2014.. عــام القفـــز فـوق الخطوط الحمراء

2014.. عــام القفـــز فـوق الخطوط الحمراء

2014 هو رابع عام في الأزمة السورية، وثالث أعوام الحرب فعلياً، وهو العام الذي وصل فيه الفقر بين السوريين إلى 90% بحسب الأمم المتحدة من عدد السكان، كما هاجر أكثر من ربع السكان المقيمين، وبات أكثر من نصف السكان يحتاجون للإغاثة.
إن أية مراجعة لاقتصاد سورية في عام 2014، يجب أن تنطلق من هذه الحقائق الأولى القاسية، ولذلك علينا أن نركز على السياسات الاقتصادية، حيث تضاعف الحرب أهميتها نتيجة ازدياد مخاطر الفوضى، وبسبب ازدياد الحاجة إلى ضبط وتوجيه الموارد. فبينما يهيمن التدمير والفساد والمضاربة والاقتصاد الأسود على النشاط الاقتصادي، يتراجع الإنتاج والمنتجين، وتتحول تعبئة الموارد وإدارتها للصالح العام إلى مهمة مركزية للسياسة الاقتصادية.
أي أن مهمة الحكومة الرئيسية في اقتصاد الحرب يجب أن تكون تجميع الموارد القليلة بأكبر قدر ممكن، وإدارتها لحل المشكلات والمهمات الكبرى والضرورية، وفي مقدمتها حماية 90% من سكان البلاد من الفقر الذي دخلوا به. فإن لم تفعل فإن الحرب تتحول إلى الفرصة الذهبية لناشطي الاقتصاد الأسود والمضاربات، الذين يمتلكون عند مستوى معين زمام الأمور وذلك ليس نتيجة التراجع الكبير الذي لحق بالاقتصاد السوري فقط، بل نتيجة عدم وضع السياسات على أسس حل المهمة وطنية وهي تعبئة الموارد لحماية القيمة الحقيقية لأجور ودخول ملايين السوريين، وبالتالي لحماية الليرة فعلياً.

ما هو دور أصحاب القرار السياسي في أزمة السوريين الاقتصادية في العام الرابع من الحرب؟ وهل حقيقة أن منطلقهم هو الميل والانحياز للأكثرية المتضررة من السوريين. أم للأقلية الرابحة؟ سنحاول الوصول إلى استنتاج بما يخص دور السياسات الحكومية في إدارة الموارد خلال الحرب، من خلال مجموعة من القرارت التي تعتبر علامات فارقة في 2014، مع ما يرتبط بها من مفارقات تسمح بتوضيح الصورة، من خلال ما تابعته قاسيون من ملفات خلال عام 2014.
سياسات تقشف الإنفاق على حساب فقراء الشعب السوري!
السياسات الحكومية في عام 2014 كما قبله، وضعت الموارد هدفاً لها، فكانت الحكومة تعلن وتكرر بأنها مضطرة نتيجة تراجع موارد الحكومة إلى تضييق نفقاتها على المواد الرئيسية التي تساهم في دعم الأجور الحقيقية:
الخبز أول الضحايا.. وهدر المال العام "100" مليار ليرة!
لم يتم في عام 2014 تطبيق قرار الحكومة الذي اتخذته في عام 2013، القاضي بتأمين سلة غذائية مدعومة تضم عوضاً عن الخبز والسكر والأرز التمويني، مواداً أخرى مثل العدس، البرغل، الشاي، الزيت، ليدفع السوريون جزءاً من تكلفتها ويدعم الباقي. بل على العكس من ذلك تم بتاريخ 10-7-2014 رفع سعر ربطة الخبز إلى 25 ل.س، ونالت الحكومة على أكتاف المواطن موارد بمقدار 17 مليار ل.س مما يدفعه السوريون على ربطة الخبز دعامة الغذاء اليومي الرئيسية.
لكن المفارقة في ذلك القرار كانت أن اضطرار الحكومة لرفع سعر ربطة الخبز أتى في المرحلة التي كانت عمليات تأمين الطحين من الخط الائتماني الإيراني مستقرة في عام 2014، وذلك وفق تسهيلات ائتمانية في الدفع الحكومي. والمفارقة الأكبر أن وصول الحكومة إلى تعبئة موارد من مستهلكي الخبز، لم يسبقه الهمة ذاتها في مراقبة نفقات استيراد الطحين، وإنتاج الخبز، والتي تضم العديد من حلقات الفساد، أبرزها عمليات استيراد الطحين من فرنسا (الدولة المعادية) بذريعة مبادلتها بالأموال المجمدة وإن بأسعار  عالية جداً بلغت 580 $/ للطن، بينما كان أعلى سعر عالمي للطحين 325 دولار للطن، أما سعر تصدير الطحين من روسيا على سبيل المثال كان 286$/ للطن، أي أن نسبة الهدر في الطن تبلغ: 294 $/ للطن. إن عمليات الاستيراد هذه قد هدرت من المال العام  مبالغ كبرى تصل إلى 100 مليار ل.س، وذلك عند المفاضلة بين وجهة استيراد طحين وأخرى، وهو ما يعد مالاً منهوباً ناتجاً عن سوء إدارة الموارد. إن منطق اقتصاد الحرب يتطلب العودة عن هذه الصفقات، ومحاسبة المسؤولين عنها، ومصادرة أموالهم. وهو ما سيؤمن إعادة مبالغ من الفساد، عوضاً عن تحصيل الموارد من مستهلكي ربطة الخبز، وذلك لم يتم بالطبع.
12,4 مليار ليرة حجم الهدر في استيراد السكر والأرز
كذلك الأمر ارتفعت أسعار السكر والأرز الموزع وفق "البونات"، من سعر 25 ل.س، إلى سعر 50 ل.س للكغ. وفق الذرائع ذاتها، أي تخفيض النفقات ونقص الموارد الحكومية، حيث أمن رفع السعر للحكومة مقدار 10 مليار ل.س سنوية.
مع العلم أن عمليات توزيع السكر والأرز تتضمن (تسربات)، أي بيعاً للأسواق وليس توزيعاً مباشراً للمواطنين، فهي تذهب لمصلحة الفساد بتدرجاته، وتستطيع الحكومة تحصيل موارد أعلى بطرق مغايرة لطريقة رفع السعر. إلا أن الأهم من ذلك أن بيانات الحكومة حول استيراد السكر، وفق العقود الموقعة مع القطاع الخاص المدفوعة من المال العام، تشير إلى أن أسعار السكر المستورد تفوق الأسعار العالمية بمستويات عالية، وتتجاوز تكاليف النقل والتأمين المرتبطة بالحالة الخصوصية السورية في الظرف الحالي. وفي حسبة أجرتها قاسيون حول هذا الموضوع كان الهدر في الموارد الحكومية، وهو عملياً نهبها عن طريق تضخيم قيم صفقات الاستيراد في السكر وحده، يتراوح بين 43-83 مليون دولار، أي ما بين 6,4-12,4 مليار ل.س بسعر صرف 150 في وقت الحسبة، حيث أن كلفة استيراد طن السكر بحسب البيانات المنشورة في الصحف الرسمية في عام 2014، بلغت 800 $/للطن، بينما أعلى كلفة عالمية مع احتساب هامش لتكاليف النقل والتأمين تتراوح بين: 522-654 $/ للطن.
وينبغي الإشارة إلى أن كميات استيراد السكر التمويني لم تتغير، مع العلم أن أكثر من ربع السوريين أصبحوا خارج سورية، ونصفهم تحت رعاية الأمم المتحدة الغذائية! وينبغي التذكير أن استيراد كميات كبيرة وفائضة عن حاجة الشعب هي أيضاً طريقة أخرى لنهب المال العام، خاصة وأن توزيع الأرز في المؤسسات الاستهلاكية كان متوقفاً في أغلب الأحيان، وأن عمليات توزيع السكر غير مستقرة!.
المحروقات.. عودة التكرير وتضخيم الفواتير!
مع تراجع إنتاج النفط في عام 2014 بنسبة 95%، فإن النفط الخام المقدم وفق الخط الإئتماني الإيراني تحول إلى (طاقة النجاة) الحكومية لتأمين هذه المادة، والذي كُرّر في المصافي الوطنية السورية، وأنتجت كميات تعادل الكميات المنتجة قبل الأزمة. وبينت بيانات من شركة محروقات أن تكاليف إنتاج الليتر من البنزين أو المازوت أو الفيول أو الغاز لم تختلف إلا بمقدار تغير سعر صرف الليرة بين عامي 2010-2013، وبدايات 2014، مما دل على أن الحكومات قبل الأزمة كانت تحتسب النفط الخام السوري بالتكلفة العالمية وهو ما يضخم التكاليف، ويزيد فاتورة الدعم الحكومي للمحروقات دون وجه حق، ودل كذلك على أن تكاليف النقل والتأمين في ظرف الأزمة السورية لم تشكل هامشاً هاماً يؤثر على تكلفة الليتر، بل كان تغير قيمة الليرة مقابل الدولار هو العامل الرئيسي المؤثر في التكلفة.
انخفاض عالمي لأسعار المحروقات.. والحكومة ترفع أسعاره!
نال البنزين الحصة الرئيسية من ارتفاعات الأسعار، والأزمات أيضاً، حيث ارتفع سعر البنزين من 100 ثم إلى 120 ل.س/ لليتر في شهر 5-2014 إلا أن نهاية العام وقبل بداية فصل الشتاء شهدت الارتفاعات الأكبر في الأسعار، حيث ارتفع سعر البنزين إلى الأسعار العالمية 135 ل.س، ولم ينخفض رغم انخفاض أسعار النفط العالمية بمعدل 23% في الربع الأخير فقط من عام 2014. ولا تزال البلاد تشهد أزمة بنزين وتصر الحكومة أن لا أساس موضوعياً لها، وأنها مفتعلة دون تقديم أي علاجٍ شافِ.
أما بما يخص مادة المازوت فقد ارتفعت أسعارها من 60 إلى 80 ل.س للتدفئة والنقل في هذا العام على الرغم من انخفاض سعره عالمياً بما يزيد عن 10% في الربع الأخير من هذا العام. كما لم توزع مخصصات التدفئة الضرورية إلا بحدودها الدنيا، على الرغم من أن الاستهلاك السوري قد انخفض إلى حدود بعيدة تتجاوز 60% منذ الشتاء الماضي، وبالتأكيد فإن انخفاض الاستهلاك قد استمر في عام 2014 مع ارتفاع سعر الليتر وتراجع قدرة السوريين على تأمين مازوت التدفئة وتقلص عدد السوريين المستقرين داخل البلاد. وأدى رفع سعر المازوت إلى 140 ل.س لكافة الاحتياجات الأخرى، إلى وجود سعرين في السوق، وانتقال الجزء الأكبر من مازوت التدفئة والنقل الأقل سعراً من حلقات توزيعه إلى السوق السوداء، محققة إيرادات عالية لفاسدي هذا القطاع.
وبالنهاية فإن التقديرات المنطقية المبنية على معلومات عن تكاليف الليتر من المحروقات المنتجة في المصافي السورية من النفط الخام الإيراني، تشير إلى أن إيرادات الحكومة من المازوت والبنزين في عام 2014 قد تبلغ وتتجاوز 276 مليار ل.س. وتشير إلى أن التكاليف المنطقية لليتر البنزين يفترض أن تكون 100 ل.س عوضاً عن 135 ل.س المعلنة، وتكاليف ليتر المازوت يجب أن تكون بحدود 105 ل.س، عوضاً عن 160 ل.س المعلنة التي أشار لها وزير النفط في إحدى مقابلاته وذلك في توقيت رفع السعر في تشرين الأول 2014 وعوضاً عن الـ 140 ل.س التي أقرتها الحكومة للقطاع الصناعي وغيره مؤخراً، (وذلك بناء على حسابات جريدة قاسيون في أعداد سابقة وفقاً لبيانات شركة محروقات راجع العدد 676 مقالة "بيانات البنزين والمازوت والكثير من التساؤلات")، ليكون سعر بيع كل من البنزين والمازوت رابحاً، وغير مدعوم، وتحديداً بعد انخفاض أسعار النفط اللاحق، واقتراب عودة تشغيل الخطوط الائتمانية.
إن تضخيم رقم الدعم يشير إلى وجود حصة هامة للفساد وللسوق السوداء من المال العام الذي يجب أن يخصص لدعم قطاع المحروقات بمستويات أعلى من ذلك، ويشير أيضاً إلى البروباغندا الإعلامية الزائفة التي تثيرها الحكومة حول قضية الدعم وتكاليفه.
الخدمات الأخرى.. الحكومة تتخلى عن قطاع الخليوي!
شهدت الخدمات الحكومية بمختلف أشكالها تغيرات في الأسعار باتجاه الارتفاع بنسب متباينة: المياه، الكهرباء، الاتصالات، رسوم التعليم بأشكالها مثل مبالغ مدفوعة للتقدم للامتحانات في كل المراحل، وصولاً إلى رسوم التعليم المفتوح، و مختلف الرسوم غير المباشرة. وكانت الطامة الكبرى التي اختتمت الحكومة السورية بها نهاية العام هو الوصول إلى تخلي الدولة عن حق ملكيتها في شركات الاتصالات الخليوية، حيث وافقت الحكومة في الساعات الأخيرة من عام 2014 على نقل عقود قطاع الخليوي من صيغة (بي او تي) إلى عقود "تراخيص"، وهو مايعني عملياً تنازل الدولة عن حصتها لصالح مالكي هذه الشركات في القطاع الخاص، بينما كان المفروض أن ترتفع حصة الدولة إلى 60% من إيرادات قطاع الخليوي في العام القادم بدلاً من 50% في الأعوام السابقة.

خلاصة
إن حالة الحرب كانت تقتضي أن تجد السياسات الاقتصادية طريقها لتعبئة الموارد المهدورة من الفساد والربح الكبير والسوق السوداء، عوضاً عن تعبئة الموارد من مخصصات السوريين لاستهلاك الخبز والسكر والأرز ومازوت التدفئة والنقل ومن الصناعيين والمنتجين الذين يدخل المازوت والفيول والبنزين في صلب عمليات إنتاجهم.
إن انحياز السياسات الحكومية خلال الأزمة لهوامير المال قد ازداد، وهذا نتيجة طبيعية، لعدم اتخاذ أصحاب القرار السياسي في الاقتصاد السوري لمواقف تنطلق من مصلحة عموم السوريين، بل كانت السياسة الاقتصادية خلال الحرب، كما قبلها، ليبرالية أي تنطلق من مصالح خاصة شديدة الضيق، وكانت نتيجة كل ذلك الوصول إلى المساس بكل الخطوط الحمراء، وذلك عبر رفع أهم الأسعار الأساسية التي تمس حياة المواطن السوري دون أي تعويض، وتحرير قطاع المحروقات، عبر السماح للقطاع الخاص باستيراد المحروقات، واستيراد النفط واستثمار المصافي الوطنية لإنتاجه، والوصول إلى تخلي الدولة عن حق ملكيتها في شركات الاتصالات الخليوية.