سوق الذهب والسياسات توزّعان الثروة من تحت لفوق

سوق الذهب والسياسات توزّعان الثروة من تحت لفوق

العلاقة بين الحكومة والصاغة ليست علاقة بين السياسات ونتائجها على قطاع حرفي كما يحاول البعض أن يصور المسألة، وإنما هي علاقة بين المال العام وكبار المدخرين وأصحاب الأرباح، وهي علاقة ذات تأثير هام على  دور السياسات في توزيع الثروة، وعلى قيمة الليرة السورية.

انتعشت سوق الذهب السورية بشكل كبير خلال الأزمة، معبرة عن عملية واسعة لتوزيع الثروة والدخل من تحت لفوق، أي من أصحاب الدخل المحدود والمتوسط إلى أصحاب الدخول العالية. حيث باع محدودي ومتوسطي الدخل، كل ما ادخروه من الذهب، مع تدهور أوضاعهم المعيشية وانتقالهم للفقر، أما أصحاب الربح الكبير فهم ينشطون مبيعات سوق الذهب، ببيعهم لليرات السورية التي يجنونها من أصحاب الأجر والدخل الضعيف عن طريق ارتفاعات مستويات الأسعار، وشراء الذهب مقابلها، باعتبار أن المعدن الثمين، هو وسيلة ادخار مضمونة وتحفظ القيمة، ليساهم نشاطهم هذا في تخفيض قيمة الليرة السورية.
أما السياسات الاقتصادية السورية خلال الأزمة، فهي بدعمها لهذا النشاط، وعدم فرض أي رسوم عليه، فإنها تدعم عملية توزيع الثروة من تحت لفوق، أو تدعم عملية تراكم الأرباح الكبرى لدى قلة على حساب غالبية السوريين. ويثبت ذلك الكثير من الإجراءات المتبعة، والإجراءات غير المتبعة ومنها:
• سماح الحكومة باستيراد الذهب، برسوم مقدارها 100 دولار على الكغ من الذهب المستورد أي لا تتعدى نسبة 0,2% من قيمة الكغ، بينما كان من المفترض أن تبلغ الرسوم الجمركية نسبة 5% بالحد الأدنى وفق التعرفة الجديدة. مقابل هذا التخفيض كان على الحكومة أن تفرض على القادرين على استيراد المعدن الثمين وزيادة كمياته داخل البلاد، أن يدفعوا رسومهم بالذهب ليساهموا في زيادة الاحتياطي الذهبي لدى المصرف المركزي الذي يشكل ضمانة لقيمة المال العام.
• فرضت الحكومة رسم إنفاق استهلاكي 5% ما سيرفع أسعار الذهب في السوق، ولن يدفعه سوى المستهلكين النهائيين للذهب، أي تعفي الحكومة، من الرسوم، المستوردين والمصدرين، وكبار مالكي الذهب وصاغته، وكبار المدخرين الذين باعوا الليرة سابقاً واشتروا الذهب قبل رفع الرسم.
• لم تفرض الحكومة ضرائب تصاعدية على الثروات التي راكمها كبار المدخرين، على شكل ذهب، أو قطع أجنبي، أو عقارات أو غيرها، وإن ضريبة الإنفاق الاستهلاكي التي قد تطالهم عند شراء كمية الذهب لا تمثل شيئاً هاماً من القيم التي إدخروها.
• الأخطر أن الحكومة سمحت بتصدير الذهب، وبضمانات واهية جداً، كما أنها سامحت مهربي الذهب القادرين على إدخال الذهب بطريقة غير شرعية إلى البلاد، ودفعتهم غرامة 200 $ على الكغ فقط، بينما كان متاحاً أمامها أن تصادر هذه الكميات، وتضيفها للمال العام. إن التهاون مع هؤلاء لا يحفزهم على الاستيراد بالطرق النظامية، بل قد يحفزهم على إخراج الذهب من البلاد بالطرق غير النظامية!
إن كبار مالكي الذهب وكبار مدخريه مع من يقومون بالاستيراد والتصدير، وصك ذهب الادخار من ليرات وأونصات وسبائك عليهم أن يدفعوا رسومهم بالذهب إلى خزينة المال العام. وأن يدفعوا ضرائب تصاعدية على ثرواتهم المتراكمة، وهذان الإجراءان هما ضرورة لإعادة توزيع الثروة من كبار المدخرين إلى المال العام، الذي يفترض أن توظفه الحكومة للخدمات العامة. ولكن كل هذا لن يتم في ظل سياسات تنطلق من مصلحة السوق وأرباحها على حساب البلاد برمتها.