هل إليزابيث الثانية «استثناءٌ» مِن قاعدة «مَن يملك يَحكم»؟
يضجّ الإعلام هذه الأيام بحدث وفاة الملكة إليزابيث الثانية، في 8 أيلول 2022 عن عمر 96 عاماً، وهي ملكة بريطانيا ومستعمراتها على مدى 70 عاماً الماضية، أو «الكومنولث» وهي التسمية المضلّلة التي تدّعي «الثروة المشتركة» بين الناهب والمنهوب، والسيّد والعبد، والمجرم والضحيّة. ولا شكّ بأنّ الصحف والمنابر الإعلامية مملوءة بآلاف المقالات والمواد عن الحدث والشخصية، ولذلك لا تهدف مادّتنا هنا إلى «تكرار سيرة» بقدر ما تنبع من ضرورة تسليط شيء من الضوء على بعض الأساطير والأكاذيب في «السيرة» التي يحاول الإعلام الغربي السائد (ومع إعلام مستعمَراته القديمة/ الجديدة بما فيها العربية) إعادةَ اجترارها وضخّها استغلالاً للمناسبة، ومن أبرزها مثلاً: القول بأنّ دور الملكة «بروتوكولي» أو «شكلي» بحت و«لم تتدخل في صنع السياسة» بزعم أنّ «الشعب يصنع السياسة ديمقراطياً عبر البرلمان»، وبذريعة أنّ بريطانيا كفّت منذ زمان بعيد عن كونها «ملكية مطلقة» وتحولت إلى «ملكيّة دستورية»، متجاهلين أنّ الملكة إليزابيث الثانية شخصياً تدخّلت بالفعل على مدى حكمها في أكثر من 1000 قانون تشريعي! (بمعدّل قانون أو أكثر شهرياً) وهذه فقط التي سُمِحَ بالكشف عنها، واليوم يتعمّدون خلق فقدان ذاكرة مؤقت بشأنها، رغم أنّ صحيفة الغارديان نفسها– وهي إعلام سُلطة– قد نشرت ملفاً حول هذه القوانين عام 2021 بحجم 88 صفحة.
تصادُف موت المَلِكة مع ضرورة موت المَملَكة
الأكاذيب لها ضرورتها الملحة من جانبهم بالطبع، ولا سيّما أنّ رمزيةً عميقة تكثّفت بشخص المَلكة التي ينطبق عهدها تقريباً على فترة ولادة ونمو وشيخوخة عالَم النصف الثاني من القرن العشرين أحاديّ القطب (الأنكلو- أمريكي)، ويتصادف أنّ موت هذه الملكة يتزامن مع احتضار المملكة نفسها الآيلة للتفكك قريباً، ويتزامن كذلك مع احتضار الإمبراطورية الأمريكية الأضخم وزناً والأكثر قيادية بلا شكّ في عالَم المنظومة نفسها، والسبب بالطبع ليس موت الملكة بحد ذاتها ولا استبدال رئيس أو رئيس وزراء هنا أو هناك، في بريطانيا أو أمريكا أو غيرهما، بل السبب هو استنفاد المنظومة الإمبريالية نفسها لصلاحيّتها التاريخية، وتفاقم أزمتها التاريخية الشاملة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحضارياً، وما زال كثيرون يجدون صعوبة في تصديق هول الزلزال التاريخي الذي يهز عالمنا اليوم: فالنخب الإمبريالية الاستعمارية العالمية فوق القومية نفسها، التي لم تكتفِ فقط بأكل مستعمراتها لحماً، بل وتواصل طحن عظامها طحناً، ولم تشبع ولن تشبع، تجد نفسها– وبعد تزايد المقـاومة لها في الخارج من قوى وشعوب العالَم الجديد الذي يولد وينهض اليوم– مضطرة أن تزيد أيضاً في افتراس حتى «أراضيها» ولحم «شعوبها» في الداخل اليوم: فنرى طقوس ترف الملوك والأثرياء وكلّ البطر والتفسّخ البرجوازي مستمراً في حياتهم ومماتهم على السواء، بينما يتزايد الجوعى والعاطلون عن العمل والموتى برداً ومرضاً.
التلاعب بالوعي عبر التلاعب بالعواطف
إحدى الظواهر الأكثر بساطة وملاحظة في الجدال الناشئ حول موت الملكة، هو بروز الاستقطاب بين خطابين: «المُعزّي» مقابل «الشامت». ويستغل المدافعون عن الاستعمار والمطبّعون معه، ميل كثير من الشعوب وفق ثقافتها إلى التعامل مع الموت بـ«الحرمة» الإنسانية الموروثة أو الدينية، لمحاولة مهاجمة عواطف المنتقدين للاستعمار، مصوّرين إياهم وكأنّهم «شامتون بالموت»، وشيطنتهم وكأنهم «بلا ضمير» أو مشاعر إنسانية. ببساطة ووضوح في حالة إليزابيث الثانية كما غيرها من ملوك وقادة الطبقات المستغلة والمستعمِرة عبر التاريخ، كما في غولدا مائير ووينستون تشرشل وجورج بوش، لا تسقط جرائمهم بالتقادم، ولا يشفع لهم الموت، أو كونهم أمهات أو آباء وما إلى ذلك... لا يغيّر شيئاً من حقيقة أنّهم ليسوا فقط ينتمون إلى شريحة اجتماعية طبقية مجرمة، بل وقياديون وصانعو قرارات وسياسات في طبقتهم والإشراف على استغلال وقتل ونهب واستعباد الملايين من البشر عبر قرون. والإنسان بوعيه الاعتيادي وبطبيعته محتاج «لتشخيص» يوجّه إليه كرهه أو حبّه، فالاستعمار أيضاً يتجسّد في أشخاص من لحم ودم وليس فكرة مجرّدة. ولعلّ أهمّ الصياغات العلمية التي تمّ التعبير عنها عن ذلك، هي فيما كتبه ماركس في «رأس المال»، عندما قال إنّ الرأسمالي عبارة عن «رأسمال مُشخَّص»، أي أنّ الرأسمال كعلاقة استغلالية تتجسّد في شخص الرأسمالي، كما عبّر ماركس أيضاً عمّا مفاده أنّ الرأسمال مسربلٌ بالدماء ومنذ ولادته من رأسه حتى أخمص قدميه، وكان هذا بالتحديد في الفصل من كتابه حول «التراكم الأولي لرأس المال» والذي ليس صدفةً أبداً أن وضع ماركس بعده مباشرة فصل «النظرية الحديثة للاستعمار» فهو ناتج عن تطوّر «التراكم الرأسمالي الأولي» تاريخياً ومنطقياً بكلّ الوحشية التي تنطوي عليها عمليات نزع الملكية والغزو الاستعماري معاً.
من يملك يحكم ويفصّل القوانين على مقاسه
وهكذا لا يمكن أن يصمد التكتيك التلاعبي الذي يحاولون شنّه على عواطفنا، ومن ثمّ على وعينا، عندما نعي ما هو دور ملكة بريطانيا، وأنها دأبت على الإشراف والتدخّل بأكثر من 1000 قانون في مجالات مختلفة من السياسة البريطانية منذ تسلمها العرش عام 1953 وحتى موتها. فلقد اعترف المقال الموسع للغارديان (المشار إليه في المقدمة) أنّ الملكة ومحاموها استخدموا صلاحية «الموافقة الملكية» الذي بموجبه يكون البرلمان ملزماً بالحصول على موافقة فرد واحد غير منتخب إطلاقاً (هو الملك أو الملكة) للنظر في مصادقة أو تعديل أو رفض مشروع قانون ما، وخاصة إذا كان يمكن أنْ يؤثر على الامتيازات والمصالح الخاصة للعائلة المالكة. وتسرد الصحيفة قائمة لأمثلة كثيرة، منها وفقًا لوثائق المحفوظات الوطنية، في السبعينيات، قيام المحامي الشخصي لإليزابيث الثانية بالضغط على الوزراء لتغيير «قانون الشفافية المالية» حتى لا يتم الإعلان عن ثروات الملكة.
هذا على الأقل يكفي ليقتنع أيّ عاقل بأنّ إليزابيث الثانية لا يمكن أن تكون «بريئة» من الجرائم التي نفّذتها الأذرع الأخرى (العسكرية والاقتصادية السياسية... إلخ) للسلطة الإمبريالية الاستعمارية الحاكمة، التي تشكّل الملكة جزءاً لا يتجزأ منها، وكل ما في الأمر أنهم يتقاسمون الأدوار فحسب، وهي شريكة بشكل مباشر أو غير مباشر بكلّ الجرائم التي ارتكبتها بريطانيا في عهدها، والتي لا يمكن لكثرتها حتى مجرّد تعدادها في مساحة ضيقة كهذه، ولذلك نكتفي فيما تبقى هنا بأمثلة قليلة.
إيرلندا الشمالية وكينيا والعالم العربي وغيرها
عام 1969 تصاعد في أيرلندا الشمالية نشاط حركة التحرر الوطني للاستقلال عن بريطانيا العظمى، وتوحيدها مع جمهورية أيرلندا، والتي جابهتها القوات البريطانية بالقمع والقتل ودام الصراع 38 عاماً قتل خلاله من الجانبين الاستعماري والتحرّري 3500 شخص. وخلال الصراع وفي 30 كانون الثاني 1972، ارتكب جيش «جلالة الملكة» مجزرة بمظاهرة سلمية في مدينة لندنديري الإيرلندية قُتل خلالهاً 13 متظاهراً سلمياً غير مسلح، بينهم مراهقون وكاهن. وماذا كان موقف جلالة إليزابيث الثانية؟ قدّمتْ جلالتها «وسامَ الإمبراطورية البريطانية» تكريماً للمقدَّم ديريك ويلفورد الذي قاد الجنود الذين ارتكبوا المجزرة بالمتظاهرين السلميّين!
بدأنا بذكر هذا المثال لما فعلته تجاه «الأقربين» (في إيرلندا)، وغني عن الذكر ما فعله جيشها في المستعمرات من استعباد ونهب وجرائم وفصل عنصري، في كينيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا إلى مصر والعراق وفلسطين المحتلة، ورغم أن الملكة الراحلة كانت لم تولد بعد عندما صدر وعد بلفور عام 1917، لكنّ مواصلة تنفيذه وتسهيل الهجرة اليهودية ودعم العصابات الصهيونية لا شكّ بأنه أمرٌ تتحمّل جزءاً مهمّاً من المسؤولية عنه.
وخلال انتفاضة «ماو ماو» المناهضة للاستعمار البريطاني في كينيا، قام جيش «جلالتها» باحتجاز 1.5 مليون كينيّ في معسكرات اعتقال مماثلة تماماً للمعسكرات النازية، مع تعريضهم لشتى أنواع التعذيب والتجويع والاغتصاب والاعتداء الجنسي والتعقيم القسري (الإخصاء). وعلى كل الأحوال في تاريخ العائلة الملكية البريطانية فضيحة لتواصل أحد أمرائها على الأقل واجتماعه بهتلر شخصياً، وهي قصة مثيرة لا مجال لتفصيلها هنا أيضاً.
نموذج من «الديمقراطية» الملكية
وفقاً لصحيفة الغارديان، في عام 1964 أظهر استطلاع للرأي العام أنّ ثلث البريطانيين الذين تم استجوابهم عبّروا بشكل جدّي عن إيمانهم بأنّ وصول الملكة إلى العرش كان لأنّ «الله قد اختارها» وليس بسبب تقاليد «الخلافة العائلية». في مثل هذه الأجواء المتخلّفة والمتعصّبة، كان يتم قمع أية إدانة أو نقد لجلالتها حتى لو كان خافتاً، وذكرت الغارديان كمثال: أنّ المؤرخ جون غريغ (اللورد ألترينشام)، مؤرّخ حزب المحافظين، تعرّض للاعتداء الجسدي عليه في الشارع في عام 1957 لمجرّد أنه كتب مقالاً في إحدى الصحف وجه فيه بعض النقد أو الشك في أن الملكة «تمتلك تدريباً كافياً» لأداء مهامها واصفاً إياها بأنها «تلميذة متعصبة»، على الرغم أنه في المقال نفسه كتب بأنها مع ذلك «تمتلك طيبة القلب وجميع الأصول الثمينة. ولكن هل ستمتلك الحكمة لتوفر لأطفالها تعليمًا مختلفًا تمامًا عن تعليمها؟ هذه أسئلة مهمة». لكن «الديمقراطية» الملكية وتربية الشعب على «عبادة الفرد» كانت أقوى من تقبّل النقد. وعلى ما يبدو هي العقلية نفسها التي جعلت قناة «بي بي سي» في أيامنا هذه وبعد وفاة الملكة تقوم بحظر وإخفاء التعليقات الناقدة (وأغلبها من شعوب المستعمرات الإفريقية السابقة) التي هطلت كالمطر على الفيديو الدعائي الذي نشره حساب تويتر «بي بي سي إفريقيا» وحاولت فيه إعادة تسمية الاستعمار بأنّه «علاقة طويلة» بين الملكة والقارة السمراء، مما أثار هجمة من السخرية والانتقاد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1087