الحكومة الفلسطينية المنتظرة... حل للأزمة أم تجديد لها؟

في ظل استمرار وتصاعد إرهاب الكيان العنصري النازي ضد الشعب الفلسطيني، تتوضح أزمة الوضع السياسي الفلسطيني في أكثر من مجال، فبين الجرائم اليومية المتدحرجة التي تمارسها قوات الاحتلال على امتداد قطاع غزة، ومحافظات الضفة الفلسطينية، والتي تفتك بالمئات من المواطنين لتحولهم إلى شهداء أو جرحى، إلى تهديم البيوت المأهولة على رؤوس قاطنيها،

أو عمليات الاغتيال «الإعدام» التي تستهدف المقاومين المطاردين، تستمر الخطة المنهجية الهادفة تقويض البنى والمؤسسات التي نتجت عن انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة. وقد جاءت حملة الإعتقالات التعسفية الوحشية لأعضاء المجلس التشريعي والتي استهدفت إلى الآن واحداً وثلاثين عضواً، وخمسة وزراء، والعشرات من أعضاء المجالس البلدية والقروية المنتخبين لتشير إلى هدف محدد، سيؤدي حسب الخطة المرسومة محلياً وإقليمياً ودولياً إلى تفكيك بنية المؤسسة التشريعية والتنفيذية، على طريق إنهاء وجودها، كخطوة أساسية على طريق نشر وتعميم الفوضى"الخلاقة". ويأتي هذا السلوك متزامناً مع إجراءات حكومة العدو في فرض حصارها الخانق براً وبحراً من أجل منع وصول الحاجات الأساسية للمواطنين، بغرض توسيع أشكال الاحتجاج الجماهيري ضد الحكومة المنتخبة، كعامل مساعد على توليد الفوضى. وتستمر هذه العقوبات اللاإنسانية في ظل موقف أمريكي وأوروبي، يشكل المظلة الحامية والداعمة لهذه السياسة العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، كنوع من العقاب على اختياره لنوابه.

 لقد جاءت حركة الإضرابات، وتوقف الموظفين عن العمل، كتعبير عن مرحلة جديدة من تنامي شكل الاحتجاج على عدم صرف الرواتب المستمرة منذ عدة أشهر، لتنفخ في جمر الأزمة السائدة بين مؤسسة الرئاسة والوزارة، وبالأصح بين رؤيتين شكلتا على امتداد المرحلة الراهنة، المرجعية النظرية لبرنامج العمل المباشر مع المستجدات المتلاحقة. وإذا كانت حرية الإضراب كأحد أشكال النضال المطلبي، تبدو مشروعة بالمنظور الكفاحي للطبقات والشرائح الاجتماعية المحتجة على تدهور وضعها الاقتصادي / الاجتماعي في ظل استقرار الوضع السياسي، فإن ما يلفت النظر لخطورة هذه الاحتجاجات بهذا الوقت تحديداً، خاصةً في القطاعات الأساسية «الصحة والتعليم» من أنها ستفاقم من الوضع الداخلي المأزوم _ انقسام في المنظمات النقابية والجماهيرية على قاعدة ثنائية السلطتين والبرنامجين _ المسؤول عن كارثته المتصاعدة، ذلك الحصار الذي تفرضه حكومة العدو، والولايات المتحدة وحلفائها.
في ظل هذا المشهد المرتبك داخلياً، تتصارع الرؤيتان في لغة سياسية، تعيد إنتاج هذا الارتباك بعبارات ومصطلحات، تعكس بؤس الحالة السائدة. رئيس مجلس الوزراء عبّر عن رؤيته للمخرج من المأزق، ببعض الشروط / الاشتراطات "أو كما أردف لاحقاً" المحددات لصيغ تشكيل الحكومة، التي يريدها "حكومة وحدة وطنية".هذا في ذات الوقت الذي رشحت فيه المعلومات من مداولات المقربين من أبو مازن _ قبل التئام مركزية فتح بعمان مؤخراً _ عن التداول بصيغة حكومة طوارئ مصغرة من التكنوقراط برئاسة أحد رموز الاقتصاد والمال، بصدد التوافق مع الإشارات والأحاديث المبهمة الصادرة عن أركان الإدارة الأمريكية، حول ترتيب الوضع الداخلي كخطوة على طريق المفاوضات العتيدة. وقد جاء البيان الصادر عن الاجتماع الأخير لقيادة "فتح" في عمان، ليحسم التوجه والرؤية الفتحاوية _ التي شهدت أكثر من رأي _ حول صيغة الحكومة المقترحة «حكومة وحدة وطنية».

وإذا كانت العبارات المتداولة تتشابه في توصيف الحكومة ومضمونها، إلاّ أن برنامج كل حكومة يتداولها بيان "فتح "أو "حماس" يحمل في بنوده رؤى مختلفة تماماً عن الآخر. و كان اللافت لنظر المراقبين إصرار بيان مركزية "فتح" على أن واحدة من مهام الحكومة الموعودة (التوجه للعالم من أجل فك الحصار الظالم المفروض على شعبنا من خلال التمسك بمبادرة السلام العربية) هذه المبادرة التي رفضتها حكومة العدو برئاسة "شارون" فور إعلانها، مما أوحى بولادتها ميتة. وهذا ما دفع بأمين عام الجامعة العربية مؤخراً للإعلان رسمياً «عن موتها».
 في ظل هذا الوضع "الملتبس" سياسياً، جاءت تصريحات أبرز المقربين لرئيس السلطة، لتدفع الوضع المرتبك أساساً، نحو حافة الانفجار، فبعد ساعات قليلة من انفضاض اجتماع مركزية "فتح" شن عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، المنتهية صلاحيتها "ياسر عبد ربه" هجوماً نارياً على الحكومة الفلسطينية، وعموم الوضع السياسي الفلسطيني، خلال مؤتمر صحفي عقده في "رام الله"، مشيراً إلى (أن الحديث عن حكومة وحدة وطنية ليس سوى أكذوبة، ولا أحد حقيقة يريد هذه الحكومة. واستمراراً لهذه الأكذوبة يقولون تارة إنهم يريدون حكومة فصائل، وتارة أخرى يقولون إنهم يريدون حكومة كفاءات). ولوضع النقاط على الحروف فإن الحكومة التي يريدها أحد مهندسي "وثيقة جنيف" سيئة الذكر، هي التي (توافق على قرارات الشرعية العربية والدولية والالتزامات التي تلتزم بها منظمة التحرير الفلسطينية أمام الجهات الدولية هذا بالإضافة لهدنة من أجل وقف العنف بين الفلسطينيين والإسرائليين) باختصار، إنه يريد حكومة تعمل من أجل الاستسلام الكامل لشروط حكومة العدو. وقد تزامن هذا المؤتمر الصحفي مع مقال نشرته صحيفة "الحياة الجديدة" الصادرة في "رام الله "للقيادي الفتحاوي "نبيل عمرو"تحت عنوان "هروب إلى العبث" وفيه مواقف نقدية حادة لقيادة"فتح" لطبيعة معالجتها لأزمات الفتحوية، ونظرتها للحكومة المقترحة و...مما دفع بالعديد من المتابعين للشأن الداخلي الفتحاوي لقراءة هذه المواقف، على أنها تعبير عن رؤية الرئيس ذاته.
 يأتي الحراك الداخلي الصاخب حول الحكومة وطبيعتها، قافزاً فوق المسألة الأهم والأساس، ألا وهي التوافق حول البرنامج السياسي، الناظم الحقيقي لكل التفاهمات والاتفاقات الممكنة. إن حسم قضية تشكيل الحكومة، يرتبط بماهية الرؤية السياسية /الكفاحية للمرحلة الراهنة على ضوء فهم طبيعة التناقض الأزلي بين الاحتلال والشعب المحتل، وفي ظل استحقاقات مرحلة ما بعد توقف العمليات العدوانية الأمريكية / الصهيونية ضد لبنان، والتي سطرت فيها المقاومة اللبنانية بقيادة "حزب الله " صفحات من البطولة والفخار، تصلح لأن تكون عبرة لجميع المقاومين العرب.

إن أية حكومة وحدة وطنية قادمة _ فيما لو تحقق ذلك _يجب أن تكون ملتزمة ببرنامج مقاومة
الاحتلال، والتصدي لكل عمليات "الأفخاخ" الأمريكية / الصهيونية التي يحاول نصبها دعاة «ما كان ينبغي حمل السلاح» و«ليس بالإمكان أفضل مماهو مطروح علينا».
إن حواراً وطنياً جاداً ومسؤولاً، يرتكز إلى برنامج سياسي / كفاحي يعمل علىتطوير الفعل المقاوم، ويوفر للشعب مقومات صموده، وعوامل استمرار حياته الكريمة، من خلال فتح الصناديق المالية للقوى والفصائل، واسترداد المليارات التي نهبها رموز الفساد، الذين يحرصون على استثمارها في أكثر من عاصمة، سيساهم في تخفيف معاناة المواطنين، وتقوية النسيج الاجتماعي للشعب. إن أية حكومة قادمة سيحدد البرنامج السياسي الذي تستند إليه مضمونها ومهماتها، وحينها فقط يمكن للجميع أن يعترف بها كحكومة وحدة وطنية أم حكومة إنتاج أزمات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
280