ناقلات النفط مجدداً.. هل سينجح مشعلو الحروب هذه المرة؟
تعرضت ناقلة النفط «ميرسير ستريت» التابعة للكيان الصهيوني لهجوم من قبل طائرات مسيرة مجهولة قبالة سواحل سلطنة عمان، وارتفعت حدة التوتر مع توجيه أصابع الاتهام إلى إيران التي تنفي مسؤوليتها حول الهجوم، لتكون مياه الخليج الاستراتيجية أمام احتمال تجدد «حرب الناقلات».
لم يأخذ الكيان الصهيوني وقتاً طويلاً حتى وجّه اتهاماً لإيران بالهجوم على ناقلة النفط التي كانت ترفع علم جمهورية ليبيريا، وخلصت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الاستنتاج ذاته، ليخرجوا علينا بالتصريحات المألوفة التي تقول بأنه «من المرجح» أن تكون إيران خلف الهجوم، وتبدأ الدول الثلاث جولة من التصعيد الدولية ترافقت بالإبلاغ عن حوادث «غريبة» في مياه الخليج.
ما الذي يجري؟
تعرضت ناقلة النفط المذكورة لهجوم يوم الخميس في 29 من شهر تموز الماضي، وعلى الرغم من أن ناقلات النفط والسفن التجارية كانت عرضة للاستهدافات والمضايقات في السنوات الماضية، وتحديداً أثناء الاعتداءات التي جرت العام الماضي في منطقة الخليج العربي، إلا أن للهجوم الأخير نكهة مختلفة، فالهجوم تم عن طريق طائرات مسيرة وصفتها التصريحات المختلفة بأنها تتمتع بتقنيات متطورة، بالإضافة إلى أن الهجوم تم على مرحلتين، فبعد أن هاجمت الطائرة الأولى الهدف، وتم إسقاطها سارعت طائرة انتحارية أخرى لتكرار الهجوم الذي أدى إلى سقوط قتيلين على متن السفينة وهما قبطانها روماني الجنسية، وأحد عناصر الأمن على متنها، والذي يحمل الجنسية البريطانية. لكن الأحداث لم تتوقف هنا، فوكالات الأنباء الغربية تنقل أنباءً منسوبة إلى مصادر مختلفة عن أحداث أخرى جرت في الأيام التي تلت الهجوم على «ميرسير ستريت». فأعلنت وكالة الأمن البحري البريطانية التي استندت إلى «طرف ثالث» لم يتم إعلانه عمّا اعتبرته «محاولة اختطاف» للسفينة «أسفلت برينسيس» التي كانت متجهة إلى الإمارات العربية المتحدة، وتقول الرواية البريطانية: إن مجموعة من المسلحين صعدوا إلى السفينة في الوقت الذي قامت عدة سفن أخرى في المنطقة بوضع نفسها في حالة «تتبع نظام AIS» التي تعني أن السفن فقدت السيطرة، ولم يعد بالإمكان قيادتها. ليتم الإعلان لاحقاً من قبل وسائل إعلام أمريكية وبريطانية أن المسلحين المجهولين فروا من السفينة بعد أن حاولوا اقتيادها إلى إيران حسب زعم المصادر ذاتها.
وفي الوقت الذي تصر فيه الدول الثلاث على مسؤولية إيران عن هذه الحوادث، تنفي الأخيرة ذلك وترى في الرواية الغربية «تفاصيل مشبوهة» وأكدت إيران في تصريحٍ على لسان المتحدث باسم القوات المسلحة اللواء أبو الفضل شكارجي: أن إيران لن تتردد في إعلان مسؤوليتها عندما تقرر الهجوم على الأعداء، «وستعلن ذلك بصورة واضحة كما فعلت في عين الأسد» عندما ردت القوات الإيرانية على اغتيال قاسم سليماني بضرب القاعدة الأمريكية الشهيرة في العراق.
من يقف وراء الهجوم!
السؤال الذي تحاول الدول الثلاث التي تقود حملة التصعيد ضد إيران إيهام العالم بأنه سؤالٌ سهلُ الإجابة، يبقى شديد التعقيد ويحتاج إلى معلومات استخباراتية كثيرة قبل تقديم جواب حاسمٍ حوله. فمن حيث المبدأ العام يمكن لإيران أن تقرر توجيه ضربات عسكرية للسفن مرتبطة بالكيان الصهيوني وتحديداً في مياه الخليج، ولا نحتاج الكثير لإثبات وجود نية سياسية لإقلاق راحة الكيان، وخصوصاً أن القدرات العسكرية الإيرانية تسمح بذلك، ويأتي ذلك بعد محاولات الكيان لإيجاد موطئ قدمٍ له في دول الخليج العربي التي كانت خطوة للضغط على إيران والتضيق عليها، وهذا ما فرض على طهران أن تتعامل معه بحزم شديد لما يشكله من خطرٍ حقيقي على أمنها القومي، وفي الوقت الذي يركز الهجوم الدول الغربية على إيران بأنها تؤثر بسلوكها المزعوم على استقرار التجارة العالمية وأمن السفن التجارية التي تعبر المنطقة الاستراتيجية هذه، تتجاهل أن المطلوب كان دائماً إيجاد أرضية للتفاهم بين الدول المطلة على الخليج، والبحث عن العوامل التي تزيد من استقرار المنطقة، وتزيد درجة الثقة بين دولها وهو عكس السياسات البريطانية والأمريكية والصهيونية في المنطقة.
الوضع المتوتر بين الكيان الصهيوني وإيران خلق مناخاً كثرت فيه العمليات الاستخباراتية التي حاول الطرفان من خلالها تقويض عوامل استقرار وتفوق الطرف الآخر. لكن هذا لا يكفي لتحديد المسؤوليات حول هذا الحدث أو ذاك. فالأحداث التي تلت استهداف ناقلة النفط بدت بشكلٍ واضح كما لو أنها جزء من حملة غربية تقليدية، تلك التي تخلق حدثاً ما لتحاول استثماره إلى حدوده القصوى، حتى ينسى الجميع السبب الأول الذي تطورت منه الأحداث، هذا لا يعني أن نحرم إيران من شرف استهداف ناقلات النفط الصهيونية والترويج إلى أنها «بريئة من هذا الاتهام»، بل يعني وضع الشبهة على «المصادر» الأمريكية والبريطانية التي حاكت مكائد كثيرة في تاريخنا القريب.
لكن ما الذي يحاول التحالف الثلاثي «الكيان الصهيوني وبريطانيا والولايات المتحدة» فعله الآن؟
تصعيد في الدوائر الدولية
أعلن وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب في مطلع شهر آب الجاري: أن بلاده تطالب مجلس الأمن الدولي باتخاذ إجراءات بحق إيران على خلفية اتهامها بالهجوم، وقد وجهت بريطانيا إلى جانب رومانيا وليبيريا رسالة مشتركة لمجلس الأمن جاء فيها أنه «من المرجح للغاية» أن تكون إيران هي من وقفت خلف الهجوم، وعلى ذلك يجب حسب مطالب لندن معاقبة إيران على ذلك، ويجري مجلس الأمن مشاورات حول القضية. في الوقت نفسه أصدرت دول مجموعة السبع بياناً في السياق ذاته يدين إيران ويحملها المسؤولية. لتكتمل هنا ملامح الخطوة الغربية التالية، وهي ما أعلنت عنا بريطانيا وهو «بحث
سبل الرد». فالمحاولة الغربية من التصعيد واضحة، وهي دفع الأمور باتجاه تصعيد عسكري، وهو ما بات يدور الحديث حوله بعد صدور «تلميحات» رسمية «حول دراسة إمكانية الرد».
فالخيار العسكري للتعامل مع «المشكلة الإيرانية» كان يدور دائماً وكان موضوعاً على طاولة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في آخر موجة من التصعيد، بعد أن أعاده إلى الدرج، وها هي الأمور تعود بسناريو يتطابق إلى حدٍ بعيد مع السيناريو السابق، فهل سيتحول هذا الخيار إلى أمرٍ واقعٍ فعلاً؟ وتتحول المنطقة إلى ساحة لصراعٍ عسكريٍ بهذا الحجم؟
أولئك الساخطون من الانسحاب الأمريكي!
من المثير للانتباه في سلسلة الأحداث الأخيرة هو أن الولايات المتحدة لا تحتل الصفوف الأولى كالعادة بين جمهور المنددين والغاضبين من السلوك الإيراني، فعلى الرغم من أنها وافقت على اتهام إيران، وأنها «أدلت بدلوها» وقدمت «دلائل تثبت ضلوع إيران فيما يجري» إلا أنها تبدو أقل حماساً من المعتاد! بل الأكثر من ذلك أن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس قال في مؤتمر صحفي يوم الأحد 8 آب الجاري، بأنه من «السابق لأوانه الحكم على التقارير عن احتجاز ناقلة بالقرب من السواحل الإماراتية» تلك الرواية التي قدمتها بريطانيا وروجت لها. وأكد برايس أيضاً استعداد الوفد الأمريكي للعودة إلى مفاوضات فيينا. ففي الوقت الذي يؤكد وزير الخارجية مسؤولية إيران عن الهجوم الأخير، ويؤكد أن بحثاً جارياً مع دول المنطقة ودول أخرى لبحث الرد المناسب، لا تتبنى الولايات المتحدة الرواية البريطانية والصهيونية الكاملة حول الحادثة، ولم تجر تغييراً في خطابها حول ضرورة إنجاز الاتفاق النووي مع إيران.
يصعب الجزم الآن بجوهر الموقف الأمريكي، وكيف سيتطور التصعيد الأخير. لكن من المؤكد أن الانسحاب الأمريكي الجاري من المنطقة لا يرضي بعض الأطراف، وبات واضحاً أن بريطانيا والكيان الصهيوني لا يشعران بالاطمئنان لشكل العالم بعد أن تنجز الولايات المتحدة انسحاباتها الواسعة، فبريطانيا تشعر بالقلق لوضع أوروبا بدون الولايات المتحدة الأمريكية، وتشارك الكيان الصهيوني قلقه للتوازنات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط بعد إغلاق القواعد الأمريكية فيها. مما يجعل فكرة جر الولايات المتحدة لنزاعات عسكرية في المناطق التي تنسحب منها أمراً مغرياً بالنسبة لهم، وتعتبر حدث «الاختطاف» و«الاعتداء» على ناقلات النفط أمراً مفيداً بغض النظر عن الجهات التي تقف خلفه. فهو تهديدٌ لمصالح الولايات المتحدة التي تعتمد على الطرق البحرية بإطباق قبضتها على العالم ويعتبر سبباً كافياً لتحريض داخل مراكز القرار الأمريكية مما قد يشكل عامل ضغطٍ على عملية الانسحاب من بعض المناطق التي اعتادت على تواجد القوات الأمريكية. لكن وبغض النظر إن صحت هذه القراءة، لا يعتبر الظرف الحالي ظرفاً مؤاتياً لتصعيد كهذا، فعلى الرغم من الآثار الخطيرة لحربٍ أو تصعيد عسكري واسعٍ في المنطقة، تعتبر ضبابية نتائجها أمراً شبه حاسم في اتخاذ قرار الحرب. بالنسبة للكيان الصهيوني يمكن الاستشهاد بالتوصيف الدقيق الذي قدمه القائد العام لحرس الثورة الإيراني اللواء حسين سلامي، الذي اعتبر أن «الارضية مهيأة الآن لانهيار الكيان الصهيوني ويكفي أن يصدر منه خطأ ما وستكون حرب موتهم» وهذا ما يمنع الكيان من التصرف منفرداً. أما بالنسبة للذين يرون أن التصعيد الأخير يمكن أن يؤخر تمظهر التوازن الدولي الجديد، فيجب أن يدركوا أيضاً أن هذه ليست المحاولة الأولى للتصعيد، وقد سبقها عددٌ كبيرٌ، ولم تصل المحاولات إلى مبتغاها، بل إن فشل أية محاولة جديدة للتصعيد إنما يثبت القواعد الجديدة للعبة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1030