«رَشّ انبز»... بس على مين وليش؟

بين إنهاء طوني بلير زيارته الأراضي المحتلة والكيان الإسرائيلي، مقدماً لا شيء سوى الضغط على إصلاح السلطة الفلسطينية، التي «باركها» بلقائه رئيسها مستثنياً «خصمته» حماس، وبين إعلان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس ووزير الدفاع روبرت غيتس توجههما للمنطقة «للبحث (من ضمن قضايا أخرى) في الأفق السياسي» (المتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي)، يبرز الحديث عن «الاجتماع الدولي حول الشرق الأوسط» الذي دعا إليه بوش في الخريف المقبل.

بلير، وريث بلفور، و«الزعيم» الثاني للعدوان على العراق، والرئيس الجديد للرباعية الدولية، بصلاحيات حددها له شقيقه الأكبر الأمريكي بإصلاح السلطة الفلسطينية، وليس بمعالجة قضية السلام، قال في مستهل زيارته، إنه جاء «ليسمع ويتعلم ويدرس» (مسكين جاهل لا يعرف خلفيات ووقائع وسبل إنهاء صراع عمره ستون سنة تقريباً، وهو الذي أمضى السنوات العشر الأخيرة من عمره على رأس الحكومة البريطانية!!). وبرر خلو وفاضه، بحكم محدودية سلطاته، بأن «الخطوات نحو السلام تتطلب وقتاً»، لتأخذ زيارته عملياً اتجاه تكريس الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني عبر دعم طرف في ذاك النزاع على حساب الآخر، مع انتزاع المزيد من التنازلات من الطرف الأول ضمن محاولة كسب الوقت، وتمييع الأمور أكثر فأكثر، لمصلحة اجتماع الخريف المذكور.
وهنا «مربط الفرس»، فمن ناحية قد تبدو شكلية، لكنها ليست كذلك من ناحية الطابع القانوني للإلزام والالتزام، فقد تحدث بوش عن «اجتماع» دولي يحضره الفلسطينيون والعرب والإسرائيليون، وليس عن «مؤتمر»، وقدم ذلك بلا إطار ولا مرجعية، ضمن مسعى واضح للتنصل من كل الاتفاقات والمرجعيات السابقة في سياق القضم المستمر للحقوق العربية والفلسطينية، مع الخفض المستمر لسقف المطالب المبنية على أساس تلك الحقوق المقرة في «شرعة» الأمم المتحدة «التي أكلها حمار بوش» (الاستعارة من مسرحية غربة).
ومن أجل تكريس الانقسام الفلسطيني، والمضي بمنطق «رش الانبز» (بالعامية)، أو ذر الرماد في العيون، كثر الحديث عن «مبادرات إسرائيلية» يجري تسويقها على أنها مكاسب لمحمود عباس، وتتمثل في «الاستعداد لبحث إقامة الدولة الفلسطينية على 90% من الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع» بما يتضمنه ذلك من «استعداد» إسرائيل لمبادلة المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية بقطع من أراضي 1948، أي تفكيك كتل استيطانية (ولكنها صغيرة) في أراضي فلسطين 1948، مكتظة بالسكان العرب، الذين لم تستطع عمليات التهويد الواسعة احتواءهم، مقابل الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، ولكن بعد إخلاء مناطق تلك المستوطنات من العرب الفلسطينيين.
وبينما جاء «رد الجميل» على هذا «الكرم» الإسرائيلي من «الطارئ» سلام فياض، رئيس حكومة الطوارئ الفلسطينية بصيغة إعلانه «التخلي عن حق عودة الفلسطينيين»، مطمئناً «إسرائيل» من هذا «القلق»، يبرز الأخطر في دعوة بوش، وتصريحات بلير، وهو تجاهل وتجميد طرح مسألة الجولان كلياً، في رد غير مباشر، فيما يبدو، على تفنيد الرئيس بشار الأسد لمزاعم السلام الإسرائيلية، عندما طالب بوديعة تشبه «وديعة رابين» إثباتاً للجدية.
ولأن «الجدية» الإسرائيلية موجودة، ولكن باتجاهات عدوانية، فقد ذهب الأمر بحاييم رامون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن زعم أن «إسرائيل أخذت الجولان فارغاً في عام 1967»، قافزاً فوق الأرقام التي تؤكد أن عدد المهجرين من المواطنين السوريين آنذاك بلغ 145 ألفاً، (ووصل عددهم حالياً إلى نصف مليون تقريباً)، وأن عدد المدن والقرى والبلدات والمزارع الجولانية التي استولى عليها الإسرائيليون بلغ 139، بقي منها خمس لم يهجر سكانها البالغ عددهم حالياً عشرين ألف عربي سوري.
فإذا كانت المسألة «رش انبز»، فإن السؤال المطروح هو على من؟ والجواب هو أن القضايا وأطرافها واضحة، ولكن المسألة هي مسألة وقت.
عامل الوضوح يتصل بمسار الاستقطاب المستمر في المنطقة بين فريقين ومشروعين، وليس أدل على ذلك من اجتماع دمشق الرباعي الذي ضم «محور» مقاومة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة (الرئيسان السوري والإيراني وزعيميا حزب الله وحماس)، وما تلاه من كثافة التحركات، من وإلى «الرباعي» المقابل (مصر السعودية الأردن والسلطة الفلسطينية).
وفي هذا السياق جاءت زيارة بلير التي توسعت لدول الخليج، وتوجه عبد الله الثاني إلى بوش، وتوجه وزيري خارجية مصر والأردن إلى تل أبيب، والإعلان أن رايس وغيتس سيلتقيان نظيريهما (في مصر والسعودية) «لمناقشة الطريقة التي يمكن أن تساعد عبرها الدول المجاورة للعراق في تقدم قضية الأمن والاستقرار في هذا البلد» حسب الناطق باسم البيت الأبيض، الذي أوضح أن رايس ستلتقي في شرم الشيخ بشكل منفصل نظراءها في مجلس التعاون الخليجي، والأردن ومصر «لإجراء مشاورات حول مسائل إقليمية» (أي الوقوف على آخر الاستعدادات السياسية واللوجستية للعدوان على إيران و/أو سورية و/أو لبنان). ثم تتوجه رايس بمفردها إلى القدس ورام الله لتبحث مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين سبل مقاربة «الأفق السياسي» (للاستمرار في التضييق على حماس والشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية عموماً).
ويبدو واضحاً أن كثافة هذه التحركات، من باب زيادة الضغط الأمريكي على «الأتباع»، تتوجس من عامل الوقت، الذي أشار إليه بوضوح الرئيسان الأسد ونجاد في دمشق عندما تحدثا تباعاً عن «الأشهر الحاسمة المتبقية من السنة» و«الصيف الحار»، ناهيك عن تأكيد نصر الله أن «المقاومة اللبنانية سبقت الإسرائيليين في تقييم نتائج الحرب» ومفهوم أن ما يهم إسرائيل والولايات المتحدة هو الجانب العسكري في ذلك كله.