انتخابات أوروبا… هل يخشون اليمين حقاً؟!
في الأسابيع والأشهر القليلة الماضية تصدّرت «المعارك الانتخابية» المشهد بشكلٍ واضح في أوروبا، وبدت الأجواء متوترة ودرجة التجاذب مرتفعة، فالوضع السياسي العام مشحون إلى أعلى الدرجات وهناك حرب مستعرة لا يبدو في الأفق مخرجاً منها، ولكن وفي الوقت ذاته هناك داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، تناقضات تشتدّ وترسم خطوط المشهد القادم.
إذا ما أردنا فهم المشهد الأوروبي الحالي لا بد لنا تثبيت مجموعة من المسائل، ونقر أولاً: أن الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام في أوروبا هي كما كانت دائماً، مملوكةٌ من قبل نخب رأس المال، وعلى هذا الأساس تقف مُسبقاً بحكم المصلحة على الضد من مصلحة شعوب أوروبا، الموافقة على هذه الفكرة تفرض قراءةً نقديةً لِما يقدّم لنا، وتدفعنا لبحثٍ أدق.
الحرب وتداعياتها
تدرك النخب في أوروبا أن لحظة اندلاع الحرب في أوكرانيا لم تكن حدثاً عادياً، فالحرب، كما برهنت الأحداث، جرى التحضير لها غربياً منذ عقدٍ على الأقل، لكن قبل اندلاعها ببضعة أشهر، قدّمت موسكو مبادرة عبّرت من خلالها عن فهم روسيا، القوة العظمى، للأمن في أوروبا، وشرحت كيف يمكن استعادة التوازن الذي جرى انتهاكه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، مع ما يعنيه ذلك من تقييد للدور والحضور الأمريكي المعادي في القارة.
حاولت روسيا أن تضع الغرب أمام خيارين، إما أن نحقق هذه الشروط عبر التوافق والتفاهم أو نفرضها بالحرب التي تريدون، وما أن أطلق الجيش الروسي رصاصته الأولى حتى بدأ الاتجاه يتضح تدريجياً، وأدرك قادة العالم، أن نهاية حرب أوكرانيا ستكون أوسع تأثيراً من حدود الجمهورية السوفييتية السابقة، وستمتد إلى القارة كلّها. أي أن البنية والنظام السياسي في أوروبا دخلا في طور التغيير، ومؤسسات مفتاحية، مثل: الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، تتصدع وتمضي إلى حتفها، وقد تتبعها كل الأنظمة التابعة للولايات المتحدة، هذه العوامل، خلقت- مجتمعةً- مزاجاً سياسياً لدى الأغلبية المطلقة من الجماهير التي تعرف أنّها تريد تغير الوضع القائم، وتدرك أن أنظمتها ورّطتها بحربٍ باهظةِ التكاليف وبتداعيات خطيرة تمس رفاهاً اعتادوه منذ عقود طويلة!
«الجنوب» يستقل وإفريقيا تنتفض!
أوروبا التي عرفناها قامت على أسس ساهمت بـ «تلطيف» الصراع الطبقي، فنهب إفريقيا، وتثبيت العلاقات غير المتكافئة مع دول الجنوب، أعطى لأوروبا ميزات اقتصادية واجتماعية، فالوقود الرخيص من روسيا، والخامات الأساسية من إفريقيا، وغيرها من مفاصل التبعية كانت تنقل في الواقع ثرواتٍ من تلك المناطق إلى جيوب المواطنين الأوروبيين، لكن حجم النهب الذي مارسته المراكز الرأسمالية الكبرى، لم يعد بالإمكان التعايش معه، ولذلك، شهدنا في الجنوب العالمي ظهور تيارات سياسية واسعة، مدعومة شعبياً، قامت على هدف أساسي هو قطع كل خطوط النهب، واحداً تلو الآخر، وتدريجاً ظهرت قوى صاعدة لم يعد مجدياً بالنسبة لها أن تحافظ على علاقات التبعية القائمة، بل بات تحطيمها شرطاً أساسياً للبقاء.
النزعات تلك، وبالرغم من أنّها نشأت منذ بداية الألفية الثالثة، إلا أن تداعياتها السياسية والاجتماعية لم تظهر فوراً في أوروبا، بل كانت تتراكم، ومع كل مطب جديد كان يظهر وضوحاً أن الرفاه الذي عاشه الأوروبيون يختل، وتتقوض أساساته، وأدركت النخب هذه الحقائق قبل غيرها، وبدأت تتجهز لتأريض مدٍ شعبي قادم، أملاً في حرفه عن طرح الشعارات الأساسية.
القاسم المشترك في الانتخابات
لا شك أن قوى يمنية متطرفة وعنصرية تبرز في المشهد، لكن ظهورها كان جزءاً من مشهد اشمل، عنوانه الأساسي: «البحث عن البدائل» فالشعوب الأوروبية عادت للشارع تدريجياً، وبدأت تبحث عن بديل لما هو قائم، فإن كانت القناعة بضرورة التغيير حاضرة، فذلك لا يعني أن شكل وطبيعة البديل واضحٌ ومتفّقٌ عليه، وهذا تحديداً ما يفسّر سلوك الإعلام في أوروبا، ومضمون الخطابات السياسية لقوى اليمين التي تحكم أوروبا بالفعل.
في أوروبا، هناك مخاضٌ لفضاء سياسي جديد، ما نعرفه أن اليمين الذي يصوّره الإعلام بوصّفه المسيطر على المشهد، هو في الواقع جزء مهم من الصورة، لكنّه لا يكفي لتوصيفها، فاليسار يبدو حاضراً بقوى ملموسة، لكنه لم يصل إلى درجة كافية من التنظيم.
الأصوات التي توضع في الصناديق تعبّر أولاً عن حالة عامة من فقدان الأمل وتبحث عن البديل، أي أن «ولاءها» الحالي مرحلي ومتغير، هو أشبه برحلة بحث، ويرتبط موقف الجماهير بمدى تحقيق مطالبها بالدرجة الأولى، وعلى هذا الأساس قد يخطئ الشارع في كشف حقيقة البرامج الموضوعة أمامه، لكنّ درجة نشاطه العالية، والخبرة السياسية الموروثة ستسمح له في نهاية المطاف أن يفرز كل ما يوضع أمامه، بل ويصنع البديل إن لم يكن حاضراً.
فرنسا
مع أن النتائج النهائية للانتخابات لم تعلن بعد، لكن الجولة الأولى أبرزت أن القوى المتقدمة لم تكن قوى اليمين وحدها! بل حصل الإئتلاف اليساري تحت اسم «الجبهة الشعبية الجديدة» على حوالي 28% من الأصوات، بنسبة تقارب أصوات اليمين في «التجمع الوطني» الذي حصل على حوالي 33%، والمثير للانتباه، أن افتتاحية «لو فيغارو» الفرنسية أعلنت صراحة أنها تميل لـ «التجمع الوطني» وقالت: إن خطة ماكرون في «تقسيم اليسار وعزل التجمع الوطني قد فشلت» واعتبرت «المستوى الذي وصلت إليه جبهة اليسار أضاف لمسة مثيرة للقلق» فبالرغم من المخاوف التي تراها الافتتاحية في برنامج الجبهة الوطنية، إلا أن الخطر الأكبر من وجهة نظر كاتبها يظهر بين قوى اليسار، فبالنسبة لـ «لو فيغارو» يحمل برنامج اليسار «معاداةً للسامية، وكراهية طبقية، وهستيريا مالية» بالإضافة إلى وصفه «باليسار الإسلامي» كل هذا سيجلب بالنسبة للصحيفة الفرنسية المعروفة «العار والخراب للبلاد»!.
افتتاحية «لو فيغارو» توضّح أن النخب الرأسمالية الفرنسية قادرة على رص صفوفها عندما تشعر بالخطر، والخطر الحقيقي بالنسبة لهم اليوم هو وجود جبهة يسارية موحّدة، والأخطر من ذلك، هو أن تتحول هذه الجبهة اليسارية إلى حزب جذري ببرنامج متكامل وجدي، يحمل موقفاً حازماً حول إعادة توزيع الثروة لمصلحة عموم الناس، ويرفض حالة التبعية للولايات المتحدة، ويُعيد توضيح الاصطفافات على أسس طبقية، بعيداً عن كل التقسيمات الثانوية. وما ينطبق على فرنسا يمكن أن ينطبق في إطاره العام على أوروبا كاملة، فالعدو واحد لا يمكن إخفاؤه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1182