأزمة الحالية التي لا يتوفر فيها المازوت سوى بنسبة 20 % من حاجة الاستهلاك الإجمالية يتم التركيز على المازوت لقطاع الأفران وتأمين مخصصاتها على حساب مخصصات التدفئة، إلا أن هذا لا ينعكس على وضع هذه الأفران التي يتوقف أغلبها في هذه الفترة ويقوم بعضها الآخر بتقليل ساعات عمله، بحجة عدم توفر المازوت. فمع ارتفاع أسعار المازوت في السوق وبشكل واضح في محطات الوقود الخاصة إلى متوسط السعر العالمي تجد أغلب هذه الأفران فرصة كبيرة في تحقيق ريع ثان ناتج عن فرق سعر ليتر المازوت المدعوم المخصص للأفران.

فتقدم الدولة المازوت للمخابز العامة والخاصة بسعر 7,5 ل.س لليتر، بينما سعره السوقي الآن 60 - 70 ل.س لليتر.

أي أن كل ليتر مازوت تبيعه المخابز للسوق تحقق فيه ريعاً ناتجاً عن فرق السعر مقداره: 52,5  - 62,5 ل.س لليتر.

لذلك فإن أزمة نقص المازوت الناتجة عن جملة من الأسباب الأساسية المتعلقة بتأمين المادة وإنتاجها المتعلقة بعدم توسيع الإنتاج المحلي وتعطيل إنشاء مصفاة النفط أقرت وأمنت مصادرها المالية  منذ عام 2006. ويعود إلى علاقات الاستيراد المشوهة التي ربطت الحاجة الضرورية لهذه المادة من مواد الطاقة بعلاقات سماسرة الفساد في هذا القطاع مع شركات غربية حصراً، حيث كان يؤمن المازوت عن طريق الشراء من السفن في عرض البحر، عوضاً عن علاقات وعقود ثابتة مع دول الشرق التي اتضح أنها أكثر ثباتاً واستقراراً. وهذا يعود نتيجة سهولة العمولات في الحالة الأولى ( العلاقة مع الشركات)، وصعوبتها في الحالة الثانية بعقود نظامية مع دول صديقة. بالإضافة إلى الأسباب المتعلقة بتوزيع المادة وحصة الفساد الكبير منها المحولة للتهريب.

 

ثغرة آلية الدعم:

كما حقق الدعم في سورية دعامة تاريخية لاقتصادها ولمواطنيها، حقق ضعف جهاز الدولة، إنتاجياً ورقابياً تحول هذا الدعم إلى دعامة لقوى الفساد والريع. ففروقات السعر المدعوم عن سعر السوق أدت إلى انزياح هذا الدعم نحو قوى السوق مع تزايد قوتها. ولذلك فإن طروحات تغيير آلية الدعم وتحويله إلى دعم نقدي مباشر يصل للمواطنين هي في غاية الأهمية من حيث إزالة الدافع الموضوعي، فيتيح الدعم النقدي المباشر للمخابز وصول الطحين والمازوت إليها بسعر السوق وانتفاء الفائدة من بيعه. مشروع الحكومة الالكترونية، بما فيها من شبكة بيانات لكل المواطنين، هي خطوة أساسية لتطبيق مشروع البطاقة الذكية التي تسمح بضمان تحويل الدعم نقداً للمواطنين. وإعاقة هذا المشروع في هذه الأزمة هي إعلان واضح من قوى الفساد بأنها تحمي حصة نهبها من 512 مليار ل.س قيمة الدعم الحكومي في 2013.

 

الحلول بمستوياتها المختلفة

الأزمة المرتبطة بأزمات متعددة تشترك معها بأنها كلها ناتجة بشكل أساسي عن حقبة كاملة من سياسات هدم الدور الإنتاجي الفعال للدولة، والدور التوزيعي، وإطلاق اليد للقطاع الخاص في مجالات يفترض أن تحميها الدولة وتديرها بمسؤولية عالية.

 

حلول الأجل المتوسط والطويل

لا يمكن أن يأخذ أي مستوى من الحلول استمراريته إلا بردم الصدع الأساسي المتعلق بثغرة الإنتاج وهو ما يتطلب تشغيل المطاحن الموجودة في المناطق الأكثر أمناً بطاقاتها العليا، تشغيل الأفران العامة بطاقتها القصوى.

تغيير آلية الدعم، وتطبيق مشروع الحكومة الالكترونية، نقطة أساسية في سد ثغرات التوزيع وإلغاء أسبابها الموضوعية.

والسير بهذه الحلول هو مسؤولية الحلقة الأولى في سلسة الإنتاج أي الدولة والحكومة بشكل أساسي.

 

الحلول العاجلة النوعية

فيما يتعلق بالحلقة الثانية أي المخابز، والخاصة منها تحديداً  فإن هذه الحلقات تعتبر نقطة الضعف الأساسية والتي تعتبر مصالحها وفرص الريعية المتاحة لها عوامل تؤدي بالمجمل إلى مستوى كبير من الخرق، لذلك لا يمكن أن تكون جزءاً من الحل بمجملها لأنها في جوهر المشكلة، ولذلك فإنه في الظرف الحالي الذي لن يسمح بتفعيل المستوى الأول من الحلول إلا في الأمد المتوسط والطويل، فإن حلول إجرائية ضرورية يفترض أن تشكل المستوى الثاني من الحلول، وعنوانها الرئيسي الرقابة.

زيادة فعالية دور الدولة الرقابي، يتطلب مستوى من العقوبات يصل في هذه الأوقات إلى حد التجريم الاقتصادي، ومصادرة الأفران التي تسرب إلى السوق وإدارتها حكومياً، بالإضافة إلى رفع الغرامات المالية لرفع نسبة المخاطرة وتقليل الريعية المتوقعة.

تتطلب هذه العملية تكثيف العمل الميداني كماً ونوعاً، وإيجاد صيغ رسمية شعبية له. فزيادته كماً أي بزيادة عدد المراقبين  التابعين لوزارة التجارة الداخلية وإشراكهم مع جهات أخرى. وتغييره نوعياً عن طريق ربط عمل المراقبين بلجان أحياء شعبية وذلك لزيادة إمكانية المراقبة ولتضييق حالات الفساد الصغرى المتمثلة بعمولات المراقبين وتجاهل المخالفات.

إلزام المحافظات والبلديات بنشر دوري لبيانات عن مخصصات المازوت والدقيق الواصلة إلى كل مخبز خاص، تستلمها لجان الأحياء.

بناء على المخصصات الاتفاق مع أصحاب المخابز على ساعات الدوام، وعلى كميات الإنتاج المقدرة، وإشهارها بحيث تلغي حجج أصحاب المخابز مثل « نفاذ الوقود، نفاذ الدقيق.. إلخ»

 

آخر تعديل على الجمعة, 27 أيار 2016 00:06