تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا: صعود السيادة الوطنية وتنافس القوى الدولية

تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا: صعود السيادة الوطنية وتنافس القوى الدولية

يعود تاريخ الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية إلى المراحل الأولى لانطلاق الحملات الاستعمارية، حيث لعبت فرنسا دوراً رئيسياً في استعمار القارة واستغلال مواردها، وبلغت أقصى مراحل توسعها بعد السيطرة على المستعمرات الألمانية إثر الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من أن موجة التحرر الأولى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي منحت الدول الأفريقية استقلالها السياسي، إلا أن هذه الدول ظلت مرتبطة بفرنسا اقتصادياً وثقافياً. ووافق شارل ديغول على منح الدول الأفريقية الاستقلال مقابل الحفاظ على التبعية، واستمرت فرنسا في بسط نفوذها عبر أدوات مثل: نظام الفرنك الأفريقي، الذي كان يفرض على الدول الأفريقية طباعة عملاتها في فرنسا مقابل الاحتفاظ بـ 85% من احتياطاتها في الخزينة الفرنسية.

اليوم، تشهد القارة الأفريقية موجة تحرر ثانية تختلف جذرياً عن سابقتها. لم تبدأ هذه الموجة مع الانقلابات الأخيرة التي اجتاحت منطقة الساحل الأفريقي، كما يروّج البعض، ولم تكن جائحة كورونا السبب الرئيسي وراء هذا التحول، وإن كانت قد سرّعت من وتيرة التغييرات العالمية. الحقيقة أن ما يجري هو انعكاس لتراجع النفوذ الغربي عموماً، وتفكك النظام العالمي أحادي القطب. في هذا السياق، تخوض أفريقيا صراعاً شرساً للتحرر من التبعية الغربية، وخاصة النفوذ الفرنسي، غير أن هذا الصراع يواجه عقبات كبيرة.
تُظهر هشاشة البنية السياسية والإدارية في العديد من الدول الأفريقية تعقيدات كبيرة أمام تحقيق السيادة الكاملة. البنى القبلية والعشائرية التي تهيمن على المجتمعات الأفريقية تشكل تحالفات عابرة للحدود، مما يؤدي إلى تهديد استقرار الدول. هذا التحدي يتجلى في أزمات متكررة، مثل: تلك التي شهدها السودان، وتشاد، والكونغو، ورواندا، حيث يُمثل الانتماء القبلي تهديداً مستمراً للنظم السياسية القائمة. كذلك، يمثل الإرهاب والنزاعات الانفصالية أخطاراً حقيقية، ويعمل الغرب على الاستثمار في هذه المخاطر لترهيب القادة والشعوب الأفريقية من خطر الابتعاد عن الهيمنة الأوروبية بوصفها حامية لتلك الدول. وقد أظهرت التجربة في دول عدة أن وجود الاستعمار الغربي المباشر وغير المباشر هو الذي ساهم في تعزيز المجموعات الإرهابية، وهيأ لها الأرضية الخصبة للنمو. وهو ما عبرت عنه وزيرة الجيوش الفرنسية السابقة، فلورنس بارلي، في معرض حديثها أمام مجلس الشيوخ الفرنسي؛ حيث أكدت أنه «لتفادي قدر الإمكان مخاطر رفض الوجود العسكري الأجنبي، بات من الضروري- أيضاً- تنفيذ مشروعات تنموية»، في تأكيد على الدور الاستعماري السابق المقتصر على النهب ونشر القوات لحماية هذا النهب.
ولا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه القوى الناعمة في تعزيز الهيمنة الغربية. الثقافة واللغة الفرنسية لا تزالان تمثلان أدوات فعالة للحفاظ على النفوذ الفرنسي، حتى مع تزايد خطاب السيادة الوطنية. ولكن يبدو أن هذه الأدوات تفقد فعاليتها تدريجياً أمام التغيرات السياسية والاقتصادية.

ضربة قاصمة لفرنسا

خروج فرنسا الأخير من تشاد، بإعلان إنهاء الاتفاقية الأمنية والعسكرية بين البلدين، كان بمثابة ضربة قاصمة للنفوذ الفرنسي في المنطقة. خروج القوات الفرنسية يعكس حجم التحديات التي تواجهها باريس في الحفاظ على علاقاتها مع الدول الإفريقية. ورغم محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصحيح مسار هذه العلاقات عبر زيارات متكررة، واستخدام مزيج من التهديد والترغيب، يبدو أن مسار العلاقات ينحدر بشكل متسارع. الأمر الذي ظهر مؤخراً في تصريح القادة في دولة السنغال عن تعارض مفهوم السيادة مع وجود قوات غربية أمريكية– فرنسية بشكل أساسي– على أراضي وسواحل دولتهم. كذلك، لعبت الانقلابات التي شهدتها دول غرب أفريقيا دوراً كبيراً في تعزيز هذا التوجه، حيث شكلت دول، مثل: النيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، كونفدرالية جديدة بقيادة عسكرية شابة، تعبر عن تطلعات الأفارقة في السيطرة على ثروات بلادهم ومنع سرقتها. مثال ذلك: اليورانيوم الذي كانت تصدره النيجر لفرنسا بأبخس الأثمان، بينما ظل معظم الشعب النيجري دون كهرباء. وهذا ينطبق أيضاً على الثروات النفطية والذهب والمواد الخام بشكل عام.
وفي تطور جديد يعكس استمرار تراجع النفوذ الفرنسي، أعلنت ساحل العاج يوم الثلاثاء 24 كانون الأول: أن القوات الفرنسية ستغادر البلاد بعد وجود عسكري استمر لعقود. هذا القرار يأتي في إطار موجة متصاعدة من المطالبات بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في القارة، مما يؤكد أن أفريقيا تشهد تحولاً جذرياً في علاقاتها مع القوى الاستعمارية التقليدية.

رياح التغيير الأفريقية

التغيير أصبح كلمة مرافقة للشأن الأفريقي، فالتحالفات تتغير من شرق القارة إلى غربها وجنوبها. وإن كان المتضرر الأكبر لحد هذه اللحظة هو النفوذ الفرنسي، فإن النفوذ الغربي ككل أصبح مهدداً، وهو ما شهدنا بوادره من خلال طرد النيجر للقواعد الأمريكية المتواجدة على أراضيها.
التراجع الفرنسي لم يكن فقط نتيجة لصعود خطاب الاستقلال والسيادة الوطنية في إفريقيا، بل أيضاً نتيجة لتنافس دولي محموم على النفوذ في القارة. القوى الصاعدة مثل: روسيا والصين والهند، تقدم نماذج شراكة جديدة تحترم سيادة الدول الأفريقية وتقدم بدائل مغرية مقارنة بالنفوذ الغربي التقليدي. هذه التحولات تعكس نهاية عهد الهيمنة الفرنسية والغربية، وبداية نظام عالمي متعدد الأقطاب، تسعى أفريقيا لأن تكون جزءاً فاعلاً فيه. كذلك، نرى انعكاس هذه التغييرات على التحالفات والمنظمات التي تمثل استمراراً للنظام العالمي القديم.
ورغم الصعوبات التي تواجهها الدول الأفريقية في كسر قيود التبعية، فإن التحولات الجارية تقدم فرصة تاريخية لإعادة صياغة العلاقات مع العالم على أساس أكثر عدالة واحتراماً للسيادة الوطنية. يبدو أن أفريقيا باتت أقرب من أي وقت مضى لتحقيق حلم الاستقلال الكامل، بعيداً عن التبعية والاستغلال. إن خروج فرنسا من مناطق نفوذها التقليدية يمثل خطوة كبيرة نحو بناء قارة أكثر استقلالية وسيادة، في ظل صعود قوى عالمية جديدة، تقدم نموذجاً مختلفاً في التعاون والشراكة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1208