«طوفان الأقصى» عن أي نتائج سياسية يمكن الحديث؟

«طوفان الأقصى» عن أي نتائج سياسية يمكن الحديث؟

لم تخمد التطورات منذ «طوفان الأقصى» فالعملية التي أطلقتها كتائب القسام، وتحوّلت خلال ساعات إلى الحدث الأبرز في السنوات الماضية، وطرحت مع الإنجازات الكبرى التي حققتها، جملة من الأسئلة، ربما يكون أبرزها: إلى أين يمكن أن يصل كلّ هذا؟ وهل يمكن أن يكون «الطوفان» خطوة باتجاه حل القضية الفلسطينية؟

ربما تكمن المشكلة الأكبر التي تواجه القضية الفلسطينية اليوم، هو في حشرها في أطر «إنسانية» مجردة من أي سياق، ليصبح التنكيل الذي مارسه الاحتلال بحق الفلسطينيين والحروب التي شنها ضد دول المنطقة، وغيرها من الجوانب، ما هي إلا قضايا منفصلة لا سياق تاريخي أو سياسي لها. وتقديم هذه المسائل كلها بشكلها المجزأ هذا، يعني عرض «القضية الفلسطينية» خلف زجاج سميك في متحفٍ تاريخيٍ، في الوقت الذي ينبغي تثبيتها كقضية سياسية حيّة لا تخص الفلسطينيين وحدهم! بل تخصنا جميعاً نحن الذين عشنا في محيط فلسطين.
ما لا يمكن إنكاره اليوم، هو أن تاريخنا ارتبط بشكل مباشر بما جرى في فلسطين، وغيرت القضية شكل منطقتنا وطبيعة الأنظمة القائمة فيها، فوجود العدو الصهيوني بوصفه رأس حربة للمشروع الغربي هنا، كان يعني استنزافاً دائماً لمواردنا، وتحوّل أيضاً إلى ذريعة لتكميم الأفواه والتغطية على حصّة النهابين المتزايدة مما نملكه وننتجه، ومن هذه الزاوية تحديداً كان حل القضية الفلسطينية مسألة لازمة لا تقبل التأجيل. ومع ذلك، ظلّ الحل مجمداً لأكثر من 75 عاماً، ما فتح الباب أما تفسيرات قاصرة، وأعطى للمطبعين ذرائع من باب أن «إسرائيل» أمر واقع لا يمكن رسم مستقبل المنطقة بدونها.

ما الذي تغير في المشهد السابق؟

بالرغم من أن المقاومة لم تتوقف منذ النكبة وحتى قبلها، وظلّت إنجازاتها تغذي الأمل بمخرجٍ قريب، إلا أن واقع القضية شهد تراجعاً خلال عقود، ولفهم ما يتغير الآن، نحن مضطرون للاعتراف بأن سلسلة من الهزائم والإخفاقات أوصلتنا إلى ما نحن عليه، فخسارة حرب فلسطين في 1948 ونكسة حزيران في 1967 ثم حرب 1973 التي رغم ما حملته من إنجازات عسكرية، وإثباتها أن المواجهة مع جيش الاحتلال ممكنة، لكن نتائجها السياسية كانت كارثية، وتحديداً كامب ديفيد، وخروج مصر من المعادلة، وتحجيم دورها الإقليمي، لتتقاعس بعدها «مؤسسات الدولة» عن أي مواجهة عسكرية رغم استمرار المشكلة وتفاقمها. ما ذُكر يعتبر جزءاً من صورة أشد قتامة، فأيلول الأسود واجتياح لبنان واتفاقية أوسلو، ثم التراجع الرسمي للسلطة الفلسطينية عن الكفاح المسلح كحق مشروع، وما تلاه من انقسام بين الفصائل وشق الصف الواحد.. إلخ.
ما يصعب الاعتراف به، هو أن خسائر على هذا المستوى كانت لها هذه أثمانٌ سياسية باهظة. والاعتراف بها لا يعني على الإطلاق التنازل عن الحقوق، بل ضرورة التفكير في المخارج الممكنة والنضال من أجلها. وإذا ما حاولنا توسيع زاوية الرؤية، لأدركنا أن الهزائم كانت سمة مرافقة لفترة اختل فيها ميزان القوى لغير صالحنا، لكن المشكلة بدت واضحة أكثر حين تغيرت كفة الميزان في الاتجاه المعاكس، وبالرغم من ذلك ظل سلوك النظام الرسمي العربي يتحرك ضمن المعطيات القديمة، ما دفع قوى أخرى مختلفة لأداء أدوار جديدة على الساحة، وأثبتت بالمثال الملموس منذ تحرير جنوب لبنان أن قواعد العصر تتغير، وأننا أمام مرحلة جديدة تفرض علينا سلوكاً مختلفاً.

الميزان الدولي

يوم كانت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني دعمت سلطات الاحتلال وقتها توصيات لجنة بيل 1937، كان الهدف الغربي وقتاها واضحاً: إنهاء الدولة الفلسطينية وإلحاق ما سيتبقى منها بدول الجوار، وفي المقابل دعم قيام «دولة اسرائيل» وتقديم كل العون اللازم لذلك، لكن دخول العالم في حرب عالمية جديدة، وظهور قوى جديدة على الساحة الدولية، سمح لها أن تلعب دوراً مؤثراً، وإن لم يكن حاسماً في حينه، فرغم فشل الاتحاد السوفييتي في منع قيام «إسرائيل» إلا أنه نجح في تثبيت حق الفلسطينيين بوجود دولة مستقلة ذات سيادة، وخرج القرار 181 للعام 1947 كتعبير عن توازن قوى عالمي محدد، لكن سلسلة التطورات التالية، واختلال التوازن مجدداً لمصلحة الغرب، أعاق تنفيذ القرار، ومنع قيام دولة فلسطين، وفسح المجال مجدداً أمام توسع مستمر للكيان الذي لم ير في قرار التقسيم لحظة صدوره إلا نقطة للبداية لا أكثر، هكذا حتى وصلنا مجدداً إلى نقطة عاد فيها إلى السطح مشروع يتجاوز التقسيم، وجاءت «صفقة القرن» التي تنسب خطأً للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فالخطة كانت نسخة جديدة من مشروع الغرب الأساسي، القائم على إنهاء فلسطين وتصفية القضية على حساب أصحابها، وهنا ظهر أن التوازن الدولي القائم لا يسمح بطي القرارات الدولية حول فلسطين، بل يسمح فعلياً بإعادة طرحها على الطاولة بهدف تطبيقها، ما يعتبر فرصة حقيقية لا بد من استغلالها والتعامل معها بجدية، وهذا ما يعيدنا إلى «طوفان الأقصى» لكن ضمن سياق أشمل.

الثمار السياسية قادمة

ما أن أعلنت «حماس» عن عمليتها الأخيرة، حتى أدرك الجميع أننا أمام حدث نوعي، سيساهم في تغيير فعلي للإحداثيات، فرغم كونها ضربة عسكرية مضبوطة تلقاها الكيان، واضطر على إثرها لإعلان حالة الحرب للمرة الأولى منذ 1973، إلا أن المواقف الدولية من هذه العملية تبدو جديرةً بالمراقبة، فالحرب التي اشتعلت بين المقاومة الفلسطينية والكيان تعتبر حرباً محدودة النطاق، لكن السلوك الدولي لحظة اندلاعها كشف أن حدودها ستكون أوسع مما يبدو، فتوجهت حاملات الطائرات الأمريكية إلى البحر المتوسط، ورافقها دعم غربي شامل، وفي الوقت الذي يقول البعض: إن التحركات العسكرية الأمريكية تهدف لردع إيران، تبدو المسألة أكبر من ذلك، وتحديداً إذا ما نظرنا إلى الموقف الروسي والصيني، الذي يشترك في الهجوم على الدور الأمريكي في المنطقة، ويعتبر ما يجري دليل فشل جديد لواشنطن، ما يمهد الطريق فعلياً لإنهاء احتكارها للملف الفلسطيني، وتبدأ مرحلة انتقال الملف من أيدي أولئك الذين عملوا على تعطيل حله لعقود، إلى أيدي أصحاب المصلحة الحقيقية في حله، وتبدو اللجنة الرباعية المعطلة المدخل لهذا التحول.
ما نحاول قوله: هو أن نتائج سياسية كبيرة ستتبع «طوفان الأقصى»، ففي ظل الميزان الدولي الجديد، ستكون إنجازات المقاومة، شرطاً لازماً للانتقال إلى مرحلة تطبيق القرارات الدولية المجمدة، وستكون المعركة الدائرة حالياً حجر الأساس في قيام دولة فلسطين المستقلة.

كتب أبرز مؤسسي الكيان وقادة الحركة الصهيونية، ديفيد بن غوريون، رسالة إلى ابنه، في العام 1937، رد فيها، على بعض أفكار «الصهاينة المتحمسين» الذين كانوا يرفضون في حينه الحديث عن التقسيم حسب توصيات لجنة بيل، وخاطب بن غوريون ابنه قائلاً: «المسائل السياسية لا يجوز أن تخضع للعواطف. لأن الأمر الوحيد المفترض أخذه في الحسبان، هو ما نريد وما هو الأفضل لنا» ليكمل بعدها: «إن بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، مميتٌ وسامّ. نحن نريد تغييراً في الوضع الراهن. لكن كيف سيحصل ذلك؟ كيف سنجعل هذه الأرض لنا؟ والسؤال الحاسم الذي يطرح نفسه هنا هو: هل إن إقامة الدولة في هذا الجزء من فلسطين سوف يؤدّي إلى أو يؤخر قيام دولة يهودية؟ أفترض، وهذا هو السبب كوني من الدعاة المتحمسين لقيام الدولة [...] إن الدولة اليهودية على جزء صغير من فلسطين ستكون حكماً البداية، ولن تكون النهاية كما يميل البعض إلى الاعتقاد». عرض كلمات الصهيوني بن غوريون في هذه اللحظة بالذات يحمل معنىً مختلفاً فالكيان لم يكن يرضى بحصة من أرضِ فلسطين، لكنه قادته احتاجوا منصة للانطلاق، واستغلوا هذه المنصة جيداً، وتحولت إلى قاعدة عسكرية، شنّت الحروب واحتلت المزيد من الأراضي، وأنهت دولة فلسطين، واليوم يفتح التاريخ لنا المجال لوقف كل هذا، ودفع الأمور بالاتجاه المقابل، لتكون دولة فلسطين نقطة انطلاق لإنهاء الكيان بوصفه كياناً عنصرياً توسعياً. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1144
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين1/أكتوير 2023 15:52