ما سرّ فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك؟
معتز منصور معتز منصور

ما سرّ فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك؟

ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية بانتصار زهران ممداني، الذي وُصف بـ«المسلم المهاجر»، أو «اليساري الراديكالي»، أو ببساطة «مرشح الحزب الديمقراطي لعمدة نيويورك». حصل ممداني على 50% من الأصوات، مقابل 41% لأقرب منافسيه أندريه كومو. وقد سارعت العديد من الوسائل الإعلامية إلى تفسير هذا الانتصار من خلال ثنائيات مألوفة مرتبطة بالانقسامات داخل المجتمع الأمريكي، وركزت على الصفات المتعددة التي تتقاطع في شخصيته.

لكن وراء هذه التوصيفات السريعة، تكمن عوامل أعمق وأكثر جوهرية ساعدت في وصول هذا الأمريكي من أصول هندية، المسلم البالغ من العمر 34 عاماً، إلى قيادة أكبر مدن الولايات المتحدة. فما هو البرنامج الانتخابي الذي قدّمه؟ ولماذا أثار هذا الفوز كل هذه الضجة؟

المسيرة السياسية والبرنامج الانتخابي

بدأ زهران ممداني مسيرته كمنظّم مجتمعي في حملات «حياة السود مهمة» و«احتلوا وول ستريت»، قبل أن ينضم عام 2017 إلى منظمة «الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين» (DSA).

اعتمده على تمويل جماهيري واسع النطاق، جمع خلاله تبرعات صغيرة من آلاف المتبرعين، ما مكّنه من الحفاظ على استقلاليته وعدم الخضوع لأجندة الممولين الكبار أو مراكز النفوذ التقليدية.

وجاء برنامجه الانتخابي واضحاً ودعا إلى:

·       الإسكان العادل: بناء 100 ألف وحدة سكنية عامة خلال 4 سنوات، وتجميد الإيجارات.

·       إصلاح الشرطة والأمن: خفض ميزانية الشرطة بنسبة 20%، وإعادة توجيه 1.5 مليار دولار نحو الصحة النفسية والتعليم.

·       العدالة المناخية: حظر الوقود الأحفوري بحلول عام 2030، وخلق 50 ألف وظيفة «خضراء»، وفرض ضريبة كربون محلية.

·       الاقتصاد والعمال: رفع الحد الأدنى للأجور إلى 25 دولاراً في الساعة، ودعم النقابات، وفرض ضرائب تصاعدية على الشركات والأثرياء.

·       الرعاية الصحية والتعليم: توسيع نطاق الرعاية الصحية المجانية، وإلغاء وجود الشرطة في المدارس، وتمويل مجاني للجامعات العامة.

·       العدالة الاجتماعية: دعم المهاجرين، ومكافحة التمييز العنصري، وتبني سياسات «السلام العالمي»، بما في ذلك وقف المساعدات العسكرية لـ«إسرائيل.«

الصراع الطبقي: جوهر القضية

العامل الأساسي الذي لا يمكن فهم الانتصار من دونه هو العودة إلى جوهر الصراع. فالمؤشرات الاجتماعية والاقتصادية لمدينة نيويورك تظهر التفاوت الطبقي وتراكم البؤس في جانب والثروة في الجانب الآخر:

·       نسبة 1% من السكان يمتلكون 40% من ثروة المدينة.

·       نحو 4.2 مليون شخص (أي 50% من السكان) يدفعون أكثر من 30% من دخلهم على الإيجارات.

·       1.5 مليون شخص (18% من السكان) يعيشون تحت خط الفقر الرسمي (أقل من 15 ألف دولار سنوياً للفرد).

·       معدل بطالة الشباب (18–34 عاماً) بلغ 12% في 2025، أي أكثر من ضعف المعدل الوطني.

·       نسبة 40% من السكان يعانون من نقص في الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، خاصة في الأحياء الفقيرة.

هذه الأرقام، وغيرها الكثير، تُظهر بوضوح التفاوت الطبقي الصارخ. وقد سعت القوى المهيمنة إلى التعتيم على هذا الواقع، وفرضت على الخطاب العام ثنائيات ثقافية ودينية وعرقية لصرف الأنظار عن الجذور الاقتصادية-الاجتماعية للصراع. لكن فوز ممداني أعاد الصراع الطبقي إلى الواجهة، وأعاد الأمل بإمكانية تحقيق انتصارات حقيقية للطبقة العاملة والعدالة الاجتماعية.

مهاجر مسلم في زمن ما بعد 11 سبتمبر

كيف يمكن تفسير صعود الممداني ذي الأصول الهندية – المسلمة في نيويورك بعد ربع قرن من أحداث 11 سبتمبر وما جرى بعدها من شيطنة الإسلام والشرق عموماً، الممداني والذي يعتبر أول مسلم منتخب في الجمعية التشريعية لولاية نيويورك، لا شك أنه لاقى تعاطفاً من المهاجرين و«الأقليات» ودعماً منهم ولكن ليس لأنه يشبههم في اللون أو الدين... إلخ، بل الأهم أنه يشبههم في الفقر والتمييز والاستغلال وأكثر من ذلك لأنه شاركهم وقاد العديد من التحركات العمالية والمطلبية.

نيويورك والمجتمع اليهودي: اختبار للصراع الطبقي

ومن المفارقات المهمة أن نيويورك تضم أكبر تجمع يهودي خارج «إسرائيل»، إذ يعيش فيها نحو 2.1 مليون يهودي، منهم 1.2 مليون في المدينة نفسها. ومع ذلك، تُظهر الإحصائيات الانتخابية أن 20–30% من سكان الأحياء ذات الكثافة اليهودية العالية (مثل ويليامزبيرغ وبروكلين) صوّتوا لممداني.

هذا التصويت تعبير صريح عن طبيعة الصراع الحقيقي: صراعٌ طبقي بين أصحاب المليارات من جهة ومنتجي الثروة الحقيقية من جهة أخرى. وقد جاء هذا الدعم رغم موقف ممداني الواضح المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني وداعيه إلى السلام العادل.

الثنائية الحزبية؟

رغم تصنيفه كمرشح ديمقراطي، لم يفز ممداني بفضل دعم الحزب، فحتى قيادة الحزب الديمقراطي لم تؤيّد برنامجه الجذري. وفي المقابل، لم يُنادِ ترامب بدعم المرشح الجمهوري، بل دعا سكان نيويورك لدعم المرشح المستقل كومو، بدعم من شخصيات مثل إيلون ماسك.

هذا يعكس تآكل الثنائية التقليدية بين الديمقراطيين والجمهوريين، التي لم تعد قادرة على تفسير الخريطة السياسية الأمريكية الجديدة. وفوز ممداني قد يكون مقدمة لانهيار هذه الثنائية في ولايات أخرى، خاصة مع تصاعد خيبة أمل الشباب من الطبقة السياسية التقليدية.

فـنسبة 60% من ناخبي ممداني كانوا من الشباب بين 18 و35 عاماً، وهي إشارة قوية إلى استياء جيل كامل من النظام القائم.

هل هو انتصار حقيقي؟

قبل أن يتسلم منصبه، بدأت التكهنات: هل سينجح؟ هل فشل؟ هل سمحت له النخبة الأمريكية بالوصول كدليل على «ديمقراطية» النظام، أم كمناورة لتبييض وجهه؟

الإعلام غارق في تحليلات تسعى لفهم هذه «الظاهرة» باستخدام أدوات تحليل قديمة. لكن الأهم من كل ذلك هو أن فوز زهران ممداني، ببرنامجه الجريء وتمثيله للطبقات المقهورة، يُعد علامة فارقة في التاريخ السياسي الحديث.

سواء استمر في منصبه، أو وُوجه بمحاولات قمع أو تحييد، فإن تجربته تبقى انتصاراً رمزياً وعملياً للطبقة العاملة، وتجربة استثنائية ترسم ملامح عالمٍ قادم أكثر عدالةً.