غزّة تحت النار والكيان في أشرس حالاته!

غزّة تحت النار والكيان في أشرس حالاته!

يتعقد الوضع في قطاع غزة بشكلٍ متسارع، فإن كان مشهد الحرب القاسية بات مألوفاً وشبه ثابت يتناوب بين تهدئة مؤقتة ومحدودة، ليعود مجدداً بجرعة تصعيدية عالية، إلا أن استمرار الحرب يثبت أن ما يعاني منه الكيان أكبر كثيراً من قطاع غزة، ولا تكفي هذه المساحة الضيقة التي حشر فيها مليوني إنسان لتفسير ما يجري.

خلال الأيام الماضية، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتحدث عن تفاؤله باقتراب الوصول إلى اتفاق لهدنة تمهد لإنهاء الحرب بحسب تعبيره، ومع أن الرئيس الأمريكي لا يتحدث من فراغ، جاءت الساعات الماضية لتوضح أن المسار لا يزال متعثراً، وهناك تباين واضح بين الموقف الأمريكي-«الإسرائيلي» وتباين آخر بين الموقف الأمريكي- الفلسطيني، وفي حين نرى اتهامات لحركة حماس بأنّها «رفضت كل المبادرات» يظهر بشكل حاسم أن واقع المسألة مختلف كليّاً، وتحديداً بعد أن أفشلت «إسرائيل» الهدنة السابقة، وعادت إلى الحرب بشكلٍ وحشي لا يدعو للتفاؤل.

مبادرة ويتكوف

تشبه مبادرة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف ما سبقها من مبادرات، إذ تطرح إمكانية تسليم الأسرى مقابل هدنة قابلة للتطور إلى وقف دائم لوقف إطلاق النار، وتتعهد «إسرائيل» بحسب المقترح بإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، وتسمح بإدخال المساعدات إلى غزّة، بالنسبة لحركة حماس تبدو هذه المبادرة منقوصة، إذ أنّها لا تنص على انسحاب جيش الاحتلال من القطاع وعودة جميع النازحين دون شروط، مع سماحٍ بتدفق المساعدات دون قيود، كما أن الحركة تطالب بضمانات أمريكية لالتزام «إسرائيل» بالاتفاق، نظراً لأن الأخيرة أخلّت سابقاً باتفاق توصل له الطرفان في آذار الماضي، في المقابل تظهر «إسرائيل» تعنتاً وترفض شروط حماس، وتحديداً تلك المتعلقة بانسحابها من غزّة ووقف الحرب!

حماس تبدي مرونة في عدد من المسائل، لكنّها صلبة عندما يتعلق الأمر بخروج الاحتلال من القطاع ووقف الحرب، وهي شروط منطقية، بل تتماشى مع القانون الدولي، ويبدو أن هناك قناعة بأن أي تنازل عن هذه الثوابت يعد تفريطاً بحقوق الفلسطينيين دون مقابل يذكر، ورغم أن الأوضاع الإنسانية قاسية، إلا أن المقاومة الفلسطينية لا تزال تنفذ عمليات حتى اللحظة، ولم تفرغ جعبتها بعد، والأهم: أن الفلسطينيين في غزّة، وإن كانوا واقعين تحت ضغط كبير يهدد حياتهم، إلا أن الحلول التي يجري تسويقها لا تبشر بالخير، فبعد أن كانت الولايات المتحدة تحدثت عن نيتها توزيع مساعدات وحصر هذا الملف بيدها، شهد القطاع أحداث مقلقة في حي تل السلطان، فكمية المساعدات أقل بكثير من احتياجات سكان القطاع، ما تسبب بإحداث تدافع أثناء التوزيع، واقتحم الفلسطينيون الأسوار والحواجز المحيطة بمركز التوزيع بحثاً عن الطعام، ما أدى لإطلاق نار راح ضحيته شخصٌ واحدٌ، وحوالي 50 جريح، وتضاربت التقارير عن هوية العناصر التي أطلقت النار، في حين قالت بعض المصادر: إن القوات «الإسرائيلية» هي من استخدم السلاح، وذكرت مصادر أخرى أن المتعاقدين الأمريكيين المكلفين بالحراسة هم من أطلقوا الرصاص على الحشود، ما يعيد التشكيك بمدى أهلية الولايات المتحدة للقيام بهذه المهمة الحساسة، بشكلٍ منفرد، بل يشكك أيضاً بأن المبادرة الأمريكية بخصوص المساعدات، هي جزء من مسعى آخر يهدف لحشر الفلسطينيين في رفح، وممارسة ضغط على المصريين الذين يراقبون بقلق شديد تلك التطورات!

تعقيد مع كل خطوة جديدة!

يجد الكيان نفسه مضطراً لإعادة إنتاج الأفكار ذاتها، فيعلن عن عملية بعد أخرى، وتنصب هذه العمليات على تحقيق الأهداف نفسها، بل إن المحللين «الإسرائيليين» لا يرون في احتلال غزّة وإنهاء حكم حماس أي «نصر» بل يدركون أن ذلك سيضع الكيان أمام ضغط كبير لإدارة القطاع ويحمّله تكاليف ذلك، وخصوصاً مع غياب أي مخرج حالي، ويظهر أن عملية مركبات جدعون من شأنّها أن تزيد من الضغوط على الكيان، الذي يقترب من أن يجد نفسه عالقاً تحت عقوباتٍ غربية، وعزلة دولية غير مسبوقة، وهو يكشف قلقاً شديداً، تحديداً في أوساط التيارات الحاكمة التي تراقب التطورات السياسية، وتحاول فرض واقع على الأرض لا يمكن تجاهله، وخصوصاً مع التحضيرات المتسارعة لعقد «المؤتمر الدولي للتسوية السلمية للقضية الفلسطينية» الذي سترأسه السعودية وفرنسا والمزمع عقده في أواسط شهر حزيران الجاري، ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة في اعترافات الدول الغربية بالدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه «إسرائيل» وتسعى لتقويضه عبر رفع مستوى التصعيد، وزيادة خطط الاستيطان في الضفة الغربية، ما يمكن أن يجعل من الأسابيع القليلة القادمة ذروة تصعيد جديدة غير مسبوقة.

علاقة ثنائية مأزومة!

لا شك أن الولايات المتحدة لم تتخذ بعد موقفاً حاسماً من سلوك الكيان، فهي وإن كانت تمارس ضغوطاً متزايدة، إلا أنّها لا تزال طرفاً في الصراع، ولكن ذلك لا يلغي أن العلاقة بين الطرفين تزاد توتراً، فالكيان الصهيوني كان دائماً أداةً أمريكيةً أساسية في نشاطها الهدام في الشرق الأوسط، فمنذ أن انتقل الكيان للعمل لصالح الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كانت مهمته الأساسية إعاقة عمل الاتحاد السوفييتي، وتوتير الأجواء، وإشعال الحروب، وقضم المزيد من الأراضي كلما كانت الفرصة سانحة، ثم وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عادت «إسرائيل» لتؤدي دوراً يخدم الحرب الأمريكية على «الإرهاب» وكان في الواقع قاعدة متقدمة وداعماً للمخطط الأمريكي، ثم سرعان ما باتت مهمته الأساسية تعقيد الظروف المحيطة بإيران، بل أيضاً قيادة تحالف إقليمي لضرب طهران، التي خرجت من المعسكر الغربي بعد الثورة في نهاية السبعينيات، ومن هنا يبدو القلق «الإسرائيلي» من التوافقات الجارية بين إيران والمنطقة من جهة، وبسبب المفاوضات على الملف النووي الإيراني التي يظهر فيها تيار الرئيس ترامب نيّة حقيقية للتوصل إلى اتفاق ما، قد يغير طبيعة الاستراتيجية الأمريكية حيال إيران، ويضع الكيان أمام معضلة وجودية، والمسألة في الحقيقة لا ترتبط فقط بإيران والمفاوضات على الملف النووي، بل أيضاً بكامل التوجهات الأمريكية، فواشنطن ترى أن سلوك الكيان في المنطقة بات عائقاً أمام بناء علاقات مع دول الإقليم الأساسية، التي تبدي حماساً شديداً اتجاه الدول الصاعدة في الجنوب العالمي على حساب الولايات المتحدة، ما سيؤدي في نهاية المطاف لعزل واشنطن، وإضعاف قدرتها على التأثير في منطقة استراتيجية، فمشكلة الولايات المتحدة لم تكن يوماً بحجم إجرام «إسرائيل» أو تاريخيها العدواني، بل كون هذا الشكل ليس الخيار الأمثل في ظل الاستدارة الأمريكية الحالية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1229