روسيا وتركيا «شراكة تحتوي طبيعة إستراتيجية»
لافروف: «لم نعتبر تركيا يوماً حليفاً إستراتيجياً لنا». دار هذا التصريح لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في وسائل الإعلام جميعها قبل بضعة أيام، معطياً إيحاءً بوجود مشاكل كبرى بين روسيا وتركيا، لم ولن يجري التفاهم حولها، وليبدأ المحللون العظيمون ببناء رؤاهم واستنتاجاتهم الخاصة على العلاقات الروسية- التركية، بالاستناد إلى التصريح أعلاه... إلا أنّ الوقائع، والنتائج، وتطور الظروف، جميعها تقول عكس ذلك.
في البداية، يجب التنبيه: أن التصريح المذكور هو تصريح مجتزأ من سياقه ليحمل معنى مناسب للوكالات التي تناقلته، لكن قبل العودة إلى التصريح، سنكتفي بذكر الأحداث الأكثر أساسيةً ومفصلية بمقطع زمني يشمل العقد الحالي وحده، بتطور كل ملف منها في إطار العلاقات بين موسكو وأنقرة، ثم جمعها ككل لرؤية المشهد العام الناتج عنها، ومن هذه الملفات والمفاصل: سورية، وليبيا، وقره باغ، إسقاط الطائرة الروسية، محاولة الانقلاب التركية، ترويكا أستانا، خلافات الناتو- تركيا، خلافات الولايات المتحدة- تركيا، الأزمة الاقتصادية التركية ومخارجها، وليس آخراً منظومة الدفاع الروسية إس-400.
ورغم استحالة الخوض بكل ملف لوحده بمعزل عن التطرق للباقي لما لها جميعاً من تأثيرات متبادلة دفعت بعضها بعضاً، سنحاول البقاء عند حدود الفصل فيما بينها.
سورية
شهد الملف السوري- بالجانب الدولي منه- فترتين أساسيتين، تميّز فيما بينها نقطة الدخول العسكري الروسي إليه في أواخر عام 2015، لتتغير المعادلات فيه وتنقلب رأساً على عقب، وبين الفترتين نفسهما، تغيّر الخط التركي مع ملف الأزمة السورية، ولا بد من استذكار أن الجانب التركي قد كان -قبل الدخول الروسي تحديداً- جزءاً أساسياً في تصعيد الحرب لصالح واشنطن، ووصل ذروته في هذا السياق حينما أسقطت تركيا الطائرة الروسية في أواخر عام 2015، وسط ترقب الجميع بنشوء شرخٍ حاد وعميق يُنهي أي تقارب بين البلدين، بل وقد يدفع نحو الحرب فيما بينهما، إلا أنّ الأمور اتخذت منحًى مغايراً تماماً، فبعد محاولة الانقلاب التركية وما نتج وتبين عنها بالنسبة لأنقرة، تغيّر سلوكها بشكلٍ كبير مع الملف السوري، وبدأ التعاون مع موسكو، وصولاً إلى إنشاء ترويكا آستانا الذي ضمّت أيضاً إيران، رغم الخلافات وتباين الرؤى بين الدول الثلاث، ولتبدأ وتيرة الحرب السورية بالهبوط بشكل متسارعٍ بين عمليات القضاء على الإرهاب، وتأمين مناطق خفض التصعيد، وتوفير ظروف المصالحات، وليس انتهاءً بدفع التسوية السياسية منذ مؤتمر سوتشي، وما نتج عنه من اتفاق تشكيل اللجنة الدستورية.
ليبيا
في الملف الليبي، بتعقيداته وارتباطه بملف شرق البحر الأبيض المتوسط، نجد سلوكاً مشابها لتركيا باصطفافها مع حكومة الوفاق الوطني بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود معها، ومحاولة تركيا للتدخل بالشأن الليبي وتعويم «الوفاق» على حساب القوى السياسية الليبية الأخرى تأميناً لمصالحها، في مواجهة السلوك الأوروبي والأمريكي عبر محاولات تعويم المجلس الوطني بالنسبة لأوروبا، أو إدامة الصراع وإغراق تركيا فيه بالنسبة لواشنطن. ومع تعقد وتصاعد توتره بشكل حاد منذ أواخر العام الماضي، وصولاً إلى ذروته التي دفعت العديد بالاعتقاد بنشوء حربٍ تركية- مصرية، برز النشاط الروسي، ومعه بشكلٍ جزئي نشاط ترويكا آستانا نفسها، ونشوء تفاهمات روسية- تركية- مصرية، أدت إلى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، والدفع باتجاه التسوية السياسية، عبر مؤتمر برلين ومبادرة القاهرة وغيرها.
ناغورني قره باغ
لم يكن غريباً تمكن كل من روسيا وتركيا التوصل إلى تفاهمات حول الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا على الرغم من السلوك التركي المنحاز فيه، وبصرف النظر عن إمكانية الدولتين من متابعة وتطبيق الهدن الإنسانية الموقعة بين طرفي الصراع في الوقت الراهن، إلا أنّ هذه الخطوات الأولية تمثل أرضية الانطلاق للتسوية السياسية حول الإقليم اليتيم مستقبلاً.
إسقاط الطائرة الروسية ومحاولة الانقلاب
بصرف النظر عن كيفية إسقاط الطائرة الروسية من قبل القوات التركية في عام 2015، بوصفها عمداً أو خطاً أو توريطاً لتركيا، إلا أنّ الخطوة لم تؤتِ ثمارها بالنسبة للقوى الغربية التي كانت تأمل بإنهاء ووأد ملامح التقارب الروسي- التركي سياسياً، مما دفع تلك القوى إلى محاولات توتير الداخل التركي عبر محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 من قبل بعض قيادات وشخصيات الجيش التركي المرتبطة مع واشنطن تاريخياً، ولتجد تركيا في حينها صديقاً واحداً تعاون معها بالشكل الشرعي والقانوني سواء داخلياً، أو خارجياً، عبر فضح وإعاقة التدخلات الغربية وهو روسيا، مما شكل نقطة انعطاف بالسياسة التركية بعلاقاتها مع موسكو نحو تقاربٍ أكبر.
ترويكا أستانا
رغم بروز التفاهم الثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران في سياق تطور الملف السوري، إلّا أنه بدأ يتعدى حدود سورية ليشمل المنطقة كلها، ففي ملفات ليبيا واليمن والعراق وفلسطين ومؤخراً قره باغ، نجد دوراً للدول الثلاث نفسها في كل واحدة منها، وإن لم تنضج هذه الملفات بعد لتكون جامعة لها في الترويكا، كما الحال مع الملف السوري، ففي كل واحدة منها نجد اتصالات بين هذه الترويكا دفعاً للهدف ذاته، بالمحصلة: تأريض التوتر وتعزيز آفاق التسويات السياسية، وبناءً على هذه التطورات، فإن ترويكا أستانا تحمل بذوراً أوسع من المنطقة نفسها، حيث يؤثر نشاطها والتفاهمات الجارية ضمنها دولياً كما هو حال مؤتمر سوتشي حول سورية، وما نتج عنه من مخرجات فرضت شكلاً محدداً على أوروبا والولايات المتحدة بحل الأزمة السورية.
الأزمة الاقتصادية– الناتو- واس-400
أخيراً وليس آخراً، فإن الأزمة الرأسمالية التي تعصف بالمركز الأمريكي قد أوجدت صداها في الداخل التركي، بالتراكب مع مصلحة الأمريكيين والأوروبيين بإفشال التفاهمات الروسية- التركية، فضلاً عن الخلافات داخل حلف الشمال الأطلسي، التي بمجموعها دفعت وتدفع تركيا نحو إيجاد البدائل الاقتصادية والعسكرية والسياسية عن الغرب، عبر التوجه شرقاً؛ لتزيد نسبة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية بين أنقرة وموسكو أو بينها وبين بكين، وليزيد حجم التعاون العسكري التركي- الروسي الذي نتج عنه توريد منظومة إس-400 الروسية على حساب باتريوت الأمريكي، وتشغيلها قبل عدة أيام رغم كل التهديدات الأمريكية.
بقية تصريح لافروف «المجتزأ» وما يعنيه
ما قاله لافروف جرى اجتزاؤه كما ذكرنا، فالتصريح الكامل كان على الشكل التالي: «لم نعتبر تركيا يوماً حليفاً إستراتيجياً لنا، لكنها شريك قريب، وهذه الشراكة تحتوي طبيعة إستراتيجية بعدة جوانب منها».
اجتزاء القسم الأول وتداوله يعبّر عن مصالح وآمال الوسائل الإعلامية التي تبنته ومن خلفها القوى التي تعبر عنها، إلا أن بقية التصريح توضح عكس الإيحاء المطلوب تماماً، حيث إن تطور العلاقات الروسية- التركية كان يمضي نحو تفاهمات أعمق على طول الخط وبمختلف الملفات، ويتجاوز جميع العقبات أمامه، ولا يزال كذلك، ولعل النقطة الأهم التي تحرم الدولتين من التحالف الإستراتيجي الحقيقي، هي: وجود أنقرة كعضو في حلف الناتو الذي يعادي روسيا ويعمل على محاصرتها. فقبل خروج تركيا من هكذا تحالف لن يكون من الوارد الحديث عن تحالف إستراتيجي حقيقي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 988