أزمة تونس: عندما تتبدل الوجوه لا السياسات
تعيش تونس منذ أشهر على وقع أزمة سياسية، تسببت بها الخلافات بين قطبي السلطة التنفيذية، الرئيس الباجي قائد السبسي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، وما تبعها من انقسامات في حزب «نداء تونس»، وتبدلات في تحالف الأخير مع حركة «النهضة»، وهو ما قد ينعكس بجملته تغيراً على المشهد السياسي التونسي الذي ساد منذ عام 2014.
تتزامن الأزمة السياسية التونسية مع حدثين رئيسين، وهما: الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد من جهة، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 2019 من جهة أخرى، لتبدو الأزمة الحالية وكأنها تخبط النخب بين الواقع الذي أثبت فشل سياساتها خلال المرحلة الماضية، وعجزها عن إيجاد الحلول الاقتصادية والاجتماعية، وبين سعيها المحموم للحفاظ على مواقعها ما بعد الاستحقاق الانتخابي القادم.
تغيرت الوجوه
والسياسيات الليبرالية باقية
منذ صعود الحراك الشعبي عام 2011 ومغادرة الرئيس السابق زين العابدين بن علي للبلاد، تصدّر الإسلام السياسي متمثلاً بحركة «النهضة» المشهد السياسي في البلاد، لكن عوامل الانفجار الشعبي بقيت مع استمرار التراجع الاقتصادي، ومع صعود حزب «نداء تونس» ذي التوجه الليبرالي عام 2014 تعمقت الأزمة أكثر، إذ أن السياسات الاقتصادية الاجتماعية بقيت ذاتها، وهي سياسات خاضعة لشروط رأس المال وإملاءات البنك الدولي.
تتضمن «الأغلبية الحاكمة» في البرلمان التونسي كلاً من حركة «النهضة» والتي تمتلك 68 مقعداً داخل البرلمان، وحزب «نداء تونس» الحاصل على 56 مقعداً، وينتمي كلٌ من الرئيس السبسي ورئيس الحكومة الشاهد إلى حزب «النداء»، لذا تبدو الخلافات الجارية بين الرجلين، انعكاساً لتجاذبات تجري داخل الحزب، وهو ما كشف عنه الشاهد في خطابه في أيار الماضي، الذي حمّل فيه نجل الرئيس حافظ السبسي مسؤولية تراجع الحزب.
وثيقة قرطاج
واحتجاجات الموازنة
بينما تُرجع بعض التحليلات الأزمة إلى خلافات حول الحكم، أي بين طموح الشاهد للترشح للانتخابات القادمة، ونية الرئيس السبسي توريث الحكم لابنه حافظ، إلّا أن الخلافات في العمق تعكس عجز الحزب الحاكم عن إدارة الأزمة الاقتصادية في البلاد، وخاصة أن الأزمة بدأت في الخلاف حول «وثيقة قرطاج الثانية»، التي تشتمل على إجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية تمثل خارطة طريقٍ لعمل الحكومة إلى غاية 2019.
حيث قرر الرئيس السبسي تعليق العمل بالوثيقة نتيجة الخلاف حول النقطة 64 والمتعلقة بمصير حكومة يوسف الشاهد، وببقائه شخصياً أو رحيله. فبينما تتشبث حركة «النهضة» وحزب «المسار والمبادرة» بإجراء تعديل جزئي على الحكومة مع بقاء رئيسها يوسف الشاهد، تصرّ الأطراف الأخرى على رحيل كامل الحكومة وتعيين رئيس جديد يتولى تشكيل حكومة جديدة.
بدأ العمل على «وثيقة قرطاج الثانية» في شهر أيار الماضي، سبقتها ومنذ بداية العام الحالي، احتجاجات واسعة على قانون المالية الجديد (موازنة عام 2018) الذي نصّ على زيادة في أسعار بعض المواد الاستهلاكية والوقود، وفرض ضرائب جديدة، عملاً بتوصية بنك وصندوق النقد الدوليين، في النهاية دفعت الاحتجاجات رئيس الحكومة للإعلان عن التخلي عن الضرائب الجديدة، ودفعت الحكومة إلى العمل على وثيقة قرطاج، لكن الأزمة الاقتصادية تفجرّت بالأزمة السياسية الحالية في نهاية المطاف.
تراجعٌ اقتصادي وتذبذبُ النهضة
ترتفع معدلات الفقر والبطالة في تونس وتنحو الحكومة للاقتراض من البنك الدولي والخضوع لشروطه، إذ حصلت مؤخراً على قرض بقيمة 500 مليون دولار لدعم الميزانية، وأُعلن عن مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي من أجل الاتفاق مجدداً على ما يسمى «التبادل الحر الشامل والمعمّق» والذي يشمل قطاعي الخدمات والزراعة، وهي الاتفاقية التي رأى العديد من الخبراء أنها دمرت ما يقارب 55 بالمائة من النسيج الصناعي التونسي فيما مضى، عندما كانت هذه الاتفاقية مطبقة أيام زين العابدين بن علي.
وبالعودة إلى الأزمة السياسية الحالية وآخر ما صدر عنها، تقدم رئيس الحكومة باقتراح تعديل وزاري جديد، نقله الرئيس السبسي إلى البرلمان للموافقة عليه رغم اعتراضه عليه شخصياً، وبينما قررت كتلة «النداء» في البرلمان زيادة الضغط على الشاهد، وعدم منح الثقة لأعضاء حكومته المقترحة، كذلك قررت كتل برلمانية أخرى مثل «الجبهة الشعبية» التي تضم أحزاباً يسارية وغيرها، جاء موقف «النهضة» مخالفاً، إذ أعلنت دعمها للشاهد، وهي الكتلة البرلمانية الأكبر، لذلك يرى الكثيرون أن الشاهد ضمن بقاءه وتمرير تعديلاته الحكومية بضمان دعم «النهضة».
موقف «النهضة» هذا دفع الرئيس السبسي إلى الإعلان عن نهاية التوافق الذي كان يجمع حزبه «نداء تونس» بها، على مدار خمسة أعوام، وهو ما يعتبره الكثير من المحللين عاملاً أساسياً في الأزمة الحالية، إذا سعى السبسي في بداية حكمه إلى التحالف مع «النهضة» لتعزيز حكمه، وهي الطريقة ذاتها التي تتعامل بها النهضة مع الشاهد اليوم.
أما في العمق فإن هذا الشكل من التحالفات والتحولات، بين الشاهد والسبسي، وبين النهضة والسبسي، أو بين النهضة والشاهد، إنما تعكس توافق البرامج والسياسات، فلا اختلاف بين الإسلام السياسي وبين الليبرالية السياسية عندما يكون المشترك هو السياسيات الليبرالية الاقتصادية.
الشعب والاتحاد
العام للشغل التونسي
على الضفة الأخرى لا يزال الشعب التونسي عند كل منعطف قادراً على الاحتجاج، كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل مستمر في تنفيذ إضراباته احتجاجاً على تدهور أوضاع العمال والقدرة الشرائية. لذلك سواء تم تمرير التعديل الحكومي الجديد في البرلمان أم لا، طالما أن السياسيات لم تتبدل والذي يجري منذ عام 2011 وحتى الآن هو تبديل للوجوه فقط، فإن الأزمة ستستمر، وستتمظهر بأشكال متعددة، فالأزمة السياسية الحالية هي في جوهرها أزمة اقتصادية، والحل الحقيقي سيبقى مرهوناً بظهور قوى بديلة بسياسات جديدة تعمل على إيجاد الحلول بعيداً عن قروض المؤسسات الدولية وشروطها.