العراق... التغيير المطلوب لم ينجز بعد!

العراق... التغيير المطلوب لم ينجز بعد!

يُعاني العراق من أزمة سياسية حادة على المستويين الداخلي والخارجي، فبين تناقض بُنية النظام السياسي مع مصالح العراقيين، ومحاولة الأحزاب السياسية للمناورة بين شعارات تلبية مطالب المنتفضين شكلاً، والدفع باتجاه مصالحهم الخاصة فعلياً، تتعمق الفجوة مُنذرةً بموجة احتجاجات أخرى، أشدّ، تلوح في الأفق، وتُضاف إليها المتغيرات الدولية، وعلى رأسها انسحاب القوات العسكرية الأمريكية ومجمل قوات التحالف الدولي من البلاد، ثم الصراع الإيراني- الأمريكي الذي أشعل ذروته اغتيال الجنرال قاسم السليماني في أوائل العام الحالي، وأخيراً وليس آخراً: الأزمة العراقية- التركية...

إثر كل هذه المعادلات، جاء نتاجها رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي- شكلاً- ليتخذ مظهر «الحياد» والتوفيق بين القوى السياسية الداخلية والخارجية، بينما- عملياً- بات يتضح نشاط الحكومة الحالية، بالتعاون مع واشنطن، بالسعي نحو تحقيق هدفين عامين: محاولة إنعاش نظام المحاصصة العراقي وفق معادلات الخروج العسكري الأمريكي الجديدة، وهو ما تتفق عليه القوى السياسية، وإضعاف العلاقات الإيرانية، الأمر المُختلف عليها داخلياً.

ثنائية النظام– التواجد الأمريكي

إنّ العلاقة بين (النظام السياسي العراقي) القائم منذ الاحتلال الأمريكي، و(التواجد العسكري الأمريكي المباشر) على الأرض، طيلة هذه السنين، علاقة عضوية لا يمكن غض النظر عنها أو تناسيها من أيّ متتبع للمشهد العراقي، حيث ضعف أو زوال واحدة منها سيؤدي إلى ضعف وزوال الأخرى، فلا يمكن تحقيق المطالب الشعبية العراقية التي أوضحتها في «انتفاضة تشرين» بتغيير منظومة المحاصصة دون خروج الأمريكي، وبالمثل، لا يمكن تحقيق المطالب بخروج الأمريكي دون تغيير هذا النظام التابع أمريكياً بأساسه... وعليه، فإن انتفاضة تشرين ورغم عدم تحقيق أيّ من مطالبها بعد، إلا أنها هزّت أركان هذه العلاقة وأدت- بالإضافة إلى المتغيرات الدولية كتأثيرات خارجية- إلى إضعاف طرفيها على حدٍّ سواء؛ ففي حين كان النظام يُعاني شهوراً من «أزمة تشكيل حكم»، كانت القواعد العسكرية تتعرض لقصفٍ صاروخيّ بشكل شبه يوميّ لايزال مستمراً حتى الآن، ويتلوها انسحابات أمريكية وتسليمٌ لهذه القواعد.

الحكومة الحالية أداة لتنفيذ عملية جراحية:

1- التمهيد

على مستوى القوى السياسية الداخلية في العراق، فإن جميعها تتفق على نهجٍ «إصلاحي» للنظام السياسي القائم، والذي يعني بطبيعة الحال عدم رغبة أيٍّ منها بالدفع نحو أي تغييرٍ فيه أبعد من محاولات تحقيق موازين جديدة ضمنه لصالح كتلة على حساب أخرى كما تجري العادة دائماً، وتختلف هذه القوى فيما بينها على السياسة الخارجية، فيما يتعلق بالولايات المتحدة وإيران، لكن على إثر المتغيرات والضغوطات الأخيرة، جرت بعد طول محاولات فاشلة بتشكيل حكومة مؤقتة، التوافق على رئاسة «مصطفى الكاظمي» كوسيطٍ بين الجميع، بتوصية أمريكية، ولتلعب الحكومة هذا الدور منذ انطلاقها قبل ثلاثة أشهر وفق ما سُمي بـ«الابتعاد عن سياسة المحاور» والادّعاء بإبقاء الحكومة على الحياد تجاه جميع القوى داخلياً وخارجياً، لكن وبعيداً عن التسمية، فإن نشاط الحكومة كما بات يظهر يُختزل بأنه: محاولة لانتقال النظام العراقي من علاقات سياسية داخلية وخارجية مبنية على الوجود الأمريكي المباشر بما يحمله من أوزان وتأثيرات محلية وإقليمية، إلى علاقات بغير هذا الوجود تحفظ استمرار النظام العراقي وتحفظ معه تبعيته الأمريكية.

لا يمكن فصل أيّة حكومة عراقية ضمن المنظومة نفسها عن واشنطن، أو افتراض أنها قد تسير بخُطى مغايرة لمصلحة الولايات المتحدة أو نظام «بريمر»، لتكون الحكومة الحالية تسير ضمن هذا الاتجاه خلف كل دعايات «الحياد» الإعلامية، لتبدأ نتائج عملها بغاياتها وأهدافها بالظهور تباعاً، وصولاً إلى اللقاء الذي جمع بين رئيسها الكاظمي وترامب قبل أسبوع.

2- براغماتية مع الشرق لتهدئة الداخل

دأبت هذه الحكومة ممثلة برئيسها باللعب على حبليّ الشرق والغرب، لتبدأ نشاطها بسياسة براغماتية مع إيران كنوعٍ من التهدئة، ففي بداية الشهر الجاري مثالاً، أجري اتصال بين الكاظمي وروحاني، وبحسب بيان صدر عن مكتب الأخير، أكد فيه أن زيارة الكاظمي الأخيرة إلى طهران كانت بناءة، مضيفاً أن الاتفاقات المبرمة خلالها ستؤدي إلى تطورات إيجابية وواعدة، وستمثل خطوة إلى الأمام في العلاقات بين الدولتين. ومن ثم جرى الإعلان عن رفع التجارة بين إيران والعراق إلى 20 مليار دولار، أما في العلاقة مع روسيا فقد جاء في بيان عن مكتب مستشار الأمن الوطني العراقي، قاسم الأعرجي، حول لقائه مع السفير الروسي في بغداد، أن «السفير الروسي نقل رغبة حكومة بلاده في تطوير علاقاتها مع العراق في مجالات الأمن وغيرها».

3- انعطافات نحو تعزيز العلاقات الغربية

لكن كلّ هذه الخطوات- الإعلامية/ الخُلّبية- قد خفت ضوؤها بعد الإعلان عن لقاءٍ بين الكاظمي وترامب، بما تخلله وما تلاه من خطوات سياسية وعملية، ليعلن وزير الخارجية الأمريكي في 19 من الشهر الجاري عن تعهده بـ200 مليون دولار للعراق ودعم واشنطن لانتخابات مبكرة، ليؤكد رئيس الحكومة العراقي وترامب عن التزاماتهما بعلاقات ثنائية قوية ومثمرة، وكان من بين الانتقادات الموجهة، بيان أصدرته «فصائل المقاومة العراقية» حول عدم تطرق رئيس الحكومة الجديد لموضوع خروج القوات الأمريكية أثناء اللقاء، جاء فيه: «تفاجأنا أن زيارة الكاظمي لم تتضمن تنفيذ قرار إخراج القوات المحتلة الأمريكية بشكل كامل، ونعد ذلك التفافاً على سيادة العراق وكرامة شعبه والتفافاً على الدستور والقانون الذي يلزمه بتنفيذ قرار مجلس النواب»، وبالإضافة لذلك فقد قال النائب الأول لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، جودي هود، حول لقاء الكاظمي وترامب: «أكدنا احترامنا لسيادة العراق، وهو تعهد بحمايتنا وباقي الضيوف الدولية من هجمات الفصائل المسلحة».

ثم تلاه في اليوم التالي مباشرةً إعلانٌ من وزير المالية العراقي، علي علاوي، عن توقيعه 3 اتفاقيات مع شركات أمريكية لدعم الاقتصاد وتمويل المشاريع الكبيرة وتطوير قطاع الكهرباء، أولها مع وكالة التنمية الأمريكي «USAID» لـ«إعادة برامجهم» في العراق خاصة في مجال «التنمية الاجتماعية»، وفي اليوم نفسه جرى الإعلان عن موعد قمّة ثلاثية لرؤساء العراق والأردن ومصر، التي نوقشت خلالها قضايا تتعلق بـ«الطاقة والربط الكهربائي والبنية الأساسية والغذاء» بين البلدان الثلاثة، ويجري الآن حديثٌ غير رسمي بعد، عن مشروع ربط جزء من الشبكة الكهربائية العراقية مع منظومة الطاقة التابعة لمجلس التعاون الخليجي، بعد زيارة الكاظمي للملك السعودي سلمان عبد العزيز المزمع إجراؤها خلال الأسابيع القادمة.

4- النتائج والغايات

في مقابلة لرئيس الحكومة العراقي مع صحيفة «الواشنطن بوست– Washington Post» أكد أنّ «بلاده ليست بحاجة إلى قوات قتالية أمريكية بعد هزيمة تنظيم داعش، وإنما بحاجة إلى قوات أمريكية تركز على التدريب وبناء القدرات»، الأمر الذي يتناقض مباشرةً مع قرار مجلس النواب بإخراج جميع القوات الأجنبية، ويؤكد أن الحكومة الجديدة لا تعد تمثيلاً عن التغيير المطلوب شعبياً ، لكن وبسياق التصريح وتركيبه مع مجمل نشاط الحكومة منذ الإعلان عنها إلى الآن، تعطي مؤشرات عدّة اختصارها: محاولة إعادة تثبيت مفاصل النظام العراقي نفسه على أسسٍ جديدة بعد الاختلال الحاصل إثر الانسحابات الأمريكية والاحتجاجات الشعبية، لتبدأ أولاً بمحاولات إضعاف العلاقات مع إيران، بما تشمله من اتفاقيات اقتصادية وخدمية على رأسها «الكهرباء» -الذي سيكون موعد تجديد عقدها من عدمه في 2021- عبر الاستعاضة عنها مع دولٍ أخرى، كالخليج والأردن ومصر، لضمان العراق بلداً حليفاً لواشنطن لأطول مدة ممكنة بعد خروجها الكامل مستقبلاً، ومن جهة ثانية متوتراً وممزقاً- كخطة باء سارية المفعول- وفق سيناريو آخر جرى توريط تركيا به مؤخراً، فضلاً عن إبقاء خلايا لداعش، والتي تنشط كل حين وآخر في الداخل العراقي.

الأزمة العراقية- التركية جزءٌ من كُل

على غرار ملف شمال- شرق سورية، أدت الانسحابات الأمريكية بكيفيتها ومواعيدها والتصريحات السياسية المرافقة لها، إلى فتح المجال لتحرّك عسكري تركي في شمال العراق ضد «حزب العمال الكردستاني» وفقاً لما تعتبره أنقرة حمايةً لأمنها القومي، مدفوعةً بإشارات وتحريضات أمريكية لهذا السلوك، بغية تسعير الفالق الكردي- العربي، والكردي- التركي في المنطقة، لتطلق حملتها العسكرية جواً وبراً منذ ما يقارب الثلاثة أشهر.

لكن لا يمكن الحديث عن تركيا دون الانطلاق من أزمتها الاقتصادية والانقسام الجاري في إدارتها وقواها الداخلية أولاً حول موضوعة الانعطاف شرقاً، ثم العودة من تأثير هكذا حملات عسكرية وسياسية على أوضاعها الداخلية نفسها، ليكون نشاطها العسكري في الشمال العراقي رغم قُربه وطول مدته وما يرافقه من تهويلٍ إعلاميّ محدوداً ومسقوفاً كمحصلة لهذه التناقضات.

فتركيا، عضو الناتو الأقوى أوروبياً، والاقتصاد القائم بعلاقاته غربياً، وما تعانيه من أزمة اقتصادية كصدى للأزمة العالمية فضلاً عن العقوبات والحصار الأمريكي، وتحالفها السياسي ضمن ترويكا أستانا، وصفقات إس-400 مع روسيا، فضلاً عن الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية بينها وبين موسكو وطهران، وأخيراً صراعها في البحر الأبيض المتوسط حول الغاز وترسيم الحدود، والأزمة الليبية؛ كلّ هذه الصراعات والتناقضات بتباين حدّتها ومشروعيتها من عدمه تمثّل مخاضاً خاصاً لتركيا بانشقاقها عن موقعٍ جيوسياسي تاريخي متشابك مع الغرب، وانتقالها نحو الشرق في موازين القوى الدولية وفضاءاتها السياسية الجديدة... مخاضٌ تظهر فيه أحياناً- إثر سوء فهمه- وكأنها تتخذ وزناً خاصاً «ثالثاً» ومتفرداً بعيداً عن الشرق والغرب وبمعزلٍ عن الميزان الدولي الجديد.

فمثلاً، بالنسبة لإيران ورغم ما تحتويه من تناقضٍ مع المسألة الكردية، إلا أن مصلحتها اليوم باتت تقف عند حدود تأريض استخدامها كورقةٍ لدى الأمريكيين، وبالنسبة لروسيا فلا تُعنى مصلحتها بتفاصيل كيفية حلّ القضية داخلياً في أيّ من البلدان الأربعة المتعلقة بها، شرط ألّا يكون أيّ منها فتيل توترٍ أمني وعسكري أولاً، ولصالح واشنطن ثانياً... ليبقى الجانب التركي وحيداً- مؤقتاً- ضمن تحالف أستانا يرى في النشاط الكردي تهديداً إستراتيجياً دون ربط هذا التهديد بالتخريب الأمريكي بأساساته، نظراً لعدم اكتمال «انتقالها/ مخاضها» ذاك، وهو ما سيجري في نهاية المطاف بالتوازي مع تأثيرات الخروج الأمريكي على القوى الكردية، بما فيها التي في العراق، وينسجم الطرفان في سياسات الحوار والتسويات وعلاقات التعاون والتكافؤ وإلخ.. مما تفرضه التطورات الدولية والفضاءات السياسية الجديدة الناجمة عنها.

ليكون النشاط الأمريكي هنا عبارة عن محاولات الاستفادة من الوقت المستقطع التركي الجاري، عبر محاولة تسعير أزمتها مع الأكراد، وصنع أزمة تركية- عراقية، وتحمية الفالق الكردي- العربي في الداخل العراقي، وما سيرتد على تركيا داخلاً إثر هذا النشاط، ضمن سياسة ضرب الكل بالكل، وما تخلفه من فوضى تؤثر على إيران وروسيا وتركيا كلّ على حدة، وعلى تحالفهم مجتمعين.

الشعب العراقي يُثبت استمرارية حضوره ومطالبه

رغم تغيّب الحراك الشعبي العراقي عن المشهد عامةً إثر الوباء الفيروسي، إلا أنه لم ينقطع تماماً، بل على العكس، حيث إن التحركات الجزئية المحدودة التي ظلت تخرج كل حين ومن مختلف المحافظات العراقية، تمثل استمراراً لـ«انتفاضة تشرين» وإنذاراً قائماً بموجة شعبية عامة أخرى قد تنطلق، وما تزال عمليات القمع مستمرة، حيث كان عنوانها الأخير اغتيال عددٍ من نشطاء الحراك، سُرعان ما جرى تدويله بغية التذرّع به لتدخلات أمريكية وأوروبية كمحاولة لتسلق الحراك من جهة، وإذكاء ناره من جهة ثانية من أجل الفوضى نفسها، إلا أنّ الانتفاضة أثبتت نفسها سابقاً، ولن تكون المُقبلة سوى تطويراً عنها، مما قد يفرز قيادات لها لتتمكن من رفع لواء التغيير، بالتوازي مع التطورات السياسية الداخلية والخارجية على العراق الذي سيكون راعي منظومته الأمريكي قد خرج، مما يعطي العراق وشعبه فرصةً وإمكانيةً أكبر من كل ما سبقها لفرض وتنفيذ التغيير المطلوب شعبياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
981
آخر تعديل على الثلاثاء, 01 أيلول/سبتمبر 2020 14:24