في الحرب.. تشوه الإنتاج والتوزيع
في الحرب يتراجع الإنتاج الاقتصادي إلى حد التوقف في بعض الحالات، ويتشوه بشكل كبير توزيع ما ينتج، بحيث تحمل الفئات الضعيفة، أي أصحاب الأجور بالتحديد الوزر الاقتصادي للحرب، مع أوزارها الأخرى..
وبينما تخطط الحكومة السورية لتحصيل رقم نمو وعائدات من تنشيط قطاع التصدير، فإن منابع الإنتاج الفعلي الذي ينجم عن تفاعل العاملين مع الموارد، متروكة تحت رحمة تشوهات كبرى، تؤدي إلى هدر تعب المنتجين، مضيفة أعداداً كبيرة منهم إلى عداد الفقراء والمحرومين مع كل دورة إنتاج جديدة، وإلى هدر الموارد والمال العام المتراكم من عمل السوريين السابق. ومقابل هذا فإن عوائد هذا الإنتاج تعود على دائرة أضيق من (الطفيليين) المستفيدين وهم الفئات الأسوأ من أصحاب رؤوس الأموال السوريين، أي ناهبي المال العام، وتجار الحرب والسوق السوداء والمضاربة، وبعض كبار قوى السوق، وهؤلاء يتداخلون مع بعضهم البعض. وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن أن يتحقق نمو أي زيادة في الإنتاج، وحتى إن تحقق فإنه لن يكون سوى رقم تتباهى به الحكومة، ولا يعود بالفائدة العامة.
فأين يستمر الإنتاج الفعلي للثروة الحقيقية خلال الحرب، وكيف تؤدي تشوهات توزيعه إلى توقفه التدريجي؟
منتجو الطاقة والفساد
فإذا ما كانت سورية خلال الحرب تستمر بالإنتاج فإنها تنتج بالحد الأدنى وفي قطاعات محددة، أهمها في قطاع الطاقة، حيث تستمر المصافي النفطية السورية بتكرير النفط الخام، والجزء الأساسي منه مستورد من إيران ومؤجل الدفع، حيث أنتجت المصافي السورية 9 أشهر من عام 2014 مقدار 4,3 مليون طن متري من المشتقات، باعتها بقيمة تفوق 400 مليار ليرة، وتستمر كذلك محطات إنتاج وتوليد الطاقة الكهربائية بعملها. ولكن إنتاج هذه الثروة الضرورية، يوزع بطريقة تحوله إلى عبء وخسارات على المال العام، وعلى أجور السوريين. حيث يساهم الفساد في تضخيم تكاليفه من جهة ليستولي على جزء من المال العام، وتحصل قوى التهريب وفساد التوزيع على النسبة الأكبر منه من جهة أخرى، لتستولي على مبالغ إضافية من جيوب أصحاب الأجور، وترفع مستويات الأسعار لتضعف من قيمة الليرة السورية الحقيقية.
فينتج عمال قطاعات الطاقة الثروة بالمال العام، ويمنع كل من الفساد والسوق السوداء، وصول عائدات فعلية لهذا الإنتاج إلى هؤلاء العمال، وإلى محدودي الدخل كافة.
المزارعون والتجار
تنتج ثروة جديدة أيضاً في الأماكن التي يستمر المزارعون السوريون فيها بإنتاج القمح والحبوب الأخرى، والخضار المختلفة وأنواع الأشجار المثمرة الأهم مثل الحمضيات والزيتون وغيرها. كما تستمر تربية الدواجن وإنتاج لحومها والبيض، وتربية المواشي وإنتاج اللحوم والحليب ومشتقاته في الأماكن الآمنة وبالكميات المتاحة. وبينما ينتج المزارعون هذه الثروات، فإن الجزء الأكبر من إيراداتها يهدر في قنوات التوزيع أيضاً، أي لدى تجار تأمين المستلزمات الذين يرفعون تكاليف شراء المزارعين للمستلزمات، أو كبار تجار سوق الهال وأسواق الجملة، الذين يخفضون سعر بيع المزارعين للمنتجات. وهذا يؤدي مع الوقت إلى تراجع قدرة المزارعين على الإنتاج، وتحديداً مع تكرار حالات الخسارة لمواسم متتالية كما في حالة الزراعة المحمية، حيث خسرت زراعة البندورة المحمية نصف عدد البيوت البلاستيكية المزروعة خلال عامين، والمزارعون أنتجوا مواسم ولم يحصلوا على أي عائد، وبينما حالات أخرى لزراعة أراض صغيرة بالخضار كلفت 90 ألف ل.س، وحصلت للمزارعين 65 ألف ل.س على سبيل المثال.
ينتج المزارعون الثروة، ويعود الجزء الأكبر من إيراداتها إلى السوق النظامية المحمية بقوانين تبيح الاحتكار، وتسمح لقطاع التجارة المتضخم بالاستيلاء على عوائد المزارعين، وجزء هام من أجور ضعفاء المستهليكن كذلك.
الصناعة وأجورها
أما الموضع الثالث الذي يستمر فيه إنتاج الثروة، فهو قطاع الصناعة، حيث تستمر بعض معامل القطاع العام بالإنتاج من المال العام، يعيقها عدا عن ظروف الحرب، الفساد ونهب المال العام ونقص العمال وتأخر استلام المستلزمات، ويحكمها القرار الحكومي بالتعويل على (مشاركة) القطاع الخاص، من التشارك بتأمين المستلزمات وصولاً إلى التعاقد بكل صيغه. ويستمر بالإنتاج بعض قليل من شركات القطاع الصناعي الخاص الكبرى -بعد أن سمحت القوانين لجزء هام من الصناعيين بالهرب بأموالهم خارج حدود البلاد-،وتعيقهم الظروف الأمنية، وارتفاع التكاليف وآخرها (العناية) الحكومية التي طالت الصناعيين بتحرير أسعار محروقاتهم التي سيستوردها القطاع الخاص. أما الجزء الأكبر من المستمرين بالإنتاج الصناعي البسيط فهو من أصحاب المنشآت الصغيرة، تعيقهم منافسة المستوردات، وارتفاع التكاليف بأكثر من قدرتهم على الاحتمال، ولكنهم لا يملكون حلاً سوى محاولة البقاء على قيد الإنتاج. بينما يعتمد القطاع الخاص الصناعي بصغيره وكبيره من المنشآت على انخفاض تكلفة الأجور، وغياب أي قانون يلزم بأي حد أدنى للأجور، أو عدد ساعات العمل، فيشغل أطفال ومراهقين لمدة 10 ساعات عمل يومية، بأجور تتراوح بين 9-11 ألف ليرة شهرياً. وبينما يتراجع الجزء الهام من الإنتاج الصناعي الاستراتيجي لدى معامل القطاع العام في الأسمدة، والأسمنت والفوسفات، فإن المستوردات تشارك منتجات القطاع الخاص الصناعي الرئيسية من الصناعات الغذائية، والكيميائية، والنسيج والألبسة.
أي ينتج العمال في معامل الدولة، ومعامل القطاع الخاص وورشه، إنتاجاً بالحد الذي تتيحه الظروف، بينما تشكل أجورهم المنخفضة، القاعدة الرئيسية لاستمرار الإنتاج الصناعي بالحدود الدنيا الممكنة في ظروف ضغط التكاليف.
إذن تتم عملية الإنتاج الحقيقي في هذه المواضع الثلاثة بشكل أساسي، ويتفاقم في ظروف الحرب التناقض في هذا الإنتاج، حيث تنتج الثروة الجديدة من استغلال منتجيها الحقيقيين، ويوزع الجزء الأكبر من مواردها لمعيقي العمليات الإنتاجية.