الأزمة وقطاع التجارة الخارجية
منذ عام 2005 والتجارة الخارجية في سورية شهدت تغيرات وانعطافات كبرى، وأعلنت استراتيجية التحرير التامة وكل ما يلزم لدخول منظمة التجارة العالمية كهدف. وتغيرت التجارة السورية وهيكلها تغيرات مهمة، وأصبحت سماتها ميلها باتجاه الواردات على حساب الصادرات، ميلها باتجاه القطاع الخاص على حساب القطاع العام. بالإضافة إلى حصة أكبر للمواد الوسيطة ونصف المصنعة، ولكن بتسارع نمو أكبر للمواد الاستهلاكية، والغذائية منها تحديداً.
سمات قطاع التجارة الخارجية ودورها في تصعيد أثر العقوبات:
أما الأزمة فرمت ثقلها أولاً على هذا القطاع، عن طريق العقوبات، باعتباره بوابة الارتباط مع الاقتصاد العالمي، وتوسع تأثيرها نظراً لنقاط ضعف هذا القطاع العديدة التي تتسم بعدم الضبط والانفتاح التحرري وإزالة كافة القيود الكمية المالية . والحصة الكبرى لتجار القطاع الخاص في استيراد مواد رئيسية، بالإضافة لتركز الشركاء التجاريين وانحصارهم بجهات محددة، واعتماده على العقود التجارية غير الثابتة، حيث كان يعتمد في استيراد جزء مهم من مواد أساسية سواء لقطاع الدولة، أو القطاع الخاص مثل الوقود والسكر على مناقصات سنوية لشركات بينما تغيب العقود الثابتة بعلاقات مع الدول التي تحقق ضمانة وشروطاً واضحة واستقراراً في الحاجات والواردات.
ضاءلت الأزمة من إمكانيات التجارة الخارجية وبناء على تقرير لهيئة التنمية والترويج للصادرات صادر في آذار 2012 والذي يذكر أنه حتى ذلك التاريخ كانت خسائر التجارة الخارجية 44 %. مفيداً بأن العقوبات الاوروبية قلصت صادرات التجارة الخارجية الممكنة لتصل حدود 67 %، بينما العقوبات التركية قلصتها لحدود 60 %، بينما العقوبات العربية 46 %، ولكن توسع العلاقات التجارية مع العراق والأردن وايران أعاد رفعها الى %56.
تراجع الطلب الكلي والعرض الكلي
الأزمة التي بدأت بالتجارة الخارجية وصلت للتأثير على نقاط جوهرية يساعدها ضعف النمو سابقاً وضعف إنتاجية الزراعة والصناعة بشكل أساسي، وكل الجوانب الاقتصادية الكلية التي انصبت العقوبات بداية باتجاهها كان هدفها الوصول إلى تعميق هذا الاتجاه للوصول إلى التوقف الاقتصادي. فالتضخم وانخفاض قيمة الليرة السورية يزيد الكلف الإنتاجية ويضعف القدرة الشرائية ليؤثر على الطلب والعرض الكليين. وتراجع الإيرادات العامة الناجم عن توقف الايرادات النفطية وتراجع الضرائب والرسوم وعوائد القطاع العام الصناعي يدفع باتجاه تخفيض الإنفاق الاستثماري والإنفاق الاستهلاكي. أزمة النقل وما تؤديه إلى تأثيرات تبدأ من زيادة الكلف إلى توقف المدخلات إلى صعوبات التسويق وتنتهي بتوقف كبير في الإنتاج الصناعي والزراعي. التوقف والبطالة وتأثيرها أيضاً على العرض الكلي والطلب الكلي.
الواقع والضرورة يقولان: قطاع
التجارة الخارجية النوعي هو الحل
تؤدي الأزمة الاقتصادية والعقوبات في مقدمتها والأوضاع الأمنية ودورها في عدم القدرة على الخروج من حالة التوقف الاقتصادي، إلى تأثيرات على الاقتصاد الكلي في سورية تتراكب لتدفع باتجاه حلول نوعية لايمكن القطاع التجارة الخارجية إلا بالسير باتجاهها. هنا يبدو دور الدولة حاسماً باتجاه إعادة تحريك العجلة واستمرار توليد النمو الزراعي الصناعي. ولكنه في لحظات أزمة اقتصادية مستعصية تصل حتى توقف إنتاج الطاقة، وتراجع إنتاج مواد أساسية كالطحين مثلاً فإن الخارج يصبح مفصلاً أساسياً، وقد يتحول إلى عامل النجاة.
عناوين لتجارة خارجية نوعية
تنطلق عناوين التجارة الخارجية النوعية من واقع ما تستطيعه سورية وما تقتضيه الضرورة.
أي أسواق جديدة وشركاء جدد من جهة، وطرق دفع وتمويل نوعية من جهة أخرى.
فالعلاقات مع الأسواق التقليدية مثل الاتحاد الاوروبي والعلاقة مع الدول العربية بإطار اتفاقية التجارة الحرة العربية،توقفت بشكل شبه نهائي، ليبقى منها علاقات مع الأردن والعراق بشكل أساسي. مما حتم التوجه نحو الأسواق المفتوحة والمتاحة، والتي تتمثل بدول رئيسية هي مفاتيح لتكتلات اقتصادية بأكملها مثل روسيا، الصين، جنوب افريقيا وما يفتح على دول البريكس. فنزويلا ، البرازيل، ومنها للميركسور والألبا التكتلات الاقتصادية في أميركا اللاتينية. وصولاً إلى علاقات مع دول بمفردها مثل إيران التي وقعت معها اتفاقية منطقة تجارة حرة خلال الأزمة ليصل ارتفاع العلاقات التجارية معها إلى 100 %.
من جهة أخرى الصعوبات المالية، أي حظر تعامل الدولة السورية مع الكثير من المصارف العالمية، وصعوبة تحويل الأموال بالعملات الرئيسية الدولار واليورو، تجعل ضرورة توسيع طيف القطع الأجنبي وأرصدة العملات الأخرى، جزءاً أساسياً من الاستراتيجية المالية والنقدية لدعم التجارة الخارجية. وتثبيت هذه الخطوة من الدولة، سيساعد التجارة السورية للاندفاع بهذا الاتجاه. ولهذه الخطوة أشكال متعددة، تبدأ من الإعانات وتحويل فتح الحسابات لدى هذه الدول بعملاتها المحلية. إلى مبادلة جزء من القطع الأجنبي من الدولار واليورو بعملات الشركاء الجدد، إلى وضع قوانين بتحويل جزء من الحسابات التجارية الكبرى إلى هذه العملات. أي كل ما يتيح تثبيت هذا الاتجاه، وتأمين رصيد كاف يزيد من مرونة التعامل التجاري مع هذه الدول. ويلتقي هذا مع توجه هذه الدول نحو التعامل فيما بينها وبعملاتها المحلية.
ما بين الاستيراد والتصدير
بعيداً عن الصعوبات المباشرة التي يعاني منها قطاع التجارة الخارجية، والتي تفرض حلولاً محددة وأسواقاً محددة وطرق تمويل ودفع نوعية. يبقى ضرورة للبحث بكيف يوجه هذا القطاع ومع ماذا يتعارض، فبين تشكيله طوقاً للنجاة، وبين تحوله إلى خط سير مستقل وعشوائي يقوم على مصالح التجار ومنطق استيراد وتصدير ما يتوفر وما يحقق ربح ..
بين هذا وذاك يكمن دور الدولة في عملية الضبط والتحفيز.
الاستيراد بين الحاجة والهدر
يعتبر الاستيراد اليوم قطاعاً محورياً في ظل نقص الوقود بداية، ونقص مواد غذائية رئيسية القمح، الطحين ، الأعلاف بالإضافة إلى المستوردات التقليدية والتي تلعب دوراً رئيسياً في الاستهلاك السوري وهي السكر والرز.
وهي المواد الرئيسية التي لا يمكن التوقف عن استيرادها، والتي تتطلب مخصصات كبرى من القطع الاجنبي استطاعت الحكومة السورية أن تؤمنها في العالم الحالي إلا أنها قد لا تستطيع تأمينها في الأعوام القادمة في حال استمرار الأزمة على هذا المنوال.يضاف إليها مدخلات وسيطة للصناعات التي لم تتعرض للتوقف، الصناعات الدوائية والعامة منها تحديداً.
من الواضح أن استيراد السلع الأساسية خلال الأزمة تقوم به الدولة والمؤسسات التابعة لها، ولكن هناك ظروفاً موضوعية تجعل القطاع الخاص اليوم أكثر مرونة وأكثر قدرة على الوصول إلى الأسواق العالمية، نتيجة عدم فرض العقوبات عليه، وعلاقاته الواسعة مما يشكل استمراراً لحالة العشوائية والهدر التي لا تتناسب مع ظرف الأزمة.
فبين الإنتاج المحلي وتراجعه والحاجة المتزايدة إلى السوق العالمية. وبين الواردات وما يترتب عليها من نقص في السيولة والقطع الاجنبي، وبين طبيعة مستورات القطاع الخاص وميلها الاستهلاكي، فإن الاستيراد إذا لم يقيد ويحدد ويوجه فإنه قد يتحول لعملية هدر، ستكون محدودة في ظل انخفاض الطلب المحلي وعدم القدرة على استهلاك واردات ترفية أو استهلاكية غير أساسية إلا انها تبقى هدراً لا يعوض في ظروف الحاجة الحالية.
بالتالي تمتلك الدولة حقوق حصر الواردات وتقييدها، وهو ما يدرج ضمن القائمة السلبية للواردات التي لم تبصر النور بعد، إلا انها تعتبر إجراءً إيجابياً يفترض ان يشمل النقاط التالية:
منع واردات ترفية استهلاكية.
تقييد الواردات الاستهلاكية التي تتعارض مع اتجاهات التنمية الزراعية الصناعية، تقييداً بالحد الذي يسمح بتوفير السلع بأسعار منخفضة، وعدم منافسة السلع المنتجة محلياً.
تحفيز واردات مرتبطة بالصناعات المحلية.
دفع الموردين نحو التوجه شرقاً، والتعامل بالعملات الأخرى.
النوعية في الإجراءات والابتعاد عن التعميم:
وتدفع كل هذه الجوانب المتناقضة التي يرتبط بها قطاع الاستيراد إلى ضرورة الابتعاد قدر الإمكان عن العمومية في قرارات الضبط، والنوعية والتحديد فيها. فقررات تمويل المستوردات من عدمها، أو تخفيض الرسوم أورفعها، كلها أدوات يفترض ان تبتعد عن التعميم وتبقى وفقاً لكل مادة وكل حالة، فمعاملة مستوردي الرز والسكر والشاي المحليين، لا يتطابق مع معاملة مستوردي قطع المفروشات مثلاً أو غيرها من المواد التي توجد بدائل محلية لها.
الصادرات تناقضات تؤكد ضرورة الابتعاد عن العشوائية
للصادرات حساسية عالية في وقت الأزمة، فالمواد المنتجة والمتاحة للتصدير، تشكل أحد بوابات الموارد المتبقية والمحافظة عليها وتوسيعها ضرورة، بالمقابل فإن هذه الضرورة تتناقض مع ضعف الإنتاج والعرض المحلي وتراجع الواردات وضرورة توجيه الفائض للسوق ليوسع عرض السوق المحلية ويساهم في تخفيض الأسعار وزيادة القوة الشرائية.
يحقق قطاع الصادرات أرباحاً في بعض المجالات الزراعية الغذائية على وجه التحديد، على حساب المنتجين المحليين لهذه المواد، حيث أن ضعف التسويق الداخلي المحلي وانخفاض القدرة الشرائية، يؤدي بشكل دائم إلى وجود فوائض تصديرية مهدورة كما في زيت الزيتون والحمضيات وأنواع اخرى.
يتداخل قطاع الصادرات مع توليده للموارد من جهة، وضرورة المحافظة على تغطية مناسبة للسوق المحلية من جهة أخرى، مع رفعه لعائدات منتجات محلية فائضة لا تلقى منافذ تصديرية. هذا التداخل يتناقض مع حصة القطاع الخاص في تصدير مواد حساسة مرتبطة بالأمن الغذائي، ويتطلب أيضاً توجيهاً يتراوح من المنع للتقييد للتحفيز والتوجيه.
وهو أيضاً يتمثل بالقائمة السلبية للصادرات التي صدرت حديثاً. والتي غطت جانباً مهماً من المتطلبات التالية:
تمنع تصدير مواد زراعية رئيسية والقمح، الشعير،
تقييد تصدير اللحوم الحمراء نتيجة بداية تناقص الثروة الحيوانية، وارتفاع أسعارها في الأسواق المحلية.
تمنع تصدير بعض المنتجات المعرضة لمخاطر نقص وتوقف جدية مثل قطاع الدواجن، والبيض.
تمنع او تقيد تصدير المواد الوسيطة المرتبطة بصناعات محلية غير متوقفة، أو من الممكن تحريكها، وذلك بناء على كل حالة وكل مادة والصناعة المرتبطة بها، وبدائل استخدامها المحلية.
يبقي الإجراءات التي تتطلب دفع المصدرين في القطاع الخاص إلى التعامل مع الدول الأكثر انفتاحاً على سورية خلال الأزمة والتعامل بالعملات المحلية.
قد يكون طابع التجارة الخارجية في سورية الذي يزداد فيه وزن تجار القطاع الخاص، مقابل زيادة الحاجة إلى استيراد مواد أساسية، وزيادة الحاجة إلى تصدير فوائض إنتاجية، وزيادة الحاجة عموماً إلى قطاع تجارة خارجية بعيد عن الفوضى والعشوائية التي يؤدي إليها التحرير الكامل، كل ذلك يعيدنا إلى دور الدولة كمستورد ومصدر رئيسي تدخل في حساباته الأبعاد الاقتصادية – الاجتماعية العامة. وإلا فإن قطاع التجارة الخارجية سينتج الكثير من الفوضى، والقليل من القدرة على الاستجابة لضرورات التغييرات النوعية في جهات الشراكة، وطرق التبادل.