قواعد أمريكية فارغة لتنسينا تاريخاً أسود...

قواعد أمريكية فارغة لتنسينا تاريخاً أسود...

تتداخل الخيوط في منطقتنا كثيراً وتبدو الملفات مشتابكة بحيث لا يمكن فصلها، وهي فعلاً كذلك؛ فلا يمكن النظر إلى أيٍ منها بمعزل عن الأخرى. ينطبق هذا الوصف على إيران، فهي كانت وما زالت مركزاً لأحداث مؤثرة في المنطقة، وإذا نظرنا إلى مقطعٍ زمني منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اللحظة نراها لاعباً أساسياً في الإقليم.

ترتبط إيران بمجموعة من الملفات التي سيكون لشكل حلها بصمة على مستقبل المنطقة، فهي جزءٌ من تحالف استراتيجي جديدٍ نسبياً يضم روسيا وتركيا. وعلى الرغم من أن هذا التحالف، «ثلاثي أستانا»، ظهر كإطار عملٍ لتنسيق جهود الدول الثلاث فيما يخص الأزمة السورية، إلا أنه يُظهر دائماً مؤشرات على توسيع دائرة نشاطه، فهو خطوة باتجاه علاقات استراتيجية متينة بين البلدان الثلاثة من جهة، وهو إطارُ عملٍ ضروري لنقاش كل قضايا الإقليم.

مواضيع على جدول الأعمال

تتفاعل في الفترة الماضية مجموعة من القضايا على رأسها مصير الوجود الأمريكي في المنطقة، إذ تلعب إيران دوراً أساسياً في هذه القضية، مدعومة بميزان دولي يدفع كامل الوجود الأمريكي إلى أماكن أضيق، ويطالبه بشكل واضح بترك ساحةٍ شغلها لعقود بحروب ونزاعات، لم تقدم لدول المنطقة أية فائدةٍ. وتعد هذه القضية أساساً لفهم التصعيد العسكري الذي يشهده الخليج في الفترة الماضية من جهة، وعاملاً ضرورياً لفهم تطورات الملف العراقي، وصولاً إلى آفاق حل الأزمة السورية، ومستقبل الكيان الصهيوني، إذا ما أنجزت مهمة إخراج الولايات المتحدة من المنطقة.

يضاف إلى هذه النقاط المترابطة فيما بينها، ملف البرنامج النووي الإيراني الذي تحول في السنة الماضية إلى أحد مفردات صراع المصالح الأوروبي- الأمريكي، فإنجاز إيران لمشروع نووي بحلقة كاملة كان خرقاً جديداً لبلدان لم يسمح لها بحيازة تكنولوجيا متطورة، وفرض هذا البرنامج نفسه بعد زمن ليصدر قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي أعطى اعترافاً دولياً بحق إيران في برنامج نووي سلمي.

إنجاز تكنولوجي جديد

أطلقت إيران صاروخاً إلى الفضاء، وهو الثمرة الأبرز لبرنامج إيران الفضائي الذي يعود للعام 1969، إذ أعلن الحرس الثوري الإيراني بالتزامن مع الذكرى 41 لتأسيسه عن نجاحه في عملية الإطلاق، وذكرت وكالة فارس الإيرانية «إن القمر الصناعي (نور) كأول قمر صناعي عسكري للجمهورية الإسلامية الإيرانية أطلق بنجاح من قبل الحرس الثوري صباح اليوم الأربعاء بواسطة حامل القمر الصناعي ذي الثلاث مراحل (قاصد) من الهضبة الوسطى (وسط إيران) وحل في مدار حول الأرض على بعد 425 كم».

على الرغم من أن مدار الكرة الأرضية بات مكتظاً بالأقمار الاصطناعية وتصل التقديرات إلى أن عددها قد يصل إلى 12 ألفاً في عام 2020، إلا أن القمر الإيراني، يحمل معه مجموعة رسائل إلى العالم، أولها: هو امتلاك إيران لتكنولوجيا صاروخية متطورة؛ إذ إن إطلاق قمرٍ اصطناعي للفضاء يحتاج إلى تكنولوجيا عالية تمتلكها مجموعة صغيرة من الدول حول العالم، أبرزها: الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، لذلك ترسل إيران على ظهر «نور 1» رسالة عن إنجازٍ تكنولوجي جديد، ليزيد رصيد إيران ووزنها على الساحة الدولية كبلد صناعي متطور لا تابع يرضى بالفتات الذي يرمى له.

يضاف إلى أنّ المنصة التكنولوجية القادرة على إرسال هذا القمر إلى مدار الأرض على ارتفاع 425كم، تسمح لإيران بتطوير صواريخ عابرة للقارات تتجاوز- حسب بعض التقديرات- أكثر صواريخ إيران تطوراً، وهو «سومار» الذي يصل مداه إلى 2500كم، ليكون صاروخ الفضاء هذا إعلاناً ضمنياً عن صاروخٍ جديد عابرٍ للقارات.

بعيداً عن الغوص في التفاصيل التقنية للصاروخ، والفائدة العسكرية المباشرة منه لأغراض التجسس والاستطلاع، يجب الانتباه إلى أن إيران وُضعت أمام اختبارٍ صعب على مدار العقود الماضية، وهو: إما القبول بالشروط الأمريكية التي تضر المصالح الوطنية الإيرانية وتقيّد طموح وحقوق الشعب الإيراني في بناء دولة متطورة، وإما خوض المعركة حتى النهاية، وهذا ما كان. القضية الثانية هي: أن طموحات وإمكانات إيران هذه لا ترتبط بالنظام الإيراني الحالي فحسب، فالبرنامج النووي الإيراني كان يشغل بال شاه إيران محمد رضا بهلوي، وإن كانت الثورة الإيرانية قد أطاحت بالنظام السابق إلاّ أنها ورثت هذه الطموحات واستطاعت إنجازها خارج العباءة الأمريكية، وهي مهمة كان من المستحيل إنجازها بنظامٍ تابع أيام بهلوي.

مياه الخليج تحت وصاية الخليج!

ينتقد البعض السلوك الإيراني في الكثير من الملفات، وإن كان دور إيران في المنطقة يحتاج لدراسة معمّقة، إلا أن قبول هذا الدور أو رفضه لا يلغي ضرورة فهم المصلحة الإيرانية التي يفترض أن تحدد سياسة إيران الخارجية. ويوضع على رأس هذه المصالح خروج الولايات المتحدة من المنطقة، وهو ما يصبّ في مصلحة جميع الدول المحيطة في إيران، فأمريكا تعادي النظام الإيراني وتضع العراقيل في وجهه منذ سبعينات القرن الماضي، وتنشر قواعدها العسكرية في محيط إيران، فتوجد قواتها في أفغانستان والعراق وتركيا ودول الخليج وسورية والكيان الصيهيوني، وإن إحدى مهمات هذه القوات هي حصار إيران، وهي تهديد حقيقي لا يمكن إغفاله، ولذلك ترى إيران نفسها مضطرةً لتوسيع الدائرة الخالية من الوجود الأمريكي، وهنا تظهر ضرورة إخراج القوات الأمريكية من الخليج والعراق وباكستان كخطوة أولى، ويبدو جلياً للجميع أن واشنطن لا ترى مشكلة في إشعال الحروب طالما كانت تستنزف قدرات خصومها، حتى وإن سفكت فيها دماء وقدرات كل دول الإقليم.

وتظهر إيران اليوم بوصفها بين أوائل المستعدّين لإنجاز هذه المهمة التاريخية المتمثلة بإخراج الولايات المتحدة إلى الأبد، وتحديداً من الخليج، كونه يشكل منفذاً استراتيجياً لإيران والميناء البحري الوحيد لها، وإن كان الوجود الأمريكي في الخليج قائماً على ذريعة حماية حلفاء واشنطن من إيران، فيتوجب على الأخيرة القيام بمبادرة للدخول في مفاوضات مباشرة مع الدول العربية في الخليج بهدف الوصول إلى اتفاقٍ يرضي الجميع، ويستبعد الخيار العسكري من أي حلٍ قادم، وتبدو إيران متأكدة من أن الدول المطلة على الخليج ستكون قادرة على الوصول إلى اتفاق من هذا النوع، وتعمل على هذا الخط بشكلٍ نشطٍ، وإن كان لم يلق قبولاً رسمياً من الطرف المقابل إلى الآن.

إخراج القوات الأمريكية من المنطقة سيفتح صفحة جديدة من تاريخنا، ولا بد من النظر إلى إيران على أنها مساهم أساسي بتنفيذ هذه المهمة، فهي بلا شك تلعب دوراً فاعلاً لإنجاز هذه المهمة. إن النشاط الفاعل لكل الرافضين للوجود الأمريكي بات يطرح ثماره، ومنظر القواعد الأمريكية الفارغة بات منظراً مألوفاً يعيد الأمل لشعوب المنطقة بأن صورة جديدة غير سقوط بغداد يمكن أن تعلق بذاكرتهم لعقود قادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
964
آخر تعديل على الأحد, 18 تشرين1/أكتوير 2020 09:33