«أوروبا» تحزم أمتعتها وتنطلق عكس التاريخ!

«أوروبا» تحزم أمتعتها وتنطلق عكس التاريخ!

تدفع دول الاتحاد الأوروبي فاتورة باهظة جداً، بعد أن انخرطت في مواجهة متعددة الجوانب مع روسيا، ويمكن القول: إن تعويض حجم الضرر الاقتصادي والسياسي الذي لحق بهذه الدول حتى الآن سيكون مهمة صعبة وطويلة، والأخطر من ذلك هو أن إمعان الاتحاد الأوروبي في سياسته هذه سوف يدفع الأمور إلى نقطة اللاعودة، حيث يصبح ترميم الأضرار عملية مستحيلة، ما يعني إعادة الأوروبيين عقوداً إلى الوراء.

تورطت الدول الأوروبية في الأحداث السياسية في أوكرانيا منذ 2014، وكان للاتحاد الأوروبي دور معلن وصريح، وقدّموا الدعم السياسي والاقتصادي والإعلامي اللازم للانقلاب السياسي، وما ترتب عليه لاحقاً من تغييرات جوهرية في بنية النظام الأوكراني، الذي عمل على قسم الشعب بدلاً من توحيده، وأرسل رسائل خطيرة إلى الجوار بعد أن أظهر نزعات قومية متطرفة، وتوجهات فاشية خطيرة، هذا بالإضافة طبعاً إلى إعلانٍ صريح النية في الانضمام إلى حلف الناتو المَقُاد أمريكياً، وما يترتب على ذلك من تهديد معروف لروسيا. قد يختلف كثيرون مع توصيف الأحداث السابقة، ويرى البعض فيها ميلاً إلى «الرواية الروسية» للأحداث، لكن ما يهمنا الآن طرحُ سؤالٍ جدي: ما هي مصلحة دول الاتحاد الأوروبي في كلّ ما جرى؟ يمكننا رصد عشرات الأمثلة تثبت بوضوح أن سياسات دول الاتحاد الأوروبي تعبّر بشكل واضح- لا عن مصالح شعوبها- بل عن مصالح الإمبراطورية الأمريكية المتداعية خلف البحار، وهو ما يؤكد مجدداً أن قادة أوروبا ما هم إلا موظفين مخلصين، جرى تثبيتهم من قبل الولايات المتحدة كممثلين عن مصالحها في القارة الأوروبية.

«دقائق الاستحمام الذهبية»

نشرت «وول ستريت جورنال» تحقيقاً يرصد تعامل أوروبا مع أزمة الطاقة، واختارت الصحفية إليزا كولينز مدخلاً مثيراً للانتباه إلى هذا الموضوع، وهو ببساطة رصد موقف بعض الأوروبيين من ضرورة تقليل وقت ومواعيد استحمامهم! ففي ظل سياسة التقشف التي تفرضها الدول الأوروبية لم يعد الاستحمام يومياً ولمدة عشر دقائق صفة للمواطن الصالح والمتحضر، بل العكس! إذ يورد التحقيق نقلاً عن صحفية هولندية أنها لا تحتاج للاستحمام سوى مرة في الأسبوع، وأنها وعلى الرغم من ركوب الدراجة يومياً لا ترى الاستحمام ضرورياً، فالمنشفة المبللة تفي بالغرض. لتكون هذه السيدة وغيرها نموذجاً للمواطن الأوروبي الصالح! هذا المثال بات جزءاً من حمّلة موسعة تقوم بها الحكومات لفرض قيود من هذا النوع، دون تقديم حلول جذرية لأزمة الطاقة المتفاقمة، وخصوصاً أن متوسط تكاليف استهلاك الأسرة الهولندية من الطاقة، حسب التحقيق ذاته، قفز من 142 إلى 503 يورو شهرياً!
«تحديد دقائق الاستحمام» جانب من خطط «طموحة» لخفض استهلاك الطاقة، والمشكلة أن أزمة الطاقة هذه ليست أزمة عابرة مؤقتة، فبحسب المسؤولين الأوروبيين سوف تستمر لسنوات، ولن تؤثر على «دقائق الاستحمام» فحسب بل ستكون لها آثار كارثية على المجتمع ونمط الحياة من جهة، وعلى الاقتصاد الأوروبي من جهة ثانية، فالمعامل مثلاً: لا تضمن توريدات طاقة مستقرة، وتشتريها في حال توفرها بأسعار باهظة، سينهي هذا- إلى جانب عوامل أخرى- أية ميزة تنافسية للصناعة الأوروبية، بل سيجعلها نشاطاً غير مجدٍ اقتصادياً! والمثير للاهتمام، أن حل هذه الأزمة نهائياً لا يمكن إلا من خلال معالجة جذر المشكلة، وهو العقوبات الاقتصادية، التي عقّدت كل أشكال المعاملات التجارية مع روسيا، وكانت المسبب في خفض نسبة كبيرة من إمدادات الغاز. لكن هذه المسألة غير موجودة على جدول أعمال القادة الأوروبيين الذين يضيفون حزمات جديدة دورياً. بل إن المثير للسخرية أنه وبحسب أنباء من مصادر غربية وصينية، تبيّن أن أوروبا تشتري شحنات من الغاز الروسي، لكن بعد رحلة طويلة وإجراءات معقدة، فروسيا تضخ الغاز الطبيعي إلى الصين عبر خط سيبيريا، وتقوم المعامل الصينية بتسيّيله، وثم تصدّر الفائض منه، وقد استلمت أوروبا بالفعل بعضاً من هذه الشحنات، وصّرح بعض المتداولين: أن الأرباح المحققة من مثل هذه الصفقة يمكن أن تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات، بل تصل إلى 100 مليون دولار في بعضها! وهي ملايين لا تكترث الحكومات الأوروبية في تحميلها لجيوب المواطنين الأوروبيين!

ما الذي تفرضه المصلحة الأوروبية؟

لا شكّ أن أزمة العلاقات بين روسيا وأوروبا أزمة قديمة، وتطورت بشكلٍ معقد منذ 2014 وما بعدها، وإن كنا لا نحاول في هذه المادة معالجة جذور هذه الأزمة وتطوراتها، أو الدور الأمريكي في تعقيدها، إلا أننا نجد أنفسنا معنيين بطرح سؤال محدد: إن كانت العلاقات بين الطرفين متوترة لتلك الدرجة وشهدت تعقداً مضطرداً خلال السنوات الماضية. فكان الأجدى للدول الأوروبية أن تبحث عن مخارج؟ لكن ما جرى كان العكس تماماً، فأبقت أوروبا الغاز الروسي كمصدر أساسي للطاقة، وتبجح القادة الأوروبيون بإغلاق محطات الطاقة النووية، مما جعلهم في الواقع أكثر اعتماداً على الغاز بوصفه مصدر موثوق. وخضعوا لـ «وصفات المناخ» الأمريكية. كل هذا جعلهم أكثر هشاشة والحلقة الأضعف في المواجهة.
كشف الرئيس الروسي في منتدى الشرق الاقتصادي عن معلومة لوسائل الإعلام، وهي: أنه يعلم بأن الإدارة الأمريكية السابقة أعلنت في مناسبات متعددة أنها ترى مصلحة في دفع الأوروبيين لشراء الغاز الأمريكي المسال، ورأت في الفرق الكبير بين سعره وسعر الغاز الروسي المنقول بالأنابيب «كبدل أتعاب طبيعي عن الحماية الأمريكية لأوروبا». لا يعبّر هذا التوجه عن الإدارة السابقة وحدها، بل هو رغبة أمريكية نجحت الإدارة الحالية في فرضها على الأوروبيين. ولم يكن الهدف تحقيق مكاسب مالية، بل لأهداف سياسية بعيدة المدى تضمن واشنطن من خلالها تحييد الأوروبيين من المنافسة على الساحة العالمية، وتحويلهم إلى وقود لتغذية النار المشتعلة بوجه موسكو.

في العودة إلى المصلحة الأوروبية يدرك الجميع، أن شراء الغاز الطبيعي أرخص بحوالي 30% من شراء الغاز المسال، وإن هذا الفرق بين السعرين يمكن أن يكون حاسماً في مستقبل الاقتصاد الأوروبي، وخصوصاً أن الغاز المسال الموجود في السوق العالمي لا يكفي لتأمين الطلب الأوروبي. المصلحة العميقة لأوروبا لا يمكن أن تكون في المواجهة مع روسيا، وهو ما كان يفرض على حكام أوروبا البحث عن أرضية مشتركة للتفاهم، لا تأجيج الصراعات التي زرعتها أمريكا! ومن هذه النقطة تحديداً يمكننا القول بأن القيادة السياسية في أوروبا ستهتز حتى تسقط لا بسبب روسيا، بل لأنها اهتمت بمصالح واشنطن أكثر من اهتمامها بمصالح الشعوب التي تمثلها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1087
آخر تعديل على الإثنين, 12 أيلول/سبتمبر 2022 12:49