هجوم «كروكوس» تحت المجهر
استهدفت عملية إرهابية العاصمة الروسية موسكو لتعيد التذكير بأحداث أليمة مشابهة رافقت جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق منذ تسعينيات القرن الماضي، الهجوم الذي سارعت «ولاية خراسان» التابعة لتنظيم داعش الإرهابي في تبنيه، يؤكد مجدداً على حساسية اللحظة التي تمر بها روسيا، وخطورة المساعي الغربية لتفتيتها، وخصوصاً في ظل تصريحات روسية مثيرة للاهتمام حول من يقف وراء الهجوم!
في مساء يوم الجمعة 22 آذار الجاري نفذت مجموعة من 5 مسلحين هجوماً إرهابياً في قاعة حفلات بمركز «كروكوس» للتسوق بالقرب من العاصمة موسكو، في الوقت الذي كانت القاعة تستضيف حفلاً موسيقياً بحضور 6200 متفرج تقديرياً، المسلحون بثيابهم المموهة فتحوا النار من أسلحة آلية على المدنيين، ما أوقع 143 قتيلاً على الأقل، وإصابة 152 آخرين، ليقوم المهاجمون بعدها بإضرام النيران في المكان.
تحذيرات أمريكية سابقة!
ما آثار الانتباه هو أنَّ السفارة الأمريكية في روسيا أطلقت تحذيراً غير اعتيادي قبل أسبوعين من الهجوم قالت فيه: إنَّها تراقب تقارير تفيد بأن متطرفين يخططون لاستهداف تجمعات كبيرة في موسكو، بما في ذلك الحفلات الموسيقية. وردت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في حينها على هذا البيان بالقول بأن الولايات المتحدة إن كانت تملك معلومات عن عمليات إرهابية فهي مطالبة بتسليمها إلى روسيا.
وفي التطور اللاحق للحدث، أعلن تنظيم داعش «ولاية خراسان» عن تبنيه لهذه العملية، ولم يمض وقتٌ طويل حتى أعلنت وكالة رويترز نقلاً عن «مسؤول أمريكي» قوله: إنّ الولايات المتحدة لديها معلومات استخباراتية تؤكد مسؤولية التنظيم عن الهجوم. في الوقت الذي ظهر من اللحظات الأولى اختلاف في الرواية الروسية حول مسألة أساسية، وهي تلك التي تربط الهجوم بالنظام الأوكراني.
لاحقاً، أعلنت وسائل الإعلام الروسية: إنّ السلطات الروسية وجّهت اتهامات لأربعة مواطنين من طاجيكستان، الجمهورية السوفييتية السابقة الواقعة في آسيا الوسطى، مع الإشارة إلى أن متورطين آخرين تجري مطاردتهم، وربما تعود أصولهم إلى جمهوريات آسيا الوسطى، وأن منفذي الهجوم كانوا يحاولون الانتقال إلى أوكرانيا بعد العملية.
في سياق ما يجري
المعلومات التي تتراكم حول العمل الإرهابي لم تتوقف بعد، ولكن وكما أثبتت التجربة فإن هذا النوع من الأعمال لا يستهدف أولئك المدنيين الذين قضوا في الهجوم، بل غالباً تكون غايته أكبر وأكثر خطورة، ويمكن إذا ما أعدنا ترتيب الأحداث بعيداً عن الضخ الإعلامي الذي يسعى لإغراق المتابعين بالتفاصيل، لاستطعنا أن نلحظ جملة من المسائل، الأولى: هي أن هذا الهجوم جاء بعد مدة قصيرة من الانتخابات الرئاسية الروسية، والتي راهن الغرب أنها قد تتحول إلى فرصة لخلق حالة من الاضطراب داخل المجتمع الروسي، يمكن الاستفادة منها في حالة التضييق الاقتصادي والعقوبات إلى الحدود القصوى. لكن هذا لم يحدث، وانقضت الفترة دون هزّات سياسية أو اجتماعية تُذكر.
المسألة الثانية التي ينبغي الإشارة إليها: إنّ حدثاً كهذا لا يمكن فصله عن سياق الداخلي في روسيا والمحيط الأوروبي، إذ لم تراهن الدول الغربية على هزيمة روسيا عسكرياً كما يعتقد البعض، بل كانت موازين القوى العسكرية واضحة، لكن المطلوب كان تحقيق مستويات عالية من الاستنزاف من جهة، ومحاولة الضغط على روسيا بغية تفجيرها من الداخل من جهة ثانية، فالعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة كان يمكن أن تؤدي إلى زعزعة واسعة في استقرار بنية المجتمع، لكن هذا لم يحدث، أو لم يصل إلى العتبة الضرورية للتفجير.
بالاستناد إلى هذا كلّه، كان توجيه أصابع الاتهام الروسي إلى النظام الأوكراني والدول الغربية الداعمة له منسجماً مع سياق ممتد لشهور وسنوات مضت، ولا يمكن في حالة كهذه تحميل المسؤولية السياسية الكاملة لتنظيم إرهابي، حتى وإن كانت عناصره ضالعة في تنفيذ الهجوم، فاختيار التوقيت والموقع وطبيعة الضحايا ليست مسألة بسيطة ضمن هذه الصورة المعقدة.
إفلاس أم ماذا؟
الآمال التي كانت تروّج في الإعلام الغربي حول مجريات المعركة في أوكرانيا بدأت تخفت تدريجياً، وكذلك الأمر بالنسبة لحزم العقوبات المستمرة، ومن هنا يبدو الانتقال إلى مستوى جديد بأدوات جديدة مطلوباً بعد استنفاد الأدوات السابقة، فينبغي النظر إلى مهمة تفجير روسيا بوصفها مخرج مؤقت من أزمة الغرب العميقة، وتحديداً أزمة الولايات المتحدة، أي إن تأخير تنفيذ المهمة الغربية يعني تفاقماً في الأزمة وربما انفجارها، لذلك باتت الأدوات كلها التي يمكن استخدامها ممكنة ومطلوبة.
الاستنتاج العام هذا يحتاج أيضاً للوقوف عنده، وتحديداً إذا ما نظرنا إلى طبيعة هذه «الأداة الجديدة». فمع تراجع الاتحاد السوفييتي بدأت تظهر بوضوحٍ المساعي الغربية لتفكيكه وتفكيك روسيا نفسها، وكانت إحدى أهم أدوات هذا المشروع هي تعزيز الفوالق العمودية بين الشعوب السوفييتية - الخطوة الأولى في عملية النهب الكبرى - وتحوّلت المسألة القومية إلى باب رئيسي لتفتيت المجتمع، وهو ما يظهر واضحاً لا في طبيعة التطورات السياسية في تلك الفترة فحسب، بل أيضاً في طبيعة الأنظمة السياسية التي ظهرت في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة.
محاولة جديدة لتفعيل الفالق القومي
في نظرة سريعة على معظم الأعمال الإرهابية التي حدثت في روسيا الاتحادية، يظهر بوضوحٍ أن هناك محاولة للاستثمار بالتناقضات القومية الموجودة فيها، وتحويل القوميات التي عاشت جنباً إلى جنب في الاتحاد السوفييتي إلى جيوش متحاربة، وإذا ما أعدنا استذكار خطوات النظام الأوكراني لكان واضحاً أن تعزيز الفالق القومي كان حاضراً منذ اللحظة الأولى، وجرى دفع الأوكرانيين أولاً للاقتتال فيما بينهم، ليمتد الصراع في فترة لاحقة.
بالنظر إلى هجوم «كروكوس» وخصوصاً بعد الحديث عن أن أصول المنفذين تعود إلى طاجيكستان يمكننا القول: إن الحدث قابل ليتحول إلى عامل ضغط إضافي في هذه المسألة، ففي أذهان الشعب الروسي تصبح هذه الأعمال حلقات متّصلة، ويمكن لذلك أن تزيد من مخاطر الإنفجار، وبالتالي لن يكون من المستبعد تكرار أعمال إرهابية كهذه، أو أعمال انتقامية ضد مواطنين من قوميات مختلفة.
أشار الرئيس بوتين بشكلٍ واضح إلى المسألة القومية وقال: «لن يتمكن أحدٌ من زرع بذور الشقاق والذعر السامة في مجتمعنا متعدد الأعراق» وتتبلور تدريجياً ملامح الخطوة اللاحقة، فالتصريحات لن تكون وحدها قادرة على علاج المشكلة بالطبع، بل ينبغي إعادة تنظيم الصفوف في سبيل معركة الشعب الروسي مع الغرب، وعندها فقط يمكن أن تتحول حالة السخط الناتجة عن الهجوم الإرهابي إلى طاقة جديدة يمكن ضخها في الصراع بين الشعب الروسي والغرب.
تنتشر في طاجيكستان مجموعات إرهابية متشددة، لعبت دوراً في الحرب في أفغانستان وانتقلت بعدها إلى العراق وسورية، وكان الإرهابي جولمورود خليموف، قائد القوات الخاصة الطاجيكية سابقاً، واحداً من أبرز الوجوه الذي تلقى تدريباً أمريكياً في وقتٍ سابق وانتقل إلى صفوف داعش، وتقول بعض التقارير: إن المقاتلين الطاجيكيين يتمتعون بخبرات قتالية عالية، سمحت لهم أن يؤدوا أدواراً مؤثرة في العراق وسورية، حتى أن بعضهم كانوا من الحرّاس المقربين من أبي بكر البغدادي، ويؤدي هؤلاء المقاتلون وغيرهم من الجهاديين في آسيا الوسطى دوراً فاعلاً في «تنظيم داعش - ولاية خراسان» التي تستهدف روسيا علناً، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بوكالات الاستخبارات الغربية، وتحديداً الأمريكية والبريطانية. نُسب إلى هذا التنظيم التفجير الانتحاري في السفارة الروسية في كابل، والذي تسبب بسقوط قتلى عام 2022، ووجّهت له أصابع الاتهام مؤخراً بأنه المسؤول عن التفجيرات الأخيرة في إيران، والتي أدت لمقتل 100 شخص.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1168