الحرب الدعائية النفسية.. وسقوط بغداد

في الوقت الذي يتزايد فيه غموض الحدود الفاصلة بين التسويق والمقالات الصحفية والتقارير الرسمية والتلاعبات العسكرية النفسية، فإنّ مرصد الدعاية يهدف إلى التعريف بالوسائل التي تستخدمها الوكالات الحكومية لممارسة نفوذٍ إيديولوجي على الأفراد وكذلك إلقاء الضوء على تواطؤ بعض وسائل الإعلام تجاه هذه التلاعبات.


نهاية أية حرب؟

لم يفلت أحدٌ من «إنزال» تمثالٍ لصدّام حسين في ساحة الفردوس ببغداد. لقد تمّ وصف هذا الحدث بالإجماع في الصحافة كرمزٍ لسقوط العاصمة العراقية. غير أنّه من المناسب إعادة وضع مشهد الجذل الجماعي هذا ضمن سياقه لالتقاط مساره الصحيح وطبيعته الحقيقية.

أفادت أول برقية لوكالة الأنباء الفرنسية بوجود تجمّع من الآليات العسكرية الأمريكية (حوالي دزينة منها، كما أوضحت رويترز) في الساعة الثانية عشرة وأربعين دقيقة بتوقيت غرينتش في ساحة الفردوس، قرب فندق فلسطين الذي يقطن فيه معظم الصحافيين الغربيين. لم تذكر وكالة رويترز إلاّ بعد ساعة وجود «جمهرةٍ من المؤيدين يبلغ عددهم عدة عشراتٍ من الأشخاص» (حولت وكالة أسوشييتد برس عددهم إلى «مئات المتظاهرين»).

ساحة الفردوس

تظهر صورةٌ كبيرة لساحة الفردوس الإخراج الذي تمّ: فالساحة محاطةٌ بالمركبات العسكرية الأمريكية، وتقتصر «الجمهرة» على بضع عشراتٍ من الأشخاص.

منذ بداية التجمّع، أخذت شبكة أسوشييتد برس التلفزيونية، وهي وكالة تصوير الفيديو الأمريكية، تصوّر عن قرب ساحة الفردوس وتنقل الصور على الهواء في شبكتها، كما لو أنّها تعلم بأنّ شيئاً ما سوف يحدث. إنّ واقع أنّ التظاهرة تتم قرب فندق فلسطين هي حقاً من حسن حظّ الصحافيين المائتين، الذين عدّتهم وكالة أسوشييتد برس، والذين سرعان ما تجمّعوا في الساحة. يمكن للمتظاهرين، الذين شخّصت قربهم وكالة أنديميديا عضواً في ميليشيا أحمد الجلبي (قوات العراق الحرة)، أن يباشروا الإخراج.

المشهد الأول:

الشعب العاجز لكن المندفع

متظاهرٌ يقترب من قاعدة التمثال ويبدأ بمهاجمته بواسطة مهدّة. العملية منذورةٌ للفشل، بل إنّها ذات طابعٍ مضحك، نظراً لحجم قاعدة التمثال. الأمر لا يهم، إذ أنّ هذه الصورة تجعل المشاهدين يستذكرون صورةً أخرى: صورة سقوط جدار برلين في العام 1989، حين أحضر كلٌ ممن شاركوا في تلك العملية مطرقته أو إزميله كي يهدم الجدار رمزياً. منذ برقياتها الأولى، لفتت رويترز انتباه الصحافيين الذين ربما لم يفهموا التلميح جيداً بأنّ «المشهد يذكّر بسقوط جدار برلين».

المشهد الثاني:

اللجوء إلى القوة الأمريكية

بعد أن حاولوا دون جدوى شدّ تمثال صدّام حسين بوساطة حبل، «يطلب العراقيون مساعدة دبابةٍ أمريكية، وهو ما يشكّل رمزاً داخل الرمز» وفق ما ذكرته قناة TF1 الفرنسية. لم تفت القيمة الرمزية للحدث على أحد، ولا حتى على القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية التي قالت: «حين لم يتمكن العراقيون من الوصول إلى هدفهم بمفردهم، وهنا قيمةٌٌ رمزيةٌ كاملة، طلبوا مساعدة دبابةٍ أمريكية». من حسن الحظ، تواجدت هناك دبابة أمريكية مجهزة للمناسبة بما يحولها إلى رافعة. الدبابة تقترب من التمثال.

المشهد الثالث:

تراجع الولايات المتحدة

يصعد إدوارد تشين، من الكتيبة الثالثة لقوات المارينز، على التمثال كي يربطه بالسلك المعدني، ويستغلّ الفرصة ليغطّي رأس التمثال بالعلم الأمريكي، الذي سرعان ما يتم استبداله بعلمٍ عراقيّ من أجل إظهار أنّ الأمريكيين يلجمون قوتهم المطلقة ويخلون المكان للعراقيين.

المشهد الرابع:

السقوط

يتم انتزاع التمثال من قاعدته. إنّه سقوط صدّام حسين وإعدامه رمزياً على يد المتظاهرين.

بسرعةٍ كبيرة، ينتهز أهم القادة الأمريكيين الحدث ويبرزون أهميته أمام الصحافيين الذين ربما لم يقدّروه حقّ قدره ولم يروا فيه سوى تدمير تمثالٍ على يد الجيش الأمريكي. ويشرح دونالد رامسفيلد بأنّ الأمر يتجاوز ذلك بكثير: «لا يمكن للمرء أن يمنع نفسه من أن يتذكّر سقوط جدار برلين وانهيار الستار الحديدي.» بعد أقلّ من ساعة، أبرز آري فلايشر، الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، أهمية ما حدث.

كان ردّ فعل وسائل الإعلام على مستوى الحادثة. فقد تناقلت كافة الشبكات الأمريكية المعلومة. وقام المبعوث الخاص لتلفزيون LCI بالتعليق على صور APTN على الهواء مباشرة، رغم أنّه لم يكن في موقع الحدث: «الشعب يهرع لإعدام التمثال». فيما بعد، وفي نشرة أخبار الثامنة مساءً على القناة الفرنسية الأرضية الثانية، أعلن ثانيةً بأنّ «الشعب» هو الذي «هرع لإعدام الرأس المصنوع من البرونز، وهذا رمزٌ آخر». ذلك على الرغم من أنّ تلك القناة الحكومية تأخرت في بثّها للخبر، وقد سنحت لمحرريها الفرصة بالضرورة كي يطّلعوا على برقية وكالة رويترز التي ذكرت بأنّ «الشعب» المذكور يقتصر عدده على بضع عشراتٍ من الأشخاص. 43

في اليوم التالي، لم تنج أيّة صحيفةٍ يومية من الصورة الصادمة، وتشهد على ذلك مجموعة الصفحات الأولى في صحف العالم كله يوم العاشر من نيسان. لقد مرّت الرسالة: مع هذا التمثال، فإنّ نظام صدّام حسين هو الذي سقط. لقد دامت الحرب واحداً وعشرين يوماً، وقد انتهت، وربحت الولايات المتحدة الحرب، وحررت العراقيين.

كيف أدار التحالف البريطاني الأمريكي المشهد

في نهاية آذار، طلب مكتب الاتصالات الكونية دراسةً حول الطريقة الكفيلة برفع شأن صورة التحالف في وسائل الإعلام الدولية. هذا المكتب يجمع كلّ يوم في البيت الأبيض المسؤولين الأمريكيين عن الدعاية وعبر الأقمار الصناعية أولئك المسؤولين الموجودين في مقر رئيس الوزراء البريطاني. لقد تمّ إنجاز التقرير المقدّم إلى المكتب على يد المجموعة التكتيكية للعمليات النفسية في قيادة قوات المدفعية الخاصة التي تتمركز في الكويت. وقد التقطته المخابرات الروسية ونقلته إلى الضباط الذين ينجزون بصفةٍ شخصية موقع iraqwar.ru

في هذا التقرير، خطّط مكتب الاتصالات الكونية لجمع سجناء الحرب العراقيين أمام الصحافة بحيث يبدو عدد المستسلمين كبيراً. وقد اقترح المكتب بصورةٍ خاصة إخراج مشهد «تحرير بغداد» و «تظاهرات فرح شعبي غامر» بشكلٍ يصحّح الصورة الاستعمارية للتحالف. وقد أنجز هذا الأمر بفضل مسرحية ساحة الفردوس.

إن كان هناك حربٌ قد انتهت في التاسع من نيسان 2003، فهي بالتأكيد ليست حرب الإعلام.