سوق الذهب «المدللة» تتمرد عـلى الحكومــة
ازداد نشاط قطاع سباكة وصياغة الذهب خلال الأزمة، مع ارتفاع مستمر بأسعار غرام الذهب في سورية، حيث ارتفعت المبيعات اليومية من الذهب في سوق دمشق على سبيل المثال من 4-6 كغ وسطي المبيع اليومي، لتصل إلى 19 كغ، وتعود وتستقر قريباً من 12 كغ وسطي المبيع اليومي خلال عامي 2013-2014، بحسب تصريحات الجمعية الحرفية للصاغة وصناعة المجوهرات.
محرر الشؤون الإقتصادية
ليس غريباً توسع نشاط هذا القطاع خلال الأزمة، إذ أنه تعبير مكثف عن تراكم الأرباح لدى قوى السوق الكبرى، والتي تحصلها بالليرات السورية التي تجنيها مما يدفعه السوريون جراء ارتفاع مستويات الأسعار. ليقوم كبار الرابحين ببيع الليرات السورية، وشراء الذهب كوسيلة ادخار مضمونة، ليضعفوا بهذه العملية، من قيمة الليرة السورية، ويراكموا الأرباح على شكل ذهب. أي أن نشاط قطاع الذهب يعبر عن تراكم الأرباح لدى قلة، وعن اختلال في توزيع الثروة، وعن عمليات إضعاف لقيمة الليرة السورية.
وليس غريباً بالتالي، أن تتسم السياسات الاقتصادية الحكومية المرتبطة بالقطاع، بالمرونة والسرعة، وبدعم عالٍ لنشاط يخدم كبار قوى السوق. حيث سُمح بصك الليرة الذهبية السورية، والأونصة، والسبائك. وتلا ذلك تسهيلات أخرى نقلت نشاط قطاع الذهب، إلى نشاط خارجي ليسمح للسوق باستيراد الذهب برسوم لا تتعدى 100$ على الكيلو غرام من الذهب، وبتمويل من القطع الأجنبي لدى المصرف المركزي، ثم تم تشريع نشاط القادرين على تهريب الذهب إلى داخل البلاد، برسوم طفيفة، والأخطر هو السماح بالتصدير بضمانات واهية.
خفض رسوم استيراد الذهب من 5% إلى 0,2%
أصدرت وزارة الاقتصاد القرار رقم 328 الصادر بتاريخ 26/5/2014 الذي سمحت بموجبه باستيراد الذهب، حيث كان من المفترض أن تصل الرسوم الجمركية على استيراد المعادن الثمينة نسبة 5%، بحسب التعرفة الجمركية الجديدة، إلا أن الحكومة أعفت مستورديه من هذه النسبة، واقتصرت الرسوم على 100$ على الكيلو غرام من الذهب المستورد، وهذا الرسم لا يتجاوز نسبة 0,2% من السعر السوقي لكيلو غرام الذهب في السوق السورية اليوم، وفق سعر الصرف الرسمي.
التصدير بتأمين 5%أسهل طرق التهريب!
يضاف إلى دعم نشاط الاستيراد، السماح بالتصدير، حيث سُمح بتصدير الذهب بكميات محددة، ومع تعهد بإعادة الذهب، أو الفضة المصدرة خام وبالكمية ذاتها، ولكن ما الضامن بإعادة الاستيراد؟! الضامن لا يتعدى كتابة تعهد قبل التصدير، ودفع تأمين 5% فقط من قيمة المواد المصدرة!.
(قد لا يجد الراغب بتهريب الذهب خارج البلاد أفضل وأرخص من طريقة التأمين المذكورة، والتي لا تكلفه إلا 5% من قيمة الذهب المراد تهريبه، مدفوعة بالليرة السورية؟!).
عمليات التصدير إن حصلت بالطريقة النظامية، لا تؤثر على كميات الذهب الموجودة في البلاد لأن القانون يفرض على كل مصدر أن يستورد كمية من الذهب تعادل الكمية التي صدرها إلى الأسواق الخارجية بينما تحصل الحكومة على رسوم من المستوردات فقط، ومن الجدير ذكره أن أسواق دول الخليج تعتبر وجهة التصدير الرئيسية، حيث تطلب وتفضل المشغولات السورية بحسب ما أفاد به الصاغة.
زيادة الذهب الداخل للبلاد.. ولكن لمن؟!
التساهل الحكومي بعدم فرض رسوم أو ضرائب إضافية على النشاط الخارجي أو الداخلي لقطاع الذهب، يجد تبريراته بأن تسهيلات الحكومة لاستيراد الذهب، وإدخاله للبلاد يؤدي إلى زيادة (الكتلة النقدية مضمونة القيمة) باعتبار أن المعادن الثمينة تدعم وضع الاحتياطيات النقدية، ولكن هذه الكتلة الذهبية الجديدة المتحركة هي بمعظمها بيد السوق، ولم تفرض الحكومة أي إجراء يؤدي إلى زيادة حصة احتياطي الذهب المركزي، من الذهب الوارد إلى البلاد والمتداول داخلها.
إن طريقة الحكومة في تشجيع عمليات استيراد الذهب بالشكل السابق، تتم وفق الشكل التالي: تمول الحكومة مستوردات القطاع من الذهب بالقطع الأجنبي وتحصل من التجار على قيمة القطع بالليرة السورية وبأسعار صرف مخفضة عن سعر السوق، وتحصل على رسوم مستوردات الذهب، ولكنها لا تشكل نسبة 0,2% من قيمة كل كيلو غرام من الذهب، بينما الرسوم الجمركية يفترض أن تبلغ 5% كما ذكرنا سابقاً.
بنتيجة عملية التمويل والاستيراد تدخل كميات من الذهب إلى الأسواق السورية وهذا غير كافٍ للقول بأنه إيجابي، فالذهب ينتقل إلى السوق، ومنه إلى أصحاب الربح ممن يبيعون الليرة ويدخرون بالمعادن الثمينة أو بالقطع الأجنبي، ولا ينتقل أي جزء منه إلى خزائن المال العام، ليتحول إلى احتياطي.
نتائج العملية:
المال العام الخاسر الوحيد!
وبالنتيجة يحصل التجار المستوردون على القطع الأجنبي، والرابحون في السوق الداخلية على الذهب، وتحصل الحكومة على الليرة السورية، بقيمة أقل من قيمة كل من الذهب والقطع الأجنبي، وهذه السياسة تؤدي إلى تشجيع هؤلاء الذين يتقاذفون الليرة السورية التي جنوها من السوريين الآخرين.
رفع رسم الإنفاق!
اليوم تشهد (علاقة الود) بين الحكومة وقطاع الذهب بمستورديه ومصدريه ومستهلكيه، وصاغته، (إشكالاً ما)، بعد فرض رسم الإنفاق الاستهلاكي على دمغة الذهب بنسبة 5%.
فرفع الرسوم على استهلاك الذهب أو شرائه، كان واحداً من نتائج المرسوم التشريعي رقم 11 لعام 2015، حول فرض رسم الإنفاق الاستهلاكي. وهي الضريبة التي تتعاكس تماماً مع ضرورات خفض مستويات الأسعار، وتحصيل المال العام من الرابحين، لأنها تؤدي إلى ارتفاع مباشر في مستويات الأسعار، حيث يحمّلها التجار والحلقات الوسطية، والسوق عموماً على أسعار الاستهلاك، أي على المستهلك النهائي فقط (مع ملاحظة أن مستهلكي الذهب الأساسيين اليوم هم كبار المدخرين وليسوا أولئك القلة الذين يقتنون شيئاً نزراً من الذهب ليومهم الاسود)، لتساهم بمزيد من انتقال الدخول من تحت إلى فوق، أي من أصحاب الأجور، إلى أصحاب الأرباح بشكل عام.
وبناء عليه فقد رفعت الحكومة رسم الإنفاق الاستهلاكي على (مستهلكي الذهب) ليصبح المدخر الذي يريد شراء أونصة ذهبية سعرها اليوم 300 ألف ل.س، عليه أن يدفع ضريبة 20 ألف ل.س. وهذا قد يحقق إيرادات للمال العام تقريباً 1,75 مليار ل.س وفق المبيعات الوسطية من سوق دمشق فقط.
إن هذه الطريقة في فرض الرسوم، تعفي كبار المتعاملين بالذهب أي القادرين على استيراده، وكبار الصاغة من مالكي كميات كبرى من الذهب، وكبار أصحاب الربح الذين اشتروا كميات كبيرة من الذهب، قبل فرض رسم الإنفاق وهي لا تشكل عبئاً جدياً على كبار المدخرين. فالحكومة تحرص على تجنب كل أولئك، وعلى عدم تحميل أموالهم المكدسة، أي مبالغ زائدة تدفع للمال العام.
ومن سخرية القدر أنه على الرغم من وهن هذه الضريبة، وفرضها على آخر شريحة من المتعاملين بالقطاع فقط، فإن السوق قد عبرت عن رفضها لهذا الرسم، وهي التي لم تعتد أن تمتد يد المال العام إلى أرباحها، حتى بأهون الأشكال!.
فرض أمر واقع وسوق غير نظامية!
رفضت السوق فرض الحكومة لرسم إنفاق 5%، حيث بدأ الرد بإعلان الصاغة بأن عمليات البيع في السوق قد توقفت نهائياً، والمبيعات وصلت للصفر، نتيجة رسم الإنفاق، بذريعة توقف الطلب
أما خطوة التصعيد التالية، فكانت إعلان الصاغة على لسان رئيس الجمعية غسان جزماتي، بأن الجمعية قد توقفت بشكل شبه كامل عن دمغ أي قطعة ذهبية، وذلك لأن السوق قد فرضت أمراً واقعاً جديداً، حيث أصبح في سوق الذهب سعران، سعر رسمي مع رسم الإنفاق الاستهلاكي، وسعر سوق أخفض منه، بالإضافة إلى ذلك، فإن الصاغة لا يقومون بعمليات الدمغ لرفضهم دفع الرسم الجديد، وبالتالي فإنهم يبيعون ذهباً بشكل غير رسمي، ودون أن يدفعوا رسم الإنفاق، أي بطريقة غير شرعية عملياً، لتولد سوق سوداء للذهب. أما الحكومة فقد ردت على لسان وزير ماليتها، مؤكدة استمرار فرض رسم الإنفاق الاستهلاكي.
رغم القرار الواهي السوق (تتغنج)
لم تقم الحكومة بأكثر من فرض رسم على المدخرين الجدد للذهب، وبمبالغ لن تتعدى 1,75 مليار ل.س سنوية في سوق دمشق، مقدرة وفق وسطي مبيعات الذهب السابق 12 كغ يومياً، وأسعاره الحالية (الغرام 8060 ل.س). أي لم تمتد يد المال العام، إلى المستوردين أو المصدرين، أو كبار مالكي الذهب، وكبار المدخرين. ومع هذا فإن السوق ممثلاً بكبار الصاغة وكبار المدخرين، أعلنت رفضها للرسم، وسترسل اعتراضات إلى وزارة المالية، تطالب برسم 5 بالألف عوضاً عن 5 بالمئة.
إن ما يحدث اليوم بين الصاغة والحكومة، هو خير دليل على أننا في ظروف لا يستطيع ملايين السوريين من أصحاب الأجر وصغار المنتجين، أن يبدلوا قراراً حكومياً برفع أسعار المازوت الذي يدفع الكثير منهم إلى دوامة الفقر، وتوقف الإنتاج، وينقل مجمل أجورهم إلى أصحاب الربح ممن يجنون حصيلة ارتفاع الأسعار.
بينما تمتلك سوق الذهب التي يعبر نشاطها عن مصلحة كبار أصحاب الربح الذين يدخرون الذهب، أدوات هامة مثل رفض قرار حكومي، والتوقف عن التعامل الرسمي بالذهب، وتعطيل السوق، وعدم دفع الرسوم، أي تستطيع السوق أن تقلب موازين الحكومة، وتعيقها عن الحصول على جزء صغير من المال العام المتراكم لدى هؤلاء.
وهذه نتيجة طبيعية، للسياسات التي تنطلق من مصلحة السوق وتزيد من قوتها، وتعيق أي انحراف بسيط وشكلي عن سكة (تقديم العطاءات لها)!.
475% التضخم بأسعار الذهب
تعتبر أسعار الذهب، واحدة من المحددات الرئيسية في قياس التضخم، أي ارتفاع المستويات العامة للأسعار، والتي يقابلها خسارة في قيمة العملة. فإذا ما طبقنا هذا المقياس لنقيس التضخم المتراكم خلال سنوات الأزمة، بأخذ تاريخ 5 آذار، من الأعوام: 2010- 2011-2012-2013-2014 وحتى الارتفاع الأخير في أسعار الذهب في شهر آذار- 2015.
فإن الأسعار قد انتقلت من:1400 ل.س/غ في 2010، 2300 ل.س/غ في 2011- 3900 ل.س/غ في 2012، 4375 ل.س/غ 2013، 5900 ل.س/غ 2014. لتصل إلى 8060 في بداية 2015. والتضخم المتراكم بين قبل الأزمة في عام 2010، وبداية عامها الخامس: 475%. بينما ازداد الحد الأدنى للأجور من 9675 ل.س في 2010، إلى 13675 ل.س، أي بنسبة 41% فقط.
1,75 مليار ل.س حصة المال العام المتوقعة من سوق دمشق
القيمة السوقية لمبيعات الذهب الوسطية وفق سعر الغرام عيار 21 بتاريخ 5-3-2015 والبالغ 8060 ل.س/غرام، وسعر الكيلو غرام من الذهب: حوالي 8 مليون ل.س، وباعتبار أن كميات المبيعات الوسطية في سوق دمشق فقط،تبلغ 12 كغ يومياً:
12 كغ × 365 يوم × 8 مليون ل.س= 35 مليار ل.س
وتقدير حصة المال العام من رسم الإنفاق الاستهلاكي الجديد المفروض والبالغ نسبته (5%):
35 مليار ل.س× 5%= 1,75 مليار ل.س.
378 ألف ليرة خسارة
فرق الرسوم بين إجرائين
الحكومة خفضت لمستوردي الذهب نسبة رسوم الاستيراد من 5% إلى 0,2%. حيث أقرت الحكومة أن الرسوم على استيراد الذهب تقتصر على 100$ للكغ. أي لا يدفع المستوردون إلا مبلغ 100$ عن كل كيلو غرام من الذهب المستورد، وتبلغ قيمة الرسم اليوم 21900 ل.س وفق سعر الصرف الرسمي (219 ل.س) وذلك يعادل (0,2%) من سعر كغ الذهب (عيار 21) البالغ 8 مليون ل.س، وفق آخر الأسعار. أما وفق التعرفة الجمركية الجديدة فكان من المفترض أن تبلغ الرسوم على مستوردات الذهب 5% فإن قيمة الرسم الجمركي يجب أن تكون 400 ألف ليرة سورية بدل من 21900 ل.س أي خسارة مايقارب 378 ألف ليرة فرق الرسوم عن كل كغ.
0,02% حصة المالية بالقياس للمبيعات
بتاريخ تموز-2014، صرح «جزماتي» بأن مالية دمشق تحصل شهرياً من الصاغة، على 500 ألف ل.س، بينما كانت التصريحات في الفترة ذاتها تشير إلى أن المبيعات الوسطية اليومية تبلغ 12 كغ يومية وسطياً، والشهرية تبلغ 2,34 مليار ل.س وفق سعر الغرام في الفترة ذاتها 6500 ل.س/للغرام (عيار 21)، لتكون حصة المال العام من مبيعات الذهب لا تتعدى: 0,02% رغم شمولها الرسوم والضرائب؟!.