جبران الجابر جبران الجابر

روسيا الاستراتيجية والمواقف السياسية

تشغل السياسة الروسية حيزاً هاماً في نقاشات الفكر السياسي وفي مختلف وسائل الإعلام وقد تزايدت هذه الظاهرة بعد موافقة روسيا في مجلس الأمن على البيان الرئاسي، كما كانت تصريحات وزير الخارجية الروسي موضوع تحليل وتجاذبات فكرية خاصة بعد أن اشار إلى أخطاء ارتكبتها القيادة السورية في معالجة قضايا الأزمة، وفي الفترة نفسها كان هناك أكثر من تصريح روسي خرج عن نطاق المألوف السابق الذي درجت عليه التصريحات الرسمية الروسية في إبداء الآراء بشأن الأزمة وأهمية إيقاف إطلاق النار وإدانة العنف وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، وقد تركزت تصريحات روسية على حق الشعب السوري في اختبار حكامه وأن المصالح الروسية ليست مرتبطة بشخص معين.

وزاد لفت النظر للسياسة الروسية تصريح وزيرة الخارجية الأميركية التي قالت إن الخلافات مع الروس خلافات تكتيكية.
لقد ذهبت الآراء بنواحي متعددة، فمنها اعتبر أن التصريحات الروسية الأخيرة لا تتضمن جديداً في مواقف روسيا، ومنهم من قيم تلك المواقف بأنها تحولات سياسية بسيطة لا تلامس من قريب أو بعيد عمق السياسة الروسية، وذهب آخرون إلى رأي مفاده أن التصريحات الأخيرة «بداية الغيب»، وأن سلسلة المحطات في تغيير السياسة الروسية قد بدأت وتجاوزت نقطة الرجوع خاصة بعد إدانة الإجراءات الرسمية واعتبار أنها شددت الأزمة.
وما يهمنا أن التفكير السياسي السليم يميز بين الاستراتيجية الخاصة بالأزمة والتي وضعها الساسة الروس والتي باتت معروفة للقاصي والداني والتي من أهم أعمدتها عدم التدخل العسكري الخارجي وإيقاف العنف وإجراء الحوار الجاد وقد دعمت روسيا مهمة أنان لأنها متفقة مع توجهاتها الاستراتيجية.
أما المسألة الاستراتيجية الأخرى والتي تستند إليها الاستراتيجية الروسية في الأزمة فهي تتلخص بالمصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط والتي تحتل سورية فيها حلقة رئيسية بحكم عوامل عديدة من أبرزها معاهدة الصداقة والعلاقات الاقتصادية المتنامية وتسليح الجيش السوري واستخدام الموانئ السورية من  الأسطول الروسي.
تجدر الإشارة إلى أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي، إنها دولة رأسمالية تطمح إلى أن تكون فعلياً قطباً عالمياً ويجعلنا ذلك أن نقول أن الحلقة الأساسية في الاستراتيجية الروسية هي تأمين واستمرار المصالح الروسية والحيلولة دون أن تؤدي الأزمة إلى انتكاسات لتلك المصالح على غرار ما حدث في ليبيا.
ومن نافلة القول أن عدم التمييز بين الاستراتيجية من جهة والمواقف السياسية التي تتخذها روسيا من جهة أخرى أدى إلى أخطاء في تناول المواقف السياسية الروسية ومن الهام لفت الانتباه إلى أن الاستراتيجية تتسم بالثبات وتأتي المواقف السياسية لتأمين تلك الاستراتيجية وتحقيق أهدافها المعبر عنها بالمصالح الروسية إلا أن المواقف السياسية في ظروف الأزمة المتصاعدة والمتطورة والمتغيرة في معطياتها ومؤشراتها لا تدع مجالاً لثبات الموقف السياسي وجعله مفصولاً عن تطور الأزمة وتداعياتها، وقد جاءت الاجتهادات السياسية الأخيرة تعبيراً جديداً عن مؤشرات في تطور الأزمة وتفاعلاتها فروسيا لها مصالح استراتيجية في الخليج العربي ناهيك عن أنها تريد أن تبقى سمعتها إيجابية في الأوساط الجماهيرية في الدول العربية، وليس بمستهجن أن يذهب المرء باتجاه أن مسار الأزمة ومعالجتها لم يأت كما كانت التقديرات السابقة خاصة وأن احتدام العمليات العسكرية شدد من تأثير الأزمة وجعلها أكثر تصعيداً وما كان يمكن أن يكون علاجاً سياسياً في بداياتها لم يعد علاجاً شافياً بعد كل الذي شهدته سورية من تطور للصراع في مختلف المجالات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد أرادت روسيا بتصريحات ساستها في الفترة الأخيرة أن تحد من مفاعيل وتأثيرات الفيتو السلبية في أوساط جماهيرية وعند دول عربية عديدة أهمها دول الخليج خاصة وأن السعودية هي القوة الأساسية في دفع ملف الأزمة والمقترحات العربية إلى مجلس الأمن.
إن الأزمة السورية بكافة أبعادها تفرض على روسيا وغيرها مواقف سياسية جديدة، وليس بمستغرب أن تتطور الأزمة وتعصف رياحها وتزيح الكثير من المواقف السياسية الراهنة، إن إشارة أخرى لابد منها وهي أن تطور الأزمة أدى إلى تغيرات في المواقف السياسية عند الكثير من الدول بما فيها الدول العربية.
وإن تمسك روسيا بإيقاف العنف في سورية هو إدراك عميق