المواجهة الدولية ومستقبل اتفاق غزّة

المواجهة الدولية ومستقبل اتفاق غزّة

تتجه الأنظار بكثافة إلى التطورات المتسارعة في القطاع؛ فرغم كل المسائل المتعلقة بسير الاتفاق الأخير والعقبات الحقيقة التي تواجهه، يظهر أن خيارات «إسرائيل» والولايات المتحدة تضيق، وهو ما يفسر أن ما جرى تنفيذه من الاتفاق كان خياراً إجبارياً ومؤشراً على حجم الأزمة، ويَفترض أن المرحلة القادمة ستكون أصعب؛ فالخيارات المطروحة على الطاولة بما فيها استئناف الحرب لن تكون سهلة، وتحديداً إذا ما نظرنا إلى المشهد الدولي والجبهات المشتعلة فيه.

ترتكز المرحلة الأولى من الاتفاق على وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 10 تشرين الأول الجاري، وتشمل عملية تبادل واسعة للأسرى بين الطرفين. وقد جرت المفاوضات غير المباشرة التي أفضت إلى هذا الاتفاق في شرم الشيخ، بمشاركة فاعلة من تركيا ومصر وقطر، على أساس المبادرة الأمريكية. ورغم أن تنفيذ المرحلة الأولى بدأ على الفور، إلا أنه سرعان ما اصطدم بتحديات معقدة تهدد استمرارية الهدنة بأكملها.

خلافات حول ملف الأسرى وخروقات متكررة

بدأت عملية تبادل الأسرى بحسب الاتفاق، وتمت بنجاح نسبي في أيامها الأولى، حيث تم تبادل أعداد كبيرة من الأسرى من الجانبين، فتسلّمت «إسرائيل» 20 أسيراً حياً، بالإضافة إلى 13 من أصل 28 جثة، وأطلق الكيان بالمقابل سراح أسرى تم اعتقالهم في قطاع غزة منذ بدء الحرب في 8 أكتوبر 2023 إلى جانب 250 أسيراً من أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، فيما أفاد «مكتب إعلام الأسرى» التابع لحركة «حماس» بأنه تم نقل 154 من الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم والمبعدين إلى الخارج إلى مصر، وذلك لإتمام إجراءات الإفراج النهائية عنهم. لكن إتمام الاتفاق يواجه محاولات «إسرائيلية» متكررة لإعاقته؛ إذ برزت نقطة خلاف رئيسية حول تسليم جثث الأسرى المتبقين في القطاع. وعزت حركة «حماس» التأخير إلى مشاكل لوجستية، مؤكدة حاجتها إلى «معدات متطورة وآليات ثقيلة» لانتشال الجثامين من تحت أنقاض المباني المدمرة. بالمقابل، ربطت «إسرائيل» فتح معبر رفح، الذي كان من المقرر فتحه ضمن المرحلة الأولى، بتسلم جميع جثث أسراها، وأعلن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن المعبر سيظل مغلقاً، وأن الحكومة تدرس «فرض عقوبات إضافية» على غزة في محاولة لتعقيد المشهد.

لم تكن فترة وقف إطلاق النار هادئة تماماً، بل شهدت سلسلة من الحوادث والقرارات الأحادية التي عمّقت انعدام الثقة، وأثارت شكوكاً جدية حول مستقبل الاتفاق. فمنذ بدء سريان الهدنة، تم توثيق خروقات «إسرائيلية» متكررة، أدت إلى استشهاد ما لا يقل عن 38 فلسطينياً في 47 خرقاً موثقاً شملت عمليات إطلاق نار مباشر وقصف مدفعي. وتستند «إسرائيل» في هذه الاعتداءات على «الخط الأصفر» الذي انسحبت قواتها إلى حدوده، وتهدد بإطلاق النار على كل من يتجاوزه.

الاتفاق واللوبي «الإسرائيلي»

منذ بدأ الرئيس الأمريكي ترامب حديثه عن الاتفاق، برزت أصوات من داخل الكيان تعمل بشكلٍ معلن على إعاقة تنفيذه، ما دفع إلى السطح سؤالاً محقاً حول مدى قدرة الرئيس الأمريكي الحالي على العمل بعكس الرغبة «الإسرائيلية»، وتحديداً ما يعنيه ذلك من ضغوط كبرى للوبي «الإسرائيلي» في واشنطن، وبالأحرى اللوبي الصهيوني، فدور هذا اللوبي ووزنه معروف ولا يمكن إنكاره، لكن تصوير المسألة بهذا الشكل لا يكفي لفهمها؛ فاللوبي الذي يجري الحديث عنه هو لوبي صهيوني، وعلى أجندته كثير من المسائل لا تنحصر في فلسطين المحتلة، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا كبرى تخص مجمل السياسية الأمريكية، نظراً لكون هذا اللوبي ممثلاً لمصالح أكبر بكثير من نتنياهو وحكومته، ترتبط برأس المال المالي الإجرامي العالمي، وفي هذا السياق يلعب هذا اللوبي دوراً داخل دوائر صنع القرار الأمريكية، ويبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة، وهو عامل ملموس في الانقسام الأمريكي، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يمكن فعله الآن في غزّة ومنطقة غرب آسيا؟ فقائمة الأمنيات الصهيونية يمكن أن تكون طويلة، لكنّها محكومة في نهاية

المطاف بتوازنات سياسية تتغير بشكلٍ متسارع بالضد من مصلحة الولايات المتحدة، فحركة حماس مثلاً كانت عاملاً مهماً بالتصدي للمشروع الأمريكي، وإنهاؤها كان بنداً في قائمة «الأمنيات»، لكن الحرب المستمرة، ورغم كل الموارد التي جرى توظيفها لذلك، لم تحقق هذا الهدف ولا تزال بعيدة عن ذلك، وتفسير ذلك لا يعتمد على وزن وقدرة حماس التنظيمية العالية فحسب، بل على كونها جسماً ينتمي إلى فضاء آخر بالمعنى السياسي، وله روابط مادية واضحة مع مجموعة من القوى الإقليمية والدولية، التي تتقاطع معه بضرورة مواجهة المشروع الأمريكي-«الإسرائيلي».

من هذه الزاوية تبدو الهدنة ممراً إجبارياً؛ فالحرب في غزّة تحديداً، قد تحوّلت بشكل طبيعي لتكون واحدة من ساحات المواجهة على المستوى الإقليمي والدولي الواسع، وبالتالي لا يمكن فصلها عن الجبهات الأخرى في أوكرانيا ووسط آسيا وأفريقيا، فإن كان الصراع الدائر على المستوى العالمي اليوم صراعاً واحداً يتجلى بأشكال مختلفة، فيجب على من يدير الصراع أن يدير الموارد بشكلٍ مركزي، وعلى هذا الأساس كل صاروخ يجري ضربه في أي منطقة من العالم يخرج فعلياً من «مستودع» واحد، وعلى أمناء هذا «المستودع» التفكير بشكلٍ استراتيجي، وخصوصاً مع الضربة الصينية الجديدة في تقييد إمدادات معادن الأرض النادرة، التي ستؤدي إلى عقبات في وجه الصناعات العسكرية الغربية، لن يكون بالإمكان تجاوزها في الآجال القريبة.

ما سبق، لا يعني أن الاتفاق الأخير في غزّة سينجح بالضرورة؛ فهو من حيث السياق تعبير عن ضرورات لا يمكن تجاهلها، ولكنه لا يمكن أن يتحول إلى حلٍ دائم، لا لكون إنهاء الحرب يتطلب حلاً حقيقياً وعادلاً للقضية الفلسطينية فحسب، بل لكونه خطوة ضمن صراع واسع وشامل على المستوى العالمي، والمطلوب اليوم لا إنهاء الصراع، بل فعلياً تخفيف حدته، ما يعني محاصرة قدرة الطرف الأمريكي عبر تقييد الموارد اللازمة لإدارة الصراع الشامل.

بالمحصلة، فإن «الإسرائيلي»، ومعه الأمريكي، يعيش استعصاءً حقيقياً بما يخص منطقة الشرق الأوسط ككل؛ ولهذا فإنه غير قادر على إتمام الاتفاق وإنهاء الحرب بشكل كامل، لأن هذا يعني إقراراً بالهزيمة السياسية، وإقراراً بانتهاء أي أمل في مشروع الشرق الأوسط الجديد، مع ما يحمله الأمر من تداعيات كبرى بالمعنى السياسي، وهو في الوقت نفسه غير قادر على متابعة الحرب المفتوحة على غزة، لأن آفاقها بالمعنى السياسي قد أغلقت تماماً، فلا التهجير ممكن، ولا إنهاء المقاومة ممكن، ولا الوضع الدولي والإقليمي يسمح بمتابعة الإبادة الجماعية، بل وسيكون مضراً جداً بأي محاولة أمريكية لإدارة تراجعها في المنطقة...

وعليه، فإن السيناريو الذي ربما يكون الأكثر ترجيحاً، هو أن الاتفاق سيبقى في وضع هو بين بين، فلا يتم تطبيقه بشكل كامل، ولا يتم خرقه بشكل كامل وعودة للحرب المفتوحة... على الأقل هذا ما يبدو مرجحاً ضمن الأشهر القليلة القادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1248