بحر الصين الجنوبي ولعبة الشطرنج الهادئة!

بحر الصين الجنوبي ولعبة الشطرنج الهادئة!

يبدو وصف الهدوء غير لائقٍ لإحدى أسخن بقاع الأرض! وهو بلا شك يحمل بعض المبالغة نظراً لأن بحر الصين الجنوبي هو أحد الساحات التي يمكن لها أن تتحول إلى مسرح لمواجهة عسكرية صينية- أمريكية. ومع ذلك يبدو الهدوء واضحاً عند النظر إلى «الرقعة الكاملة» ولكن أكثر مباريات الشطرنج هدوءاً قد تكون أكثرها فتكاً!

لا يمكن الإقرار بأن العالم وموازين القوى تتغير دون أن نتوقع تمظهرات واضحة لهذه التغيرات، ولا يمكن القول أيضاً بأن الأطراف التي لا تلائمها هذه التغيرات لن تبدي مقاومة هائلة. فالانزياحات التكتونية الجارية سترافقها بالحدود الدنيا احتكاكات، وفي حدودها القصوى صدامات عسكرية بنتائج كارثية. وهذا- ولحسن الحظ- ما يدركه الجميع رغم التصرفات المتهورة التي يقوم بها البعض!

معضلة الصين

يمكن تكثيف هذه المعضلة ببضع كلمات مضبوطة: الصين هي المستهلك الأكبر للطاقة، ولا تملك موارد تكفيها، ففرضت عليها الطبيعة استيراد الجزء الأكبر من احتياجاتها من الخارج. وما يعقد المشكلة الصينية هذه، هو أن الولايات المتحدة لا تزال تسيطر على الطرق الرئيسة لنقل الطاقة المعتمدة حتى اللحظة. ومن هذا التكثيف لطبيعة المشكلة كان على الصين النظر إلى الخريطة وإيجاد مخارج من هذا المأزق، كي لا تستخدم هذه الثغرة في الحرب ضدها، ولا تجد نفسها مضطرة لتقديم التنازلات.

فما هي الإستراتيجية الصينية للخروج من مرمى النيران المباشر هذا؟ فالمنطق يقول: إن أمام الصين ثلاثة احتمالات، الأول: إيجاد طرق جديدة تحت رعاية وحماية صينية تضمن لها استقرار وارداتها النفطية، الاحتمال الثاني: يقول بإنهاء السيطرة الأمريكية على الممرات البحرية التقليدية التي يجري نقل النفط عبرها إلى الصين وشرق آسيا، من الخليج العربي عبر خليج عمان إلى المحيط الهندي فمضيق ملقة وصولاً إلى البر الصيني، أما الاحتمال الثالث: هو أن تجد الصين مصادر خاصة للطاقة لكيلا تكون محكومة باستيرادها فحسب، ويمكن لهذه المصادر أن تكون إما انتاج الطاقة النظيفة وإما أن تكون عبر استثمار مصادر جديدة للطاقة الأحفورية.
وبعد تثبيت هذه الاحتمالات الثلاثة يمكننا القول: إن الصين تحولها مجتمعة إلى واقع، وتبدو الخطة الإستراتيجية الصينية في هذا الخصوص خطةً مضبوطة ومحكمة قابلة للتنفيذ عبر مراحل زمنية متتالية، ومناورات تكتيكية مدروسة. يمكن لنا نقاش كل واحدة منها بشيء من التفصيل:

الممرات البديلة

على الرغم من متانة العلاقات الروسية الصينية، إلا أن روسيا لن تكون كافية كمورد للطاقة لأن الصين تحتاج ما يعادل الإنتاج الروسي كاملاً. فروسيا تنتج ما يقارب 11 مليون برميل في اليوم، وتستهلك الصين ما يقارب 12 مليون برميل يومياً! أي: إن كامل الإنتاج الروسي لن يكفي لسد الطلب الصيني، بالإضافة إلى استحالة اعتماد روسيا على السوق الصيني كسوق وحيدة لتصريف نفطها لما يحمله هذا من خطورة، مما سيضر بعلاقات روسيا مع العديد من الدول الأخرى التي تعتمد عليها كمصدر موثوق للطاقة. لكن هذا لا يمنع الصين بالتأكيد من استيراد جزء من احتياجها من الأراضي الروسية عبر خط أنابيب لنقل الغاز من سيبيريا إلى الأراضي الصينية.

بالإضافة إلى روسيا تسعى الصين إلى التعاقد مع إيران التي تحتاج منفذاً لبيع إنتاجها من الطاقة، ويجري العمل على هذا المشروع عبر تطوير موانئ بحرية، وعبر سعي البلدين إلى مد خط أنابيب من إيران إلى الصين يمر عبر آسيا الوسطى، وعلى الرغم من أن هذا المخطط لم يجر تطبيقه حتى اللحظة، لكن حظوظه كبيرة بالفعل، ويجري تذليل العقبات التي تقف في وجهه بخطوات سريعة، تعكس عزم البلدين لزيادة حجم التعاون الإستراتيجي فيما بينهما. فتكون الصين إذا أنجزت هذه الخطة بنجاح قد أمنت طرق إمداد للطاقة بعيدة عن متناول اليد الأمريكية.

بحر الصين الجنوبي مفتاح للحل

لفهم أهمية بحر الصيني الجنوبي، لابد من ذكر بعض المعلومات الاقتصادية والسياسية الهامة حوله، فتعتبر مياهه من أكثر المناطق المتنازع عليهاـ إذ تشرف على بحر الصين الجنوبي كل من الصين والفلبيين وماليزيا وفيتام وتايوان، وإن كان لا مجال حالياً لذكر مطالب الأطراف في مياه هذا البحر، وكيف يجري حل هذه الخلافات، يمكننا توصيف الأمر الواقع والانطلاق منه، فالصين تسيطر على 90% من مياه هذا البحر الآن، وتعتبر مشاكلها مع جيرانها كثيرة جداً في هذا الخصوص، لكن المحرك الأساس لهذه النزاعات يكمن في أهمية هذا البحر تحديداً. فهو يحوي كمية هائلة من الثروات، تقول تقديرات الشركات الصينية: إن النفط الخام الموجود يمكن تقديره بما يقارب 125 مليار برميل، بالإضافة إلى تقديرات تصل إلى وجود 500 مليار متر مكعب من الغاز، وقد جرى تثبيت وجود حوالي 12 مليار برميل من النفط الخام، وما يقارب 190 مليار قدم مكعب من الغاز.

أي: إن الحدود الدنيا لثرواته تعد مورداً ضرورياً للصين لا يمكن الاستغناء عنه، أما الجانب الآخر من ميزات هذا البحر كونه معبراً أساساً للنفط إلى شرق آسيا التي تقول التقديرات: إنها ستستهلك 90% من الإنتاج العالمي، أي: إن لمياه البحر أهمية إستراتيجية وتجارية قيّمة، فحجم التبادلات التجارية التي تجري ضمنه وصلت إلى 5 مليارات دولار. ويحوي أيضاً ما يعادل 10% من كمية الأسماك الموجودة في العالم.

التواجد الأمريكي في «الصين الجنوبي»

بعد النظر إلى القيمة الإستراتيجية لبحر الصيني الجنوبي، يصبح من السهل إدراك المهمة الموكلة إلى البحرية الأمريكية المتواجدة هناك، والتي ترى فيها الصين تهديداً لمصالحها وبالقرب من شواطئها! بل يصبح من السهل إدراك أن السعي الصيني للتحرر من ورقة التهديد الوحيدة التي تملكها واشنطن ضدها– عوز الصين للطاقة وضرورة استيرادها– سيصطدم بلا شك عاجلاً أم آجلاً بالسفن الحربية الأمريكية الموجودة فوق سطح هذه المياه.

ترى الصين، أن جزيرة تايوان- والتي تعرف باسم «جمهورية الصين» - جزء من بلادها، والتي جرى فصلها كنتيجة لسلسلة من الأحداث، ويدعم مجلس الأمن الموقف الصيني في قراره رقم 2758 الصادر في العام 1971، إذ تعتبر «جمهورية الصين الشعبية» صاحبة الأحقية بمقعد تايوان في مجلس الأمن. ومن السهل أن نستنتج حماسة الولايات المتحدة الأمريكية للعب دورٍ سلبي في هذا لنزاع، بل ترى بكين أن واشنطن هي المحرك الأساس لهذا النزاع والداعم الأكبر للقوى القومية المتطرفة في الجزيرة التي لا يفصل بينها وبين جمهورية الصين الشعبية سوى مضيق فورموزا الذي يصل في أعرض نقاطه إلى 140كم2.

رغم أن القوى السياسية في تايوان لا تتفق على موقف موحد من الصين، وتعد العلاقات مع الوطن الأم أحد أهم المواضيع الخلافية في الجزيرة، تستغل واشنطن وجود أرضية خصبة لتغذية النزاع، ولتقوم باستغلال هذه الجزيرة على مر التاريخ. فالولايات المتحدة لا ترى في تايوان حليفاً لها.. بل ترى فيها مادة للابتزاز لا أكثر، ويبدو هذا واضحاً إذا ما أجرينا مراجعة للتاريخ: فواشنطن كانت على استعداد للتخلي عن تايوان كثمن للتقارب الأمريكي- الصيني في سبعينات القرن الماضي! أما اليوم ومع التغيير في إستراتيجية واشنطن، أدركت الأخيرة أن تايوان يمكن أن تستخدم مجدداً كورقة ضغط ضد التنّين الصيني القادر على حسم هذه المسألة عسكرياً– وهو ما لا يتردد السياسيون الصينيون من تكراره– دون أن تأبه من أن تغذية هذا الصراع لن يكون في مصالح أكثر من 23 مليون إنسان يقطنون هذه الجزيرة والذين سيتحملون العبء الأكبر من أي نزاع عسكري يمكن أن يجري!

موجة التصعيد الجديدة

كانت الولايات المتحدة أعلنت في وقت سابق من العام الماضي عزمها على تصدير السلاح إلى تايوان. أما اليوم، فيجري الحديث عن أن البيت الأبيض يسعى إلى توقيع 3 اتفاقات لتوريد أسلحة متطورة إلى تايوان، وهذا ما أكدته وكالة رويترز التي نقلت أن «ما يصل إلى 7 أنظمة أسلحة رئيسة تشق طريقها في عملية التصدير الأمريكية مع تكثيف إدارة ترامب الضغوط على الصين»، وكانت السفارة الصينية في واشنطن قد علّقت على هذه الأخبار، بأن بكين تعارض باستمرار مبيعات الأسلحة لتايوان.

وأرسلت الولايات المتحدة، في خطوة استفزازية، المدمرة «جون ماكين» لتبحر بالقرب من جزر باراسيل في الحد الفاصل بين تايوان والصين، وعلى إثر ذلك طالب متحدث عسكري صيني بوقف الأعمال الاستفزازية، وأعلن مطالبة بلاده للولايات المتحدة «بالوقف الفوري لمثل هذه الأعمال الاستفزازية وفرض سيطرة صارمة وقيود على العمليات العسكرية في البحر والجو»، وبغض النظر إذا كانت الولايات المتحدة ستستمع للنصيحة الصينية وتوقف هذا النمط من الأعمال، سيكون الاحتمال قائماً لحدوث صدامٍ بين واشنطن وبكين.

في الختام

مع كل السيناريوهات المطروحة، سيكون الخروج الأمريكي من بحر الصين الجنوبي أمراً حتمياً، لتكون بذلك بكين قد أنجزت خطوة إستراتيجية رابحة جديدة في التنافس الدولي، السؤال يبقى: ما هي التكلفة التي ترغب واشنطن في دفعها؟ وهل هي مستعدة للقبول بالأمر الواقع والإقرار بخسارتها امتيازاتها في تلك المنطقة؟

الخروج الأمريكي من هذه المنطقة سيسرّع حل النزاع القائم على استثمار النفط، ولنا في الاتفاق الموقع بين الصين والفلبين خيرُ مثالٍ على ذلك، فقد استطاع البلدان التوصل إلى اتفاق للمشاركة في التنقيب عن النفط والغاز، سيفتح آفاقاً للعمل المشترك في استثمار ثروات المياه المشتركة، ويمكن لتجربة ناجحة واحدة أن تشكّل دافعاً لبقية الدول المطلّة على البحر لتبحث لنفسها عن اتفاقات مع الصين، التي ستكون رابحةً في أي اتفاق طالما منعت واشنطن من صب الزيت على النار. رغم أن الأفق أمام هذه الخطط الطموحة بات مفتوحاً حقاً، لكن إنجازه يتطلب جهداً وصبراً كبيرين، خاصة أن الجثة الأمريكية المرمية فوق الصين ثقيلة حقاً ولا مجال للخلاص إلا عبر رفعها ودفنها.

 988-2

الاحتمال العسكري في بحر الصين الجنوبي

رغم كون احتمال الصدام العسكري الصيني- الأمريكي ضعيفاً لكنه قائم، قد تقرر الصين حسم مسألة تايوان بالقوة العسكرية وبضربة مباغته، لتجد واشنطن نفسها ضمن المياه الإقليمية الصينية، وفي مرمى نيران مدفعية الصين، وعندئذ سينقلب السحر على الساحر! فتقول التقديرات: إن التوازنات العسكرية ضمن «الصين الجنوبي» قد حُسمت منذ سنوات لصالح الصين، فتتقدم الأخيرة على واشنطن في أسطولها البحري هناك، ولن يكون من مصلحة واشنطن الدخول في معركة كهذه، وخصوصاً أن بعض جنرالات الجيش الأمريكي يعتبرون أن المعركة محسومة حتى قبل أن تبدأ، ويمكن الاطلاع على الرسالة المتخيلة التي كتبها ديل ريلاج «بعنوان كيف خسرنا الحرب العظمى في المحيط الهادئ» وهو أحد أكبر ضباط استخبارات البحرية، ووكيل وزارة الدفاع للاستخبارات والأمن، وقد أورد في رسالته المؤرخة 6 حزيران 2025 مجموعة من البرقيات العسكرية المتخيلة إذا ما وقع الصدام في بحر الصين، ويتحدث ريلاج في رسالته المستقبلية عن الأسباب التي أدت لخسارة الولايات المتحدة لهذه المعركة. وإن كانت هذه الرسالة لا تتعدى كونها نصاً متخيلاً، إلا أنها تكتب بقلم ضابط مرموق في البحرية، ويملك من المعلومات ما يكفي لإدراك الوضع القائم هناك.

معلومات إضافية

العدد رقم:
988
آخر تعديل على الإثنين, 19 تشرين1/أكتوير 2020 08:53