الردّ الروسي «النووي» على أوكرانيا والغربيين
شنّت القوات الأوكرانية في الأول من شهر حزيران الجاري هجوماً واسعاً على المطارات العسكرية الروسية في عموم البلاد، باستخدام «درونات» حربية، مستهدفةً بالدرجة الأولى القاذفات الاستراتيجية من طراز TU-95، التي تعد جزءاً رئيسياً من الثالوث النووي الروسي.. ورافق الهجوم تضخيم سياسي وإعلامي له مع صور توثّق عدداً من الضربات، لكن ما مدى تأثير هذا الهجوم على روسيا وعلى مجرى الحرب في الحقيقة؟ وهل كان الردّ الروسي ضمن «المستوى المتوقع» و«المتناسب»؟
إن التعاطي مع مجريات الصراع الدولي الجاري عموماً، وتحليله بأحداثه المختلفة-المترابطة، يتطلب قدراً كبيراً من الصبر والهدوء، دون الوقوع بفخ التهويلات السياسية والإعلامية العاطفية.
تأثير الهجوم الأوكراني
لم يكن الهجوم الأوكراني المذكور خارج سياق المعركة وطبيعتها وتوقعاتها عموماً، لكنّه يشكل بالمعنى الملموس تصعيداً كبيراً، يفوق بكثير ما جرى في هجوم كورسك أواسط العام الماضي، وإن كان الهجوم على نقاط حساسة وأهداف عالية القيمة باستخدام المسيرات ليس جديداً، فقد سبقه هجوم على الكرملين في بداية العام الماضي، يظل الهجوم الجديد أشد وأعنف، وخصوصاً كونه استهداف لركن من أركان الثالوث النووي الروسي، هذا فضلاً عن الأضرار الكبيرة التي نجحت الطائرات الأوكرانية في إحداثها. لكن الهجوم مع ذلك يبدو متسقاً مع التصعيد المتواصل والمحاولات الأوكرانية– الغربية باستفزاز موسكو، وجرّها لتصعيد واسع يجعل من الحرب الجارية أعمق وأوسع وأكثر تعقيداً، وهو ما سنأتي على ذكره بعد قليل.
قدّم الهجوم الأخير مثالاً جديداً على الطابع الجديد من معادلات الحروب المعاصرة: استخدام «درونات» لتدمير «قاذفات استراتيجية»، وهي معادلة غير متكافئة إطلاقاً. رغم ذلك، فإن جميع المحللين بمن فيهم أكثر الكارهين لموسكو، يدركون ويقرّون، أن باستطاعة أي «فصيل» عسكري تنفيذ مثل هكذا هجوم في أي مكان كان.. جلّ ما في الأمر هو مدى «الجرأة» للقيام بذلك، وجرأة كييف وحلفائها الغربيين تأتي بالضبط من محاولات «الهروب للأمام» للسبب السابق ذكره: جرّ روسيا لحرب أوسع.
أخيراً، ووفق آخر الإحصاءات المتفق عليها، دمر الهجوم قرابة 12 طائرة من الطراز المذكور، أو ما نسبته قرابة 10% من مخزون روسيا من هذا الطراز، وهي نسبة غير قليلة بالتأكيد، ومع أن الطائرات الاستراتيجية ليست معدة لحرب مثل حرب أوكرانيا، إلا أن الهجوم عليها كان يستهدف إلحاق الضرر بقدرات روسيا الاستراتيجية وعموم ثالوثها النووي، وربما كان يستهدف أيضاً تغيير إحداثيات «الردع النووي الروسي» لكن ذلك لم يحصل!
بالرغم من أن الضرر كبير إلا أن الاستهداف شأنه شأن أي اعتداء خارجي من هذا الشكل يخلق حالة من الوحدة الداخلية، ويزيد من إحساس المواطنين بخطورة المعركة الدائرة.
أهداف الهجوم
إن الهدف الأساسي العام والثابت لأوكرانيا والغربيين، هو عدم إنهاء الحرب، وبالتالي عدم الاعتراف بالهزيمة وما يتبعها من تداعيات، أما في توقيت الهجوم فإن أهدافه الرئيسية:
أولاً: محاولات أوكرانية– غربية لنسف مسار مفاوضات السلام في إسطنبول، والتي باستكمالها يعني عملياً إنهاء الحرب وإعلان المنتصر والمهزوم... وإذا ما تحقق هذا الهدف من الهجوم الآن، فإنه تحقق بشكل «مؤقت»، شأنه بذلك شأن المحاولات السابقة التي لم تفضِ في نهاية المطاف إلا إلى بدء هذه المفاوضات بعينها.
ثانياً: محاولات استفزاز وجرّ روسيا للتصعيد عسكرياً، وهو مرتبط بالهدف الذي يلي.
ثالثاً: الإبقاء على الولايات المتحدة منخرطة في الملف الأوكراني بالضد من مساعي ترامب لحله أو الانسحاب منه.
إن الهدفان الثاني والثالث مرتبطان ويكملان بعضهما بعض بعلاقة نسبية، فمحاولات جرّ موسكو لتصعيد عسكري ضمن التوازنات الحالية والوجود الأمريكي في الملف، يجبر الأخيرة على الردّ على مثل هكذا تصعيد، وبالتالي توسيع الحرب الأمريكية – الأوروبية المشتركة على روسيا، بما يرفع من طموحات إمكانية تغيير النتيجة الحالية لها، والعكس بالعكس، فإبقاء الولايات المتحدة «غارقة» بالملف الأوكراني، وعرقلة مساعي ترامب بالخروج منه، بالتالي توريطها أكثر، يهدف لتضييق إمكانية مناورات موسكو تجاه خيار واحد هو: التصعيد العسكري.
ما نقوله هنا لا يعني أن الهجوم الأوكراني تمّ دون موافقة أمريكية بالضرورة، بل إن الموافقة الأمريكية إن كانت موجودة، فهي تأتي نتيجة لانخراطها العميق والعضوي المسبق أساساً بالحرب الأوكرانية، وهو بذلك لا يعكس بالضرورة الجانب الذاتي للإدارة الأمريكية الحالية: الخروج من الملف و«إنهاء الحرب خلال يوم واحد».
الردّ الروسي
تدرك موسكو ما هو أوسع وأعمق من التحليل المذكور هنا بطبيعة الحال وبمعلومات استخباراتية فعلية، وعليه فإن مناوراتها وردها ينطلق من هذه المعادلات وتعقيدها، ليرى البعض أن الاتصال الهاتفي الذي جرى بين بوتين وترامب بعد الهجوم، يمثل نوعاً ما من جس النبض وتبادل الرسائل في هذا الإطار، أفضت بالنتيجة لتحييد إدارة ترامب «كإدارة فقط» عن مسؤولية الهجوم، وتأكيد هذه الأخيرة لحقّ موسكو بالردّ على التهوّر الأوكراني.
أما الردّ الروسي بدوره، وخلافاً لكل أحلام وتوقعات «الحربيين» أو «المدفوعين بعواطفهم» بأنها قد تستهدف القواعد الأمريكية داخل الولايات المتحدة أو في أوروبا، فضلاً عن مبالغات التوقع باستخدام «النووي» وفقاً للعقيدة العسكرية الروسية، وقف– حتى الآن- عند حدود ضرب أجزاء واسعة من أوكرانيا وعلى رأسها كييف، في السادس من الشهر الجاري، بمئات المسيرات والصواريخ، مستهدفة بذلك «أجزاءً» من البنية التحتية الأوكرانية للطاقة.
إن هذا الرد، وضمن هذه الحدود، لا يعادل الهجوم الأوكراني بأي حال من الأحوال بكل تأكيد، بيد أنه وبالاستناد إلى مجريات الحرب سابقاً، لم ينتهِ أيضاً، ويمكن أن يكون ما شهدته كييف في 6 حزيران مرحلة أولى من ردٍ شامل.
بعد هجوم القوات الأوكرانية على «كورسك» الروسية في العام الماضي، بدأ العديد من المحللين بالتوقع باحتمال استخدام موسكو للسلاح النووي على كورسك نفسها، وهو ما لم يحصل بالشكل «التقليدي» إلا أن نتيجة هذا الهجوم «النووي» المفترض قد جرت بالفعل: بتحرير كورسك تماماً بعد وقت، بل والسيطرة على رقعة جديدة واسعة من الأراضي الأوكرانية شرقاً، وصولاً لإنشاء المنطقة العازلة قرب مقاطعة سومي.
والآن نشهد التكتيك نفسه، إن الهجوم الأوكراني الأخير لم يغيّر من واقع الميدان ونتائجه العسكرية والسياسية شيئاً. وعدم الانجراف للاستفزاز الغربي بالتصعيد– كما السابق- والاستمرار بالتقدم تدريجياً وبالنقاط بشكل ثابت وإن كان بطيئاً، مع تفكيك عقدة الانخراط الأمريكي في الحرب ضمن «عملية جراحية معقدة» أو على الأقل رفع التناقضات الأمريكية- الأوروبية، لن يكون أثره الأخير كما تهدف موسكو، سوى أثر «السلاح النووي» نفسه: تفكيك الوحدة الغربية، وإضعافهم، وصولاً لانهيارهم.
والحقيقة، إن إمكانيات تحقيق هذا الهدف ترتفع كل يوم، بل إن الاستفزازات الغربية المتصاعدة تمثل بالضبط «ردود الفعل» على كل تقدم بهذا الاتجاه، ومن المرجح أن ترتفع «شراسة وجنون» الغربيين أكثر فأكثر، وصولاً إلى منعطف الانهيار، وعليه، فإن قوة الأطراف المقابلة– روسيا أولها- تكمن بالضبط بمدى قدرتهم على الصبر، وضبط النفس، وتحمّل الضربات الخاطفة كالتي جرت وتجري دون تغيير مسار الاتجاه العام والأهم منه: وتيرته.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 0000