ما يختفي خلف الاحتجاجات الشعبية في الغوطة الشرقية..  الاستيراد والمضاربات قطعت أرزاق العاملين في صناعة الموبيليا والمفروشات
يوسف البني يوسف البني

ما يختفي خلف الاحتجاجات الشعبية في الغوطة الشرقية.. الاستيراد والمضاربات قطعت أرزاق العاملين في صناعة الموبيليا والمفروشات

تعرضت المهن والحرف السورية وتحديداً في العقد الأخير، لمجموعة من الصعوبات والمعوقات والمشكلات التي قضت على الكثير منها، وجعلت الباقي منها يعاني من تهديد خطر الانقراض.. وبالتأكيد فإن استمرار السياسات الحكومية في تجاهل مصالح الشرائح العاملة في هذه المهن، ومحاباة كبار الناهبين والفاسدين والتجار والمستثمرين، على حساب لقمة عيش السواد الأعظم من الشعب السوري، ومن بينهم المهنيون والحرفيون.. هو ما أجج الاحتقان الاجتماعي، ودفع به إلى الانفجار.

تنويه ضروري

منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينيات منه تعرضت الصناعة الوطنية وشركات القطاع العام للنهب والفساد، وظهر الأثرياء الجدد الذين ملؤوا جيوبهم بما سرقوه من المال العام، وبعد منتصف الثمانينيات وحتى مطلع هذا القرن ظهرت الصناعات المنافسة للقطاع العام من القطاع الخاص، والتي أسس معظمها ناهبو الشركات العامة والمال العام، لتبييض أموالهم، ومراكمتها عبر القضاء التام على الصناعة الوطنية والقطاع العام وشركاته الصناعية، مثل النسيج والسكر والأسمنت. وحين انتعش القطاع الخاص الصناعي وبدأ يشارك في الاقتصاد الوطني، ترك الصناعيون الكبار صناعاتهم واتجهوا للربح الأسرع الذي يعتمد على الجهد الأقل، فبدؤوا يستوردون من تركيا والصين بديلاً لمنتجاتهم التي كانوا يصنعونها محلياً، وأغرقوا الأسواق السورية بالبضائع المستوردة، ما أدى إلى توقف الكثير من الصناعات في القطاعين العام والخاص، ومغادرة الكثير من المواطنين السوريين لأعمالهم لينضموا إلى جيش العاطلين عن العمل الذي يزداد عاماً بعد عام، لتنقطع لقمة عيش الكثير من الأسر السورية بسبب فقدانها عملها ومورد رزقها الوحيد. ومن هذه الصناعات والحرف التي هددها الاستيراد وقضى على جزء كبير منها وشرد عمالها وحرفييها، مهنة صناعة الموبيليا والأثاث والمفروشات، التي اشتهرت سورية بإتقانها والإبداع فيها فناً وجودةً وتنوعاً.

حرفة الموبيليا عبر التاريخ

صناعة الأثاث (الموبيليا) هي حرفة قديمة تاريخياً، ومتنوعة ومتفرعة بشكل واسع، والسبب الأساسي في قدَمها واستمرارها هو توفر المادة الأولية الأساسية وهي الخشب، إضافة إلى الفن والتمدن والخبرة المهنية التي يتمتع بها الحرفي السوري، حيث أضفى عليها حساً مرهفاً وذوقاً رفيعاً، وقد برع الحرفيون السوريون في هذه الحرفة عبر التاريخ، وتدل على ذلك روائع القاعات الدمشقية. ويستخدم الحرفيون أخشاب الحور والجوز والزيتون والمشمش والتنوب والعرعر والدردار والشربين والميس، وقبل ذلك استخدموا خشب الصنوبر والسرو والصندل، كما استوردوا الزان والأكاجو والشوح والسنديان.

وفي حرفة صناعة الموبيليا والأثاث يتم تنفيذ بعض الأعمال على الخشب لتحويله إلى أشكال نابضة بالحياة، مثل الحفر والتخريم والتخريق، وذلك بتفريغ الخشب على شكل لوحات تمثل رسوم نباتات وأزاهير معينة أو حيوانات أو طيور، أو عملية الخراطة الخشبية أو التطعيم بالصدف والعظم والقصدير والنحاس والفضة، أو التنزيل على الخشب مثل أعمال الموزاييك الشبيهة بالفسيفساء، والتي تعتمد على الزخارف الهندسية الدقيقة والكتابات المخطوطة، وأعمال المقرنصات والخيط العربي.

لم تتعرض هذه المهنة للنهب والفساد مثل باقي الصناعات السورية، ولكنها في مرحلة التدمير شاركتها المصير نفسه، بسبب المضاربات ومنافسة البضائع المستوردة. وواجهت هذه الحرفة، وخاصة في العقد الأخير، الكثير من الصعوبات والمعوقات والسياسات الاقتصادية الهدامة، التي كادت أن تتسبب بانقراض هذه المهنة الموغلة في أعماق التاريخ، والتي تُعتبَر المصدر الأساسي لأرزاق الكثير من العائلات السورية، التي فقدت مع تراجعها مصدر رزقها ومعيشتها..

وللوقوف على حقيقة هذه الصعوبات والمعوقات، زارت «قاسيون» تجمُّعاً لمشاغل الموبيليا والمفروشات في منطقة سقبا، القريبة من دمشق والتي شهدت العديد من الاحتجاجات الشعبية، وكانت لنا اللقاءات التالية:

إغراق السوق بالمستورَد قطع الأرزاق

ـ أحد أصحاب مشاغل تصنيع الموبيليا قال: «المشكلة الكبرى التي واجهتها صناعة الموبيليا والأثاث والمفروشات السورية هي استيراد المفروشات التركية الجاهزة، فعندنا في الورشة مثلاً، يستغرق تصنيع غرفة النوم ثلاثة أسابيع وحتى الشهر، يعمل فيها أربعة عمال على الأقل في التصنيع، أي معيشة أربع أُسَر، وأربعة أو خمسة عمال في الحفر، وبعدها يأتي دور البخّاخ، أيضاً يعمل فيها أربعة أو خمسة عمال، وفجأة التجار يستوردون الأثاث التركي الجاهز، حاوية واحدة تحوي خمسين غرفة نوم، وهذه العملية تخرب بيت أكثر من عشرين عاملاً استغنينا عن عملهم، يعني قطع رزق أكثر من عشرين أسرة. وهذا بالنسبة لمشغل واحد فقط، وفي سقبا وحدها هناك ما يزيد عن مائة مشغل، يعني مئات الأسر انقطع رزقها بسبب استيراد الأثاث التركي الجاهز. ومثلها الكثير في حمورية وعربين وداريا، وهنا أريد أن أؤكد حقيقة يعرفها الموجودون جميعاً: وهي أن المواطنين الذين خرجوا في تظاهرات الاحتجاج والمطالبة بالإصلاح، كان سبب خروجهم الرئيسي هو قلة العمل وقطع أرزاقهم، واحتجاجاً على السياسات التي كانت تتّبعها الحكومة غير آخذة بعين الاعتبار مصلحة المواطن ولقمة عيشه».

ـ صاحب معرض مفروشات قال: «المشكلة الأخطر التي ظهرت فيما بعد هي أن هذا الأثاث التركي ذو أمبلاج جميل، وأشكال تأسر العقول مباشرة، مع أنها رخيصة الثمن مقارنة بالصناعة المحلية، فسعر غرفة النوم المحلية بحدود 150 ألف ليرة سورية، والتركية بـ75 ألف مع الربح، والزبون لم يعد مقتنعاً بالصناعة المحلية، ويقول: التركي أجمل، والتركي أرخص، والناس يحبون المظاهر ويتباهون أن أثاثهم تركي، ولكن البضاعة التركية لا تخدم أكثر من سنة أو سنتين على أكثر احتمال، وبعدها سيضطر المستهلك لشراء غيرها، بينما الصناعة المحلية مكفولة لأكثر من عشر سنوات، هذا يعني أن الضرر قد طال المنتج المحلي والمستهلك معاً، وحتى تجارتنا بالأثاث التركي لم تعد تطعمنا الخبز، فنحن أوقفنا التصنيع المحلي وبدأنا نستورد بشكل نظامي، وندفع الرسوم الجمركية، ونحسب هامش ربح معقول، ومع ذلك نجد هناك تجاراً كباراً يطرحون بالسوق بضاعة بشكل كبير وغزير، ويبيعون البضاعة بأقل كثيراً من السعر الذي نرضى به، وقد عرفنا أخيراً أن هؤلاء هم شبّيحة التجارة، الذين يدخلون البضاعة إلى البلد دون جمارك، ودون حتى أجور نقل وتخليص وشحن».

الدور المفقود للدولة

ـ صاحب مشغل آخر قال: «لحماية هذه الصناعة وغيرها من الصناعات الوطنية، على الدولة أن تتحمل المسؤولية وتستعيد دورها الرعائي، وتتدخل لتأمين الآلات والخشب وكل المواد الأولية بالسعر المقبول، وأهم من كل شيء أن تحمينا من مضاربات التُجار وشبّيحة التجارة، وتخفف عنا الرسوم الجمركية على الخشب وتعفيه من جزء من الضرائب العالية. عندنا في سقبا وفي المنطقة المحيطة بشكل عام وحتى عام 2005 كان أكثر من 90% من المواطنين يعملون في المفروشات، والآن بعد ضرب المهنة ودخول البضائع التركية والصينية، الكثير من العاملين بالمهنة انقطع رزقهم وقعدوا في بيوتهم بسبب توقف الحاجة للعمل اليدوي».

ـ أحد أعضاء الجمعية الحرفية قال: «عندنا في حرفة صناعة الأثاث والمفروشات الخشبية والموبيليا يوجد أيد عاملة ماهرة جداً، ولدينا كفاءات ممتازة من نجارين وبخّاخين وحفارين ومصممين، وهناك شريحة كبيرة من المهنيين في هذه الحرفة نشأؤوا عليها منذ طفولتهم، ومعظمهم لم يتعلموا في المدارس وورثوا هذه المهنة أباً عن جد، وتعلموها منذ سن السبع أو الثماني سنوات، فكانت هي لقمة عيشهم الوحيدة على مدى عشرات السنين. أول صعوبة بدأنا نواجهها هي أسعار الخشب الغالية جداً، والتي تصل في أغلب الأحيان إلى خمسة أو ستة أضعاف سعرها من مصدرها الأساسي، فسعر المتر المكعب من خشب الزان الذي يستورده التجار من رومانيا مثلاً ستة ألاف ليرة سورية، ولكنه يصل إلينا بأكثر من 27 ألف ليرة سورية، لماذا لا تضبط الدولة أرباح التجار؟ مع أن الرسوم الجمركية على الأخشاب ليست عالية، لأنها مواد أولية، ولا تسمح الدولة باستيرادها سوى لأشخاص محددين، وهؤلاء التجار يحصلون على هوامش ربح خيالية».

ـ عضو آخر في الجمعية الحرفية قال: «المشكلة الثانية هي مشكلة المكنات، حيث كنا نحصل عن طريق الدولة على مكنات إيطالية متعددة الوظائف، فيها رابوب ومنقرة وكل أعمال تشكيل الخشب، وكان سعرها 25 ألف ليرة سورية، وفجأة أُوقفت المكنات الإيطالية وظهر مكانها المكنات الحلبية، وكان فيها مشاكل كثيرة لا تؤدي الوظائف الشاملة، ولا تعطي عملاً دقيقاً، واليوم وصل سعر المكنة الإيطالية إلى 400 ألف ليرة سورية، ومع ذلك فالدولة لا تستوردها ولا تسمح لنا باستيرادها بحجة أنه يوجد مثلها صناعة محلية».

مشكلات وصعوبات جانبية

ـ صاحب معرض مفروشات قال: «منذ فترة طويلة لم تول الدولة أي اهتمام لهذه المصلحة، ولا لهذه المنطقة بشكل عام، وهناك إهمال كبير في النواحي الخدمية، فمثلاً، نظراً لإهمال الدولة لهذا النشاط، اضطررنا في العام الماضي لتشكيل تجمُّع صغير لمشاغل الأثاث المتعددة، وأقمنا معرضاً مشتركاً محدوداً، بينما هذه المهنة تستحق أن يقام لها معرض سنوي لتعريف المستهلك بالصناعة الوطنية، ودعمها وتشجعيها، ومع ذلك فقد قامت البلدية بحفر الطريق أمام المعرض بحجة تمديد الصرف الصحي، وبقي الطريق محفوراً أكثر من ثلاثة أشهر، فكيف بهذا الشكل سيأتي الزبون إلى المعرض؟ واشتكينا كثيراً وماطلت البلدية، وبعد ثلاثة أشهر تم ردم الحفرة دون تزفيت أيضاً لأكثر من ثلاثة أشهر، وقد ذقنا الجحيم بسبب ذلك، ففي الأيام الماطرة وحول ومخاضات مقززة، وفي الأيام الجافة غبار وأوساخ لا تُحتمَل، وحين زفتت البلدية الطريق اتّبعت سياسة الترقيع، كما في كل شيء، فشوهت الزفت وشوهت الرصيف، وهذه التصرفات لا تخدم البلد بل تخلق روح الاشمئزاز عند المواطن».

حيتان الحرفة

ضربة أخرى لهذه الحرفة جاءتها من الداخل، حيث شهدت سوق المفروشات والأثاث في سورية، في العام الماضي، حركة مرتفعة جسدتها شركة (مدينة المفروشات) التي تعتمد على إنتاج المعمل الخاص بها، وتملك خمسة فروع في لبنان ومكتب تمثيل في قَطَر، وتسعى لافتتاح فرعين في السوق العراقية والمصرية، وتعمل الشركة في كل مجالات الموبيليا من غرف نوم الأطفال والمكاتب والتجهيزات المنزلية (الكلاسيك والمودرن)، وتُصنَع كل هذه الأنواع في بيروت ضمن معامل مدينة المفروشات، التي لا يعلم أحد من أين أتت الأموال التي يتم تبييضها عبر هذه الشركة التي تميزت بأنه لا يوجد لها مُنافسٌ، كونها تملك تشكيلة كبيرة جداً ومعملاً ذا إمكانية فريدة. بينما صناعة المفروشات السورية ومحترفاتها عموماً، لم تتطور إلى درجة تنافسية، رغم متانتها وجودتها، ومازال يعيبها قلة كمية الإنتاج ضمن ورشاتها».

باختصار شديد

يكمن تأثير البضاعة المستوردة على السوق الداخلية والصناعة الوطنية بوجود دخلاء يعملون ضمن المهنة، وليس همهم تطوير المهنة أو تشغيل اليد العاملة، بل تحقيق أكبر قدر من الأرباح الفاحشة ضمن أوقات قياسية، حتى ولو أدى ذلك إلى إغلاق الورش وصالات البيع وتشريد العاملين في المهنة وقطع أرزاقهم، فهل مازال هنالك من يستغرب لمَ وصل الاحتقان الاجتماعي والامتعاض من السياسات الاقتصادية وظاهرة الفساد إلى الحد الذي يتجلى التعبير عنه اليوم بالمظاهرات والاحتجاجات التي تملأ البلاد وتطالب بالحرية ومحاربة الفساد وتأمين لقمة العيش الكريمة؟!!