أزمة سياسية في فرنسا: الجمهورية الخامسة في اختبار البقاء!

أزمة سياسية في فرنسا: الجمهورية الخامسة في اختبار البقاء!

تشهد فرنسا خريفاً ساخناً هذا العام. ففي التاسع من أيلول عيَّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حليفه اليميني سيباستيان لوكورنو رئيساً للوزراء. ولأن العنجهية اليمينية كثيراً ما تُفقد شخصيات مثل لوكورنو القدرة على تقدير حجم الاستياء الشعبي وأثره، أعلن الأخير عن حكومة جديدة لا تُظهر أي ميل للتوافق مع قوى المعارضة، فواجه اعتراضاً واسعاً من الحلفاء والمعارضين في برلمان لا تحظى فيه أي كتلة بأغلبية حاسمة. كانت الحكومة مهدَّدة بحجب الثقة عاجلاً أم آجلاً، فاستقال لوكورنو بعد أقل من شهر على تعيينه، لكن ماكرون أعاده إلى رئاسة الوزراء في العاشر من تشرين الأول الجاري، متحدّياً موجة الاحتجاجات التي أثارتها إعادة تعيينه.

فما أهم التوافقات الجديدة التي أنقذت الحكومة؟ وهل ستصمد طويلاً إن كانت إصلاحاتها شكلية؟

تقول كثير من وسائل الإعلام الفرنسية: إن ما أُنجز من خلال التصويت الأخير ليس فقط إنقاذ الحكومة الهشّة، بل الأهم إنقاذ ما تبقّى من سنة ونصف من ولاية ماكرون الرئاسي، أمّا عن الحليف الخفي الذي مدّ يد العون للوكورنو، فهم الاشتراكيون الديمقراطيون الذين باتوا، في كثير من الدول الأوروبية، «بيضة القبان» للقوى اليمينية التي تدّعي الوسطية ككتلة ماكرون.

وقد تمكّن رئيس الوزراء من كسب عدد معتبر من أصواتهم في البرلمان مقابل أمرين:

الأول: تأجيل النظر في قانون تعديل سن التقاعد إلى عام 2027.

الثاني: فرض ضرائب على الأثرياء.

وهذا الإصلاح الأخير يبدو مهماً في الظاهر، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل! فعندما سُئل النائب الاشتراكي لوران بوميل عمّا وُصف بأنه «ضريبة صارمة على الأثرياء الفاحشين» التي وضعها حزبه شرطاً للتعاون مع لوكورنو، اكتفى بالرد: «ليس بالضرورة أن تكون ضريبة زوكمان». وزوكمان هو الاقتصادي الفرنسي الذي حسب أن فرض ضريبة بنسبة 2٪ فقط على ثروات وأرباح المليارديرات يمكن أن يدرّ على الدولة الفرنسية نحو 25 مليار يورو سنويا.

ورغم أن قانوناً بهذا الشأن طُرح في الجمعية الوطنية في شباط الماضي، فإنه أُسقط في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه اليمين. وهكذا استمر برنار أرنو (صاحب ماركةDior ) وطبقته في تكرار مقولة بأن لا داعي لـ«أخذ المزيد من الأغنياء لأنهم يقدمون الكثير طوعاً»!. تروّج هذه الطبقة كثيراً لما تعطيه باليد اليمنى، بينما تخفي ما تسرقه من جيوب الناس والعمال باليد اليسرى، وقد عملوا جاهدين لضمان أن الضرائب لن تُفرض على الأرباح الحقيقية، بل على بعض سيارات الليموزين والحسابات البنكية.

وهكذا ستظل جيوب الفرنسيين من الطبقات الوسطى والفقيرة تئنّ، وستستمر الأزمة التي خُدرت مؤقتاً، طالما أن شعار ماكرون للفترة المقبلة هو التقشف في الإنفاق الاجتماعي لمواجهة أزمة الدين العام الذي بلغ 3.4تريليونات يورو في الربع الأول من عام 2025.

ماذا لو تصاعد نضال الشعب الفرنسي؟

إن تصاعد الصراع الطبقي في فرنسا سيكون له أثر عظيم في إضعاف العدوانية الأوروبية، إذ تعتمد هذه العدوانية على الدول القيادية في الاتحاد الأوروبي، مثل: ألمانيا وفرنسا، وبدرجة أقل إيطاليا. يقول بول موريس من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية: «إن الأزمة السياسية في فرنسا تُضعف التماسك الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، لأنها تُعطل العلاقة الفرنسية–الألمانية، فالجمود في باريس يحرم برلين من شريك قادر على اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة في مجالات الدفاع والأمن والطاقة والتوسّع»، ويضيف: «في ظل الحرب في أوكرانيا، وروسيا العدوانية، والصين الطموحة، والولايات المتحدة الأقل موثوقية، تحتاج أوروبا إلى شراكة فرنسية– ألمانية فاعلة، للحفاظ على نهج دبلوماسي منسجم». ومن الأمثلة على المشاريع التي قد تتجمّد بسبب الاستعصاء السياسي مشروع الطائرة القتالية المستقبلية (FCAS) ومشروع الدبابة المشتركة (MGCS). ويشير موريس إلى أن الاتفاقيات الكثيرة التي وُقعت مؤخراً مع كل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا والمملكة المتحدة تبقى ذات قيمة رمزية ما لم تكن هناك فرنسا قوية.

وأكدت أرميدا فان راي من مركز الإصلاح الأوروبي: أن أكثر ما سيتضرر من الاضطرابات في فرنسا هو «جهود إعادة التسلّح الأوروبية من أجل استقلال استراتيجي»، وبحسب تقديراتها، ليس من مصلحة أي من الكتل الكبرى في اليمين أو اليسار التعاون مع ماكرون قبل الانتخابات الرئاسية عام 2027، لذا من المتوقع استمرار الاستعصاء حتى الانتخابات الجديدة.

وإضافة إلى ملف التسلّح، فإن مكانة اليورو الدولية ستستمر في التدهور. إذ تؤكد دانييلا شوارزر، عضو مجلس إدارة مؤسسة بيرتلسمان البحثية، أن «العجز وزيادة الديون الفرنسية سيؤديان إلى رفع الفوائد على الديون، ما يثقل كاهل منطقة اليورو بأكملها».

تشبه أزمة فرنسا اليوم حالها قبيل الحرب العالمية الثانية؛ فبين عامي 1932 و1936 سقطت في فرنسا ست حكومات، وها نحن اليوم نشهد الحكومة السادسة خلال عامين من حكم ماكرون، الذي يمتلك في دستور الجمهورية الخامسة صلاحيات واسعة مقارنة بالبرلمان، الأمر الذي يضاعف غضب الشارع، الذي بات يناقش الثقة بهذا الشكل من النظام السياسي المشلول في وقت يسوده الاستقطاب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1248