بريطانيا ووهم استعادة المستعمرات

بريطانيا ووهم استعادة المستعمرات

تتطور الأحداث بعد الهجوم الذي تعرضت له ناقلة النفط المملوكة للكيان الصهيوني «ميرسير ستريت» قبالة سواحل سلطنة عمان في آخر شهر تموز الماضي، فبعد أن حمّل الكيان الصهيوني وبريطانيا والولايات المتحدة إيران المسؤولية عن الهجوم وعن حياة قبطان الناقلة الروماني، وحارس الأمن البريطاني تنتقل القصة اليوم إلى جزءٍ جديد أكثر تشويقاً.

نشرت قاسيون في العدد 1030 مقالاً بعنوان «ناقلات النفط مجدداً.. هل سينجح مشعلو الحروب هذه المرة؟» والذي أشار في أحد جوانبه إلى احتمال ضلوع بريطانيا والكيان الصهيوني بجملة من العمليات الاستخباراتية في منطقة الخليج والمضائق الاستراتيجية القريبة، بهدف توريط الولايات المتحدة بمعارك جديدة في المنطقة، مما يؤخر انسحابها الجاري، والذي يهدف حسب تصريحات المسؤولين الأمريكيين إلى نقل قواتهم إلى خنادق جديدة لمحاولة كبح الصين والتضييق عليها. لا شك أن الفرضية المذكورة هي واحدة من فرضيات كثيرة لتفسير التوتر الجاري، فالسؤال لا يتمحور حول الجهة التي استهدفت الناقلة الصهيونية، ولا البحث بالأحداث الأمنية الأخرى التي روجتها بريطانيا، والتي جرى استعراضها بالمقال المذكور، بل إن السؤال الذي ينتظر الإجابة فعلاً: كيف يجري استثمار هذه الحادثة، وما الذي تسعى له بريطانيا والكيان الصهيوني؟

الفصل الجديد من القصة

أعلنت بريطانيا عن فصل جديد للقصة، فبعد أن أكدت أنه «من المرجح للغاية» وقوف إيران وراء استهداف الناقلة «ميرسير ستريت» وأنها المسؤولة عن سلسلة الأحداث المريبة التي حدثت حسب الرواية البريطانية في الأيام التالية، مثل: محاولة اختطاف الناقلة «أسفلت برينسيس»، أعلنت الديلي اكسبريس البريطانية في 8 من شهر آب الجاري أنه «من المعتقد أن الحوثيين المدعومين من إيران هم من نفذوا العمل الوحشي بأوامر من طهران» وعلى أساس هذه الرواية قررت بريطانيا ضرورة مطاردة المسؤولين عن هذا الهجوم داخل الأراضي اليمنية، وأرسلت حسب الديلي اكسبريس 40 عنصراً من القوات الجوية الخاصة البريطانية لتنفيذ هذه المهمة، الذين نزلوا في مطار الغيضة في المهرة شرقي اليمن، و يضمون في صفوفهم متخصصين في الاستخبارات الإلكترونية.
لا يعتبر التدخل البريطاني في حرب اليمن حدثاً جديداً، لكن بريطانيا تسعى لتدعيم هذا الوجود، ويرى بعض المراقبين: أن الإعلان عن نشر عناصر من القوات الخاصة البريطانية إنما هو خطوة أولية لمرحلة لاحقة ستشهد توسيعاً للوجود العسكري في اليمن، وتحديداً أن «رواية المطاردة» الساذجة هذه باتت مألوفة ويدرك الجميع أنها كذبات اعتادت بريطانيا وغيرها من الدول الغربية تقديمها لتبرر تدخلاتها العسكرية في العالم. لكن السؤال: هل يكفي اليوم ترويج الأكاذيب حتى تنجح الخطة؟

العبرة في التاريخ!

استحضر عدد من الصحف حادثة تاريخية شهيرة، في العام 1839 قالت بريطانيا: أن سفينتها التي تحمل اسم داريا دولت، تعرضت للهجوم والسرقة بعد أن جنحت إلى القرب من سواحل عدن، واتهمت الامبراطورية الاستعمارية اليمنيين بسرقة السفينة وإلحاق الضرر بها مما أدى لغرقها، وتحولت هذه الحادثة إلى الذريعة الرسمية التي اعتمدت عليها بريطانيا في رحلة السيطرة على اليمن، التي استمرت لأكثر من 127 عاماً، بدأت من احتلالها لميناء عدن بعد مقاومة شرسة من سكان المنطقة.
درجة التشابه بين رواية داريا دولت في القرن التاسع عشر ورواية ميرسير ستريت بعد قرنين من الزمن أنتجت ردات فعل واسعة، فالاستعمار البريطاني لم يخلف إلا الذكريات البشعة لأقسى أشكال الاستغلال، ولذلك لا يصعب علينا التنبؤ بما ستلاقيه بريطانيا من مقاومة شرسة لمحاولات التوسع هذه، فالذاكرة الجمعية لشعوب المستعمرات السابقة تحفظ حتى اليوم، سبيل التصدي للاستعمار، وتمد أبناء اليمن وغيرهم بالأدوات النافعة التي استخدمها أجدادهم.

حمّى الطرق البحرية

سيطرة بريطانيا على ميناء عدن 1839 لم تكن حدثاّ منفرداً بل كانت مرحلة من خطة استراتيجية شاملة وضعتها للبناء والسيطرة على الطريق البحري الواصل بين أوروبا والهند، فالسيطرة على عدن كانت مهمة مرحلية مثلها مثل السيطرة على قبرص 1878 واحتلال مصر عام 1982 الذي سمح لها بالسيطرة على مفتاح الطريق البحري، أي قناة السويس. بريطانيا التي احتاجت الطريق البحري لفرض سيطرتها على آسيا ونقل ثرواتها إلى أوروبا خسرت نفوذها بشكل تدريجي بعد الحرب العالمية الثانية لصالح الولايات المتحدة، والتي ورثت الطرق البحرية واستخدمتها للغرض ذاته مع بعض التعديلات. فيبدو أن بريطانيا تحاول التكيّف مع التراجع الأمريكي بطريقتها، أي عبر سعيها لاستعادة جزء ما من نفوذها في مستعمراتها السابقة، ويبدو أن لدى بريطانيا ما يكفي من الأوهام للتفكير بأنها قد ترث الطريق البحري مجدداً، كما لو أن التاريخ دولاب يدور دون توقف ويكرر الأحداث ذاتها دون أدنى تغيير!
بعد أن تبنت حكومة بوريس جونسون الوثيقة المعنونة «بريطانيا العالمية في عصرٍ تنافسي: المراجعة المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية» التي أعدت بإشراف المؤرخ جون بيو، بوصفها الرؤية الجديدة لفصل جديد من تاريخ بريطانيا، كان واضحاً تركيز بريطانيا الشديد على منطقة «الهندي- الهادي» فالوثيقة ترى أن هذه المنطقة شديدة الحساسية بالنسبة للمملكة المتحدة على صعيد أمنها واقتصادها، ولذلك وضعت هدفاً بضرورة زيادة التواجد البريطاني فيها لضمان موقعها كأكثر الأطراف الأوروبية تواجداً، لذلك كان من الضروري حسب الوثيقة «تعميق العلاقات» مع اليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وفيتنام وماليزيا وسنغافورة، بالإضافة إلى التعاون مع من وصفتهم الوثيقة بالـ شركاء الإقليميين لضمان أمن الطرق البحرية عبر تعزيز مشاركة قواتها الأمنية والعسكرية.

الأوهام ومآلاتها

يدرك العلم اليوم، أن معركة الناقلات التي تبدو كأنها مواجهات بين إيران والكيان الصهيوني هي في حقيقة الأمر مواجهات بين العالم القديم والعالم الجديد، فالموضوع الأساسي هو الطريق البحري الذي كان أبرز الأدوات الغربية في السيطرة على العالم وتجارته، وسقوط هذا الطريق تحت سيطرة القوى الصاعدة في العالم يعني كسر إحدى أيقونات نهب المستعمرات. ولذلك ترى بريطانيا نفسها أول المعنيين بالأمر. فالخروج الأمريكي يعني بشكلٍ من الأشكال تخفيف الحراسة على الطريق البحري، ويعني أن دولاً مثل الصين وإيران سترى في ذلك فرصة لإحكام قبضتها على هذا الطريق الذي يستخدم حتى اللحظة في حصارها والتضييق عليها، بعد أن بدأت العمل على إيجاد البدائل البرية له. لتجد بريطانيا نفسها أمام واقعٍ جديد أقسى من ذلك الذي تلا الحرب العالمية الثانية. ومن هنا يجب أن تدرك، أن المؤرخين لا يصلحون دائماً لوضع استراتيجيات المستقبل. فكان أجدى بالباحثين الذين وضعوا استراتيجية جديدة لبريطانيا الاستعمارية أن يأخذوا بعين الاعتبار أزمتهم الداخلية، التي لن تسمح لهم حتى بالتفكير بإعادة السيطرة على المستعمرات السابقة، وأن يدركوا أن بريطانيا تستطيع اليوم أن ترسل 40 مقاتلاً لتنفيذ مهامها الإستراتيجية بدلاً من الأساطيل ومئات الآلاف من المقاتلين. وعليهم أن يدركوا أيضاً أن الولايات المتحدة تنسحب لا عن رغبة فحسب، بل تحت وقع أزمتها وهزائمها المتلاحقة، وهذا ينطبق أيضاً على الكيان الصهيوني الذي لا يكفي لأن يعيق تقدم قوى دولية كبرى، وخصوصاً أن أزمته الداخلية لا تسمح له بالتصدي للأخطار الإقليمية المحدقة به.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1031
آخر تعديل على الإثنين, 16 آب/أغسطس 2021 23:14