«آسيان» 46: جبهة موحدة في مواجهة الولايات المتحدة.. والجنوب العالمي إلى صعود
شهدت آسيا أحداثاً متزامنةً ثبّتت ملامح واقع جديد تؤدي فيه دول الجنوب العالمي دوراً ريادياً في قيادة العالم، وتعمل معاً للتعامل مع المطبات التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة.
في عالم تتراجع فيه الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي عموماً مدفوعاً بأزمته العميقة وبشكل متسارع، مع ما يصاحب هذه الأزمة والتراجع من اشتداد في المواقف والسلوكيات الغربية الحربية والعدائية والحمائية وغيرها، يبحث العالم عن بدائل لعموم العلاقات الدولية– بما فيها العلاقات الاقتصادية وخطوط التجارة- التي سادت خلال قرنين من الزمان، وإذ كان الحديث الاستراتيجي قبل عقدين وأكثر يتطلع إلى عالم من الـ «تعددية القطبية» كنقيض عن الأحادية القطبية الأمريكية وهيمنتها، فيمكن القول: إن هذا العالم بات واقعاً يتشكل اليوم، ويشهد خطوات عملية، تسارعها يوازي تسارع التراجع الأمريكي والغربي، وضمن هذا السياق العام، عقدت رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان» قمتها الـ 46 في العاصمة الماليزية كوالالمبور يوم الثلاثاء 26 أيار بعنوان «الشمول والاستدامة»، وبالتوازي معها، عقدت الرابطة قمة ثنائية مع مجلس التعاون الخليجي، وأخرى ثالثة هي الأولى من نوعها جمعت آسيان ومجلس التعاون الخليجي والصين. وفي القمم الثلاث كانت الأولوية الرئيسية هي: ضرورة تطوير العلاقات فيما بين الدول الأعضاء لهذه المنظمات، وتحديداً بمواجهة «الحمائية» الأمريكية وحربها التجارية، التي كانت الرسوم الجمركية قبل نحو شهر من آخر مفرداتها ولن تكون الآخيرة.
تحدث رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم خلال كلمته الافتتاحية أمام قمة أسيان: «يشهد النظام الجيوسياسي تحولاً، ويتعرض النظام التجاري العالمي لمزيدٍ من الضغوط، مع فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية أحادية الجانب مؤخراً، وتعود الحمائية إلى الواجهة» وأضاف: إن دول جنوب شرق آسيا «ستشكل جبهة موحدة لمواجهة التحديات، بما في ذلك الرياح الاقتصادية المعاكسة الناجمة عن الرسوم الجمركية الأميركية والحرب الأهلية المستمرة منذ 4 سنوات في ميانمار [...] لطالما اعتمد سلامنا واستقرارنا وازدهارنا على نظام دولي منفتح وشامل وقائم على القواعد، لكن هذه الأسس تتفكك الآن تحت وطأة الإجراءات التعسفية».
يشير هذا الحديث من كلمة إبراهيم الافتتاحية لقمة آسيان 46 إلى أولوية عمل الرابطة ودولها الأعضاء، كما يوضح من جديد اصطفافها أمام التطورات الدولية الحاصلة، وأكدت القمة على موضوعات التعاون والتكامل فيما بين دول منطقة جنوب شرق آسيا، وكذلك مع المناطق الأخرى من العالم بما فيها منطقة الخليج العربي، بروح «التعددية القطبية» الناشئة.
وفي سياق ذلك، تسعى دول آسيان للدخول بمنظمات متعددة بما فيها مجموعة بريكس التي دخلت إليها اندونيسيا في كانون الثاني 2025، ودخلتها ماليزيا كدولة شريكة في تشرين الأول 2024 قبل أن تقدم طلباً لعضوية كاملة، أما تايلاند وفيتنام فموجودتان ضمن بريكس، وبذلك بات نحو ثلث دول آسيان موجوداً في بريكس، ومن المرجح انضمام الآخرين خلال السنوات القليلة المقبلة.
وأقرّت الدول الأعضاء في رابطة آسيان بالإجماع رؤية «مجتمع أسيان 2045»، وهي استراتيجية تمتد عشرين عاماً تهدف لتعزيز وحدة المنطقة، والنمو الشامل والمستدام بها، وتعزيز مكانة أسيان كقوة اقتصادية عالمية، وتعتمد هذه الرؤية وفق الوثيقة على 4 أسس استراتيجية: التعاون السياسي. – التكامل الاقتصادي. – التقدم الاجتماعي الثقافي. – تعزيز الاتصال الإقليمي. وكذلك أهداف التنمية، وضمن كل ذلك، تؤكد الرؤية على ضرورة تعزيز استخدام العملات المحلية في المعاملات التجارية بين الدول المعنية عبر الحدود.
وكان قد سبق انعقاد قمة آسيان ببضعة أيام إعلان الصين باختتام مفاوضاتها ذات الجولات التسع مع الرابطة عن ترفيع لاتفاقية التجارة الحرة في منطقة التجارة الحرة بين الطرفين، للنسخة 3.0 والتي أضيفت إليها مجموعة من السلع، أهمها: الأدوات التكنولوجية المتطورة، واعتبرت بكين وفق بيان أن النسخة الجديدة «إنجازٌ بارزٌ لدعم التجارة الحرة».
القمة الثلاثية مع مجلس التعاون الخليجي والصين
في اليوم التالي لقمة آسيان، عقدت قمة ثلاثية هي الأولى من نوعها مع مجلس التعاون الخليجي والصين، وأكد إبراهيم أهمية هذا اللقاء باعتباره نقطة انطلاق نحو شراكة استراتيجية مستدامة بين الأطراف الثلاثة، ودعا إلى تحويل المبادرة لنموذج للتعاون في «عالم بات يتشكل على أساس التعددية القطبية» وقال: «أمامنا فرصة غير مسبوقة لرسم مسار جديد للتعاون الاقتصادي والسياسي بين منطقتين حيويتين من العالم».
وقال المتحدث باسم مكتب رئاسة الوزراء الماليزية، نشرول عبيدة: إن هذه القمة تهدف لـ «تعزيز العلاقات الاقتصادية وضمان استدامة النمو في الإقليم»، موضحاً أن حجم التبادل التجاري بين مجلس التعاون الخليجي وآسيان يبلغ قرابة 130 مليار دولار، وأن الناتج المحلي لمجموعة آسيان بلغ 3.8 تريليون دولار، وأوضح أن مجالات التعاون المرتقبة تشمل سلاسل الإمداد والبنية التحتية، والتجارة الالكترونية.
بدورة قال رئيس الوزراء السعودي المشارك بالنيابة عن ولي العهد محمد بن سلمان: إن القمة الحالية وضعت أسساً متينة أكثر للشراكة، وأن هذه الشراكة حققت بالفعل تقدماً في مستويات التبادل التجاري بنسبة 21% من عام 2023 إلى 2024، مشيراً إلى وجود فرص للتطور في قطاعات حيوية، كالمالي والزراعة والصناعة والأغذية والطاقة الخضراء والمتجددة.
ميانمار وبحر الصين الجنوبي
لم تغب القضايا والتحديات الأمنية الاقليمية عن قمة آسيان، وخاصة ملفي ميانمار وبحر الصين الجنوبي، إلا أن كلاً منهما جرى الحديث عنها بشكل مختصر، ولكّنه كافٍ لفهم السمت العام، ففيما يتعلق بميانمار التي منع قادتها العسكريون من حضور القمة بسبب عدم التزامهم بخطة السلام وتوزيع المساعدات الإنسانية، أكدت أسيان ضرورة إيجاد حل توافقي لأطراف النزاع داخلياً في إطار الحوار الوطني، ورغم صعوبة المهمة والتواصل ما بين آسيان والأطراف في ميانمار، إلا أن إبراهيم قال: «ربما تكون خطواتنا صغيرة، وقد لا تكون الجسور ثابتة، لكنها موجودة ومفيدة، فالجسور المتشققة للسلام، خير من اتساع رقعة العنف» وهو ما يكثف موقف آسيان وتطلعاتها.
وفيما يتعلق ببحر الصين الجنوبي الذي شهد بضع مناوشات عابرة بين البحريتين الصينية والفلبينية خلال السنة الماضية، قال الرئيس الفلبيني فريناند ماركو: إن «مدونة قواعد السلوك التي تتفاوض عليها رابطة دول جنوب شرق آسيا والصين لتنظيم الممر البحري المزدحم يجب أن تكون مُلزمة، وهي أحد العوامل التي أعاقت المحادثات [...] نؤكد على الحاجة الملحة لتسريع اعتماد مدونة سلوك ملزمة قانوناً في بحر جنوب الصين لحماية الحقوق البحرية، وتعزيز الاستقرار، ومنع سوء التقدير في البحر».
الجنوب العالمي إلى صعود
في ختام أعمال القمة الثلاثية سابقة الذكر، اعتبر أنور إبراهيم أن القمة شكلت «نقطة تحول فعلية» وقال: «لم تعد هذه القمم مناسبات دبلوماسية عابرة، بل محطات تأسيسية لهيكل تعاون عالمي جديد يقوده الجنوب النامي».
أما الخارجية الصينية فقد أشادت بالقمة عبر بيان صدر عنها، وأكدت أن بكين ملتزمة بتوسيع مجالات التعاون العملي مع آسيان ودول الخليج، في إطار شراكة تضع الجنوب العالمي في موقع فاعل ضمن النظام الدولي الجديد.
إن تلك المقدمة الافتتاحية وصولاً لهذه الخاتمة، تؤكد تشكل «جبهة موحدة» من الجنوب العالمي بمواجهة الهيمنة الغربية عملياً، وإن لم يجر الحديث عنها بهذا الوضوح لدواع دبلوماسية، إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه، أن الرافعة الرئيسية لتقدم الجنوب العالمي النامي وتطوره الذي نشهده هي بالضبط الصين، التي سعت وتسعى بالتعاون مع روسيا لمواجهة وكسر الهيمنة الغربية والأمريكية، انطلاقاً من مصلحتيهما المتوافقة ومصلحة دول الجنوب المنهوبة بالتحرر، وليس من قبيل الصدفة أن تحظى دول جنوب شرق آسيا بالإمكانية الأولى والأبرز لهذا الصعود لأسباب جغرافية وجيوسياسية، البسيط منها هو وجودها على تخوم الصين، لكن وبالتأكيد فإن الحديث الوارد عن «الجنوب العالمي» يشمل آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكيا اللاتينية التي تشهد صعوداً كذلك، وإن كان متباطئاً في المرحلة الحالية... إن عصر الأحادية القطبية والهيمنة الغربية ونهبها يمضي لانتهائه بغير رجعة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1229